قاطعتُ الأخبار والبرامج السياسية على شاشة التلفزة منذ شهور، ولم يعد شيءٌ يجذبني إليها. لقد انتهى عبد الإله بنكيران وانتهت معه قفشاته السياسية المثيرة، وأُخمِد الحراك الشعبي بحد العصا والعجلات. عادت الرتابة من جديد إلى الحياة السياسية، وعاد الملل إلى الأخبار المسائية. دفنت رأسي بين دفات كُتبي، وحاولت أن أنسى بأني مثقّف وأنه عليّ واجبات نحو الوطن والمجتمع. انتبهت من غفلتي على ضجيج وصخب شديدين في وسائل التواصل الاجتماعي. لقد قام مجموعة من الفيسبوكيين بإعلان التمرد على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ونادوْا بمقاطعة منتوجات بعينها، تُمثل في نظرهم قمة الاحتكار والهيمنة. ظننت لأول وهلة أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مشاكسة بريئة من شباب يائس منسيٍّ يريد أن يُعْلِمَ بوجوده. لم يكن الأمر كذلك بتاتا. لقد كان فعلا حضاريا مسؤولا عبّر عن غضبة شعبية متنامية انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، تُهَدِّد أصحاب المصالح الكبرى بإحراق كل من يقف في وجهها. نوع جديد من المواجهة لا يضطر فيه المحتجّون إلى النزول إلى الشارع وإلى الاصطدام بقوات الأمن؛ وهو أمر يؤدي، في غالب الأحيان، إلى الاعتقال ثم إلى المحاكمات الطويلة التي لا تنتهي. المواجهة هذه المرة ليست مع المخزن فقط وإنما هي مع رجال المال والأعمال أيضا؛ ولكن من هم هؤلاء الذين بادروا إلى هذه الحملة، حملة المقاطعة؟ من هؤلاء الذين تجرأوا على الدولة وعلى غِيلَانِ المال والأعمال؟ قال عنهم رئيس الحكومة بأنهم أناس مجهولون، وقال عنهم وزير المال والاقتصاد بأنهم مجموعة مداويخ، وقال عنهم الوزير الملتحي صاحب الزيّ الأنيق والنظارات السوداء وزير الشغل بأنهم مواطنو الزنقة، ووصفت البرلمانية الاشتراكية المصونة مؤيّدي المقاطعة بأنهم قطيع. واعتبر وزير البر والبحر بأن حركة المقاطعة مجرد لعبِ أطفال. صفات ونعوت أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها تنمُّ عن استكبار واستعلاء، وتكشف عن جهل قائليها وعن قلة خبرتهم بالسياسة وتدبير الأمور وأنه كان من الأجدر بهم أن يختاروا لأنفسهم خبراء في التواصل حتى يتفادوْا مثل تلك السقطات. ربما كان في ظن هؤلاء أن الشعب شعب ميت، وأنهم مجرد أرقام وقطيع من المداويخ تحت نِعال أحذيتهم. تلقف الفيسبوكيون تلك الصفات المشينة والنعوت القبيحة واستعملوها وقودا لحملة المقاطعة، وأكدت في الوقت نفسه الهُوّة الكبيرة التي هي بين الشعب وبين حُكّامه؛ ولكن من الذي تسبب في هذه الهُوّة؟ إنها بطبيعة الحال الأحزاب التي تخلت عن أدوارها المنوطة بها من تأطير الفئات الشعبية سياسيا وتمثيلها في المحافل الرسمية والوقوف إلى جانبها دفاعا عن مصالحها، وتركت الشعب لمصيره المحتوم. لقد عرّت مفاوضات تشكيل الحكومة بعد انتخابات أكتوبر 2016 عن حقيقة هذه الأحزاب التي تحولت إلى دكاكين تبيع خدماتها لمن يدفع أكثر، وتناست أنها من الشعب وإلى الشعب، وأنها بدونه لا تساوى شيئا. لقد تحول زعماؤها إلى دُميات تُحركها أصابع عمالقة المال والأعمال. والحزب