يا للمفارقة.. الزعيم الذي كان ينعت شعبه بالجرذان وُجد مقتولا في أنبوب لمجرى المياه لا يختبئ فيه غير الجرذان.. حياة القذافي، كما موته، كلهما مفارقات لا حصر لها، لكن ثوار ليبيا وضعوا أمس نهاية على طريقتهم لقصة القذافي ونظام حكمه الذي استمر لأكثر من أربعة عقود. رصاصة في الرأس وحدها أقنعت القذافي بأن اللعبة انتهت، وأن ليبيا طوت صفحة زعيم أرهقها بأحلامه وأساطيره وشطحاته وعنفه الذي فاض على حدود بلاده وامتد خارجها فكلف ليبيا فاتورة ثقيلة من الأرواح ومن المال ومن الاحترام بين الأمم، صار المعارضون كلاب ضالة والمطالبون بالديمقراطية جرذان والمنادون بالحقوق خوارج يقتلون على ناصية الشوارع التي تهتف بحياة الزعيم كل مساء. شاب عسكري من البادية عمره 27 سنة لم يكمل تعليمه وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب سهل على ملك طيب طاعن في السن، سلم له قيادة بلاد شاسعة في بطنها كنز من النفط، فتصور نفسه نبيا صاحب رسالة عظيمة وهكذا ضل القذافي وأتباعه الطريق ولم يعرفوا كيف يصنعون من ثروة البلاد مصدرا لسعادة ورفاهة شعب صغير، فراحوا يبددون المال شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.. مرة على البؤر الثورية في أوربا وآسيا، ومرة على أحلام القومية العربية، ومرة على أماني الجامعة الإسلامية، وأخرى على الوحدة الإفريقية التي يسوسها ملك ملوك القارة السمراء بلا خجل ولا وجل من التاريخ ومن العقل... بعد أن تنتهي ليبيا من أعراس الفرح ومظاهر البهجة إثر انهيار حكم الدكتاتور، ستجد نفسها أمام سؤال صعب ومحير وربما جارح: كيف استطاع شعب كامل أن يصبر على دكتاتور يقتل كما يلعب، ويبدد المال كما لو كان مراهقا ربح ثروة من القمار، ويهذي كما لو أن مستمعيه بلا عقل... كيف يصبر شعب على حاكم مثل هذا لمدة 42 سنة، وهو يرى العصر من حوله يتطور، والحكام يتغيرون، والشعوب تتقدم؟ إنه الخوف والطمع. الخوف من بطش كتائب القذافي، والطمع في التقاط الفتات الذي يسقط من يد الزعيم وهو يصرف الأموال على نزواته وبذخ عائلته ومخططات أوهامه. الفرح العارم الذي عم الشارع العربي والليبي، والعالمي حتى، هو ثاني أهم حدث بعد مقتل القذافي. إلى هذه الدرجة كان القذافي ثقيلا على قلب وعقل شعبه وباقي شعوب العالم، وهذا أكبر درس للحكام العرب اليوم، الذين يتابعون ما يجري لعميدهم في جامعة الدول العربية... لم يعد أحد يستطيع أن يحب أو يخاف أو يحترم زعيما يحتكر السلطة ويحتقر الشعب والديمقراطية. الدكتاتورية عملة لم تعد صالحة للتداول لا في الأسواق العربية ولا العالمية، والعقيد، الذي قُتل على يد الربيع العربي أمس، ليس الوحيد من بين الحكام العرب من كان يحكم بلاده بقبضة من حديد.. صحيح قبضته وقبضة صالح والأسد وبنعلي كانت خشنة، فيما