الذي أشهر لواء محاربة الفساد تراجع عن وعوده التي قطعها على نفسه، بعد أن تسلّم مقاليد الحُكم. لجأ إلى الرُقية خوفا من العفاريت والتماسيح، وعمد إلى الزواج الأبيض مع حزب المال والأعمال، تنازل الحزب وأقّر بالخنوع وأضاع الأمانة التي أوصى بها الله والرسول. لم يكن ذلك عن نية مبيتة أو سبق إصرار وترصد وإنما عن قلة خبرة بتسيير شؤون البلاد وثقة عمياء في أناس همهم ربح المال أولا وأخيرا. كان الحراك الشعبي في الريف وجرادة وزاكورة وفي مناطق أخرى نتيجة حتمية للترّدي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي عرفته البلاد قبل الانتخابات وبعدها. وفي مواجهة كل حراك، كان يُتركُ الأمر كله لوزارة الداخلية لتدبير الأزمة، وبذلك تُصبح الحكومة كلها مُختزَلة في وزارة الداخلية، تتصدى لإرادة الشعب في التغيير. فهل أخطأ هذا الشعب حين جدّد ثقته في حزب المصباح وقدمّه على باقي الأحزاب مرة أخرى؟ يجب أن نُقّر بحقيقة مُرّة وهي أننا جانَبْنا الصواب حين اخترنا هذا الحزب لقيادة الحكومة، وأن نعترف بأن اختيارَنا لم يكن ناتجا عن نظرة متعقلة للأمور وإنّما عن نظرة ساذَجة؛ فالشعب المغربيُّ شعبٌ متدينٌ ينساق وراء الخطاب الديني، انْفعاليٌّ يستهويه الخطاب الشعبويُّ الذي يُدغدغ المشاعر ويُطمئن القلوب. لقد أدركنا متأخرين أن حزب المصباح لم يكن ناضجا بعدُ ليأخذ بزمام الأمور، وإلا كيف نفسر تخليه عن دوره في تشكيل الحكومة وخضوعه لإملاءات حزب رجال المال والأعمال؟ بل كيف نفسر التراجعات الخطيرة في المواقف والسياسات التي تعاقد عليها مع الشعب مقابل ضمان كرسيّ رئاسة الحكومة وتثبيته؟ ألم يكن من الأشرف لهؤلاء الاستقالة فيُريحون ويستريحون؟ لم تأتِ المقاطعة من فراغ، ولا هي نزوة شباب طائش. إنها تعبير عن احتقان شعبيٍّ بلغ مداه، من وضع اجتماعيّ واقتصاديّ كارثيّ، لم تستطع معه الحكومة الاهتداء إلى حلول مُرضية تُخفف من وطأة الغلاء والبطالة وتردّي الصحة والتعليم. تركت الحبل على الغارب لأرباب الشركات العملاقة حاملي لواء الرأسمالية المتوحشة، يحددون السياسات الاقتصادية التي تتناسب ومصالحهم. فكرة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي فكرة بسيطة في حد ذاتها إلا أنها أثبتت نجاعتها كوسيلة فعالة في إيصال صوت الشعب إلى من يهمهم الأمر، بل إلى العالم. ميزتها سرعة الانتشار وشدة التفاعل بين مستعمليها. ولقد رأينا النتائج الباهرة التي حققتها هذه الوسيلة إِبّانَ ثورات الربيع العربي. صحيح أن كلا من تونس والجزائر قد سبقتا إلى فكرة المقاطعة ولكن اللافت للانتباه هو الأثر المُزلزل الذي أحدثته المقاطعة في المغرب. لا يُعلمُ، إلى حد الآن، من هي الجهة التي أطلقت هذه المقاطعة. وهنا يمكن لأي واحد منا أن يُطلِق لخياله العِنان في محاولة تحديد المصدر. هل الأمر يتعلق بمجرد شباب متمردين أرادوا الاستنجاد بالشعب، على غرار ما فعله شباب آخرون في دول عربية مختلفة تعاني من الأوضاع نفسها؟ أم هي من فعل لوبيات تتصارع فيما بينها من أجل السيطرة على الاقتصاد؟ أم الأمر يتعلق بمؤامرة خبيثة حاكها حزب ضد حزب آخر لا يريد له النجاح؟ أم الأمر يتعلق بلعبة خطيرة تديرها جهات خفية تريد أن تبقى لها الغلبة دائما؟. كل الافتراضات ممكنة ومقبولة ذهنيا. يمكن أن نفترض أن شبابا لجأوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها المتنفس الوحيد المتبقي للتعبير، وأن الشعب استجاب بقوة لنداء المقاطعة بفعل الاحتقان الذي سببته الأوضاع الاجتماعية المتردّية، وأنه وَجد في وسائل التواصل الاجتماعي حلا مثاليا يجنبه الاحتكاك بقوات المخزن من جهة وفرصة سانحة للتعبير عن رفضه من جهة أخرى.. وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نعترف بأن الشعب المغربيَّ قلَب كل الموازين والحسابات، وأنه شعب حيٌّ متيقظٌ له كلمته الأخيرة فيما يقع بل إنه أصبح طرفا مهما وركنا أساسا فيما يُستقبلُ من السياسات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان الشعب، أي شعب، قوة ضاربة قد تعصِف بأي شيء في طريقه، مهما كانت قوة هذا الشيء وجبروته، فإنه في المقابل قد تستغل بعض الجهات المشبوهة هذه القوة التي يمتلكها الشعب في التغيير وتحوّلها لصالحها. الجميع يعرف أن في المغرب لوبيات تتحكم في الاقتصاد وتسيطر من خلال شركات عملاقة تابعة لها على السوق التجاري. هذه الشركات لها حصة الأسد في الإنتاج والتوزيع مما قد يثير حفيظة شركات أخرى تعاني من ضعف التسويق والتوزيع. لقد استهدفت المقاطعة ثلاث شركات بعينها هي سنطرال دانون وإفريقيا غاز وسيدي علي للمياه المعدنية. ويبقى السؤال المُحيّر هو لماذا هذه الشركات بالضبط؟ وما الأسباب أو بالأحرى المعايير التي أدت بشباب الفايسبوك إلى انتقاء هذه الشركات الثلاث دون غيرها؟ هل الأمر يتعلق بجودة المنتوج؟ أم بغلاء الأثمنة؟ أم أن الأمر يتعلق بالاحتكار والهيمنة على السوق؟ فإذا كان معيار الجودة هو الذي حكم بالمقاطعة، فإن حليب الشركات الموجودة في السوق هو ماء وزغاريت، معبأ في علب تفوح منها رائحة مسحوق الحليب المستورد بآلاف الأطنان من الخارج. وأما بالنسبة إلى المحروقات فإنه لا يستطيع أحد من المواطنين أن يجزم بجودة بنزين هذه الشركة أو تلك لفقد شرط الخبرة والعلم بالشيء. وأما بالنسبة إلى جودة المياه المعدنية فالمغاربة جميعا يعلمون علم اليقين بأن المياه المعبأة في القنينات لا تعدو أن تكون مياه الروبيني مصفاة بتقنيات حديثة. وأما إذا كان الدافع إلى المقاطعة هو غلاء الأثمان، فسنطرال دانون لم ترفع من ثمن الحليب منذ سنة 2013 وظل مستقرا في سعر سبعة دراهم لا يتجاوزها وهو السعر نفسه عند باقي شركات الحليب الأخرى. وتبيع إفريقيا غاز منتوجها للمستهلكين بالسعر نفسه تقريبا الذي تبيع به باقي شركات المحروقات الأخرى. والأمر نفسه يسري على شركة سيدي علي وباقي شركات المياه المعدنية. فإذا كان الأمر متعلقا بغلاء الأثمان فلماذا لا نقاطع الشركات دون استثناء حتى لا نأتي على شركة دون أخرى. يبقى السبب الوحيد في رأينا الذي أدى إلى المقاطعة هو الاحتكار والهيمنة على السوق، وهذا أمر واقع يعاني منه الشعب والاقتصاد على السواء. هناك شركات، ومن بينها الشركات المقاطَعة، تستحوذ على حصص كبيرة في السوق كلٌ في مجالها؛ فشركة سنطرال دانون كانت إلى وقت المقاطعة تستحوذ على 60 في المائة من سوق إنتاج الحليب وتحت يدها أكثر من 120 ألف فلاح يُمدونها بمنتوجهم، وتُسيطر شركة سيدي علي على الحصة نفسها تقريبا من سوق المياه المعدنية كذلك. أما شركة إفريقيا غاز فبالإضافة إلى انتشارها الكثيف في المدن وفي مختلف الطرق السيارة فإنك تجدها محاذية لأسواق تجارية ممتازة أيضا. الاحتكار والهيمنة يخنقان الاقتصاد ويقتلان روح المنافسة. فلا تستطيع الشركات الأخرى بلورة صناعتها ولا تطوير سبل إنتاجها فتضطر إلى العمل بطاقات محدودة حتى لا تتعرض إلى الإفلاس وإلى مضايقة الشركات العملاقة لها. ولكن ما الذي يؤدي بهذه الشركات إلى الاحتكار والهيمنة على السوق؟ يقول المثل المصري: "ما الذي فرعنك يا فرعون؟ أجاب فرعون: لم أجد أحدا يمنعني".. هذا المثل ينطبق تماما على واقعنا الاقتصادي ويُجسِّد بوضوح العلاقة التي تربط حكومتنا بالفاعلين الاقتصاديين أصحاب اليد الطولى في كل شيء. من المفروض أن الذي يمنع هذه الشركات من الاحتكار والهيمنة هي الحكومة التي عوض أن تُفّعل الآليات الضرورية التي تضمن المنافسة الشريفة التي بدورها تقف سدا منيعا ضد الاحتكار وصمّام أمان لحماية القدرة الشرائية للمواطنين، وجدت نفسها مكتوفة الأيدي مشلولة التفكير ومنزوعة الإرادة أمام إملاءات صندوق النقد الدولي وعبث غِيلان المال والأعمال باقتصاد البلاد. كيف لا تكون الحكومة كذلك وآثار التصدع وعدم الانسجام بين أعضائها واضح للعَيان؟ أغلبية حكومية من ستة أحزاب على الأوراق وحزبين فقط على أرض الواقع. حزب يسود ولا يحكم وحزب يحكم ولا يسود. حزب استولى على أهم المناصب الوزارية الإستراتيجية في المال والاقتصاد وميادين أخرى، يأمر فيها وينهى كما يشاء، وحزب تلّهى بمنصب رئاسة الحكومة ووزارات أخرى أقل ما يُقال عنها أنها وزارات المتاعبِ. توليفةٌ حكومية ناشز، العصمة فيها بيدِ وزراء هم إمّا أرباب شركات عملاقة أو مساهمون فيها بحصص كبيرة من الأسهم. فاجتمع لديهم بذلك المال والسلطة، وهما مُغذيان أساسيان للاحتكار والفساد. لا يمكن لرجل الأعمال أن يدخل معترك السياسة ويتقلّد المناصب العليا في الدولة إلا إذا كان من وراء ذلك مصالح يريد تحقيقها؛ فرجل الأعمال لا يُؤمن بالمصلحة العامة وإنما يُؤمن بمبدإ الربح والخسارة فقط، وإذ ذاك تتحول السلطة في يده إلى وسيلة ناجعة تُذلل له الصِعاب وتُسّهل عليه الوصول إلى مُبتغاه وهو الحصول على أكبر قَدر ممكن من الأرباح. وإذا اقتضى الأمر تُصبح السلطة قوة رادِعة لكل معارض أو مناهض سياسيٍّ كان أو إعلاميٍّ، ولكم في بنكيران وبوعشرين عبرة يا أولي الألباب والغاية عند هؤلاء تُبررُ الوسيلة. أربكت المقاطعة الجميع وخلطت كل الأوراق، وظهرت خصما عنيدا للأسياد الجُدد. اضطربت الحكومة وأصابها التخبط، وبدل أن تقف مع الشعب في مطالبه بتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الاحتكار، اصطّفت مع الشركات الكبرى وانبرى وزراؤها للدفاع عنها وعن مصالحها؛ فهذا يُهدد بمراجعة قانون العقوبات لزَجرِ المُقاطِعين، وذاك يُصبح لسان حال إحدى الشركات المقاطَعة بل لا يتردد في الاحتجاج وسط عُمّالها وترديد الشعارات المُندّدة بصمت الحكومة وتَسَيُّبِ الشعب. وصدق المثل المغربي الذي يقول : "لي تعزيه عزيه في عقلو". وحارت الشركات المتضررة من المقاطعة في إيجاد الحل الذي تُرضي به زبناءَها المقاطعين؛ فهذه شركة سنطرال دانون تعتذر عن وقاحة أحد مسؤوليها وتقدم عروضا استثنائية بأثمان مغرية تارة وتهدد بطرد عمال الشركة والتوقف عن جمع الحليب من الفلاحين تارة أخرى، وهذه شركة المياه المعدنية تتودد إلى زبنائها وتَعِدُ بتشغيل شباب منطقة منبع عين سيدي علي تارة وتشترط في مقابل خفض أثمانها خفض الدولة للضرائب المفروضة عليها تارة أخرى. وأما إفريقيا غاز فقد سكت صاحبها عن الكلام المباح وصبر على الخسائر الفادحة وركن جانبا يَرقُبُ ما تَؤُولُ إليه الأحداث. استيقظت أحزاب المعارضة من سباتها العميق ونزعت عنها طاقِية الإخفاء واستغلت المقاطعة للنَيْلِ من خصومها في الأغلبية الحكومية، فسارع زعماؤها إلى وسائل الإعلام يُنددون ويستنكرون غلاء الأثمان وفشل الحكومة في تدبير الشأن العام. حتى الأحزاب الصغيرة منها غير المُمَثَلة في البرلمان استأسد زعماؤها ولم يفوِّتوا الفرصة لصبِّ الزيت على النار، أملا في استمالة أصوات الناخبين إليهم علَّهم يَظفَرون في الانتخابات التشريعية المقبلة بمقعد أو مقعدين في البرلمان. بذلك كله تكون المقاطعة قد كشفت عن واقعٍ سياسيٍّ فوضويٍّ واقتصاد يخطو بخطوات حثيثة نحو الرأسمالية المتوحشة، تنتفي معه أي علاقة بين الفاعلين الاقتصاديين والشعب، فعبّرت بذلك عن تجربةٍ شعبيةٍ رائدةٍ في الدول العربية بل وفي العالم بأسره إلا أنها بالرغم من كل ذلك تبقى سلاحا ذا حَدَيْنِ فقد تكون سلاحا دفاعيا رادعا لكل استبداد أو هيمنة واحتكار، ما دام هذا السلاح في يد الشعب وهو المتحكم فيه. يعرف متى يستعمله وضد من يُوّجهه. وقد تكون المقاطعة سلاحا خطيرا في يد لوبيات سياسية واقتصادية، تستعمله للنيل من هذه الشركة أو تلك، أو للإطاحة بهذا الحزب أو ذاك. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي البديل عن الأحزاب الوطنية، وهذا أمر خطير بل إنه بالغ الخطورة، ذلك أنها فضاء واسع شاسع غير محدود وغير منظم يَلِجه الصالح والطالح. الكل يُصبح فيه محللا سياسيا وعالما اقتصاديا ومصلحا اجتماعيا ومناضلا ثوريا. والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده وخرج عن السيطرة. نحن لا يُمكننا أن نكون إلا مع المقاطعة لأنها أخر سلاح المقهور في مواجهة غيلان السلطة والمال؛ ولكننا لن نقبل أبدا أن تنحرف هذه المقاطعة عن مسارها المرسوم لها وهو خدمة مصلحة الشعب أولا وأخيرا. من منا يكره أن تزدهر الشركات المغربية الكبرى، وتتوسع في المغرب وخارجه، وأن تحقق أرباحا طائلة؛ ولكن بشرط أن تكون هذه الشركات الكبرى شركات مواطِنة، تُسهم في بلورة الاقتصاد الوطني، وتأخذ بعين الاعتبار المستهلك المغربي وتمكّنه من العيش الكريم، فلا يُحسّ بأنه مجرد رقم أو عبد في خدمة الأسياد الجدد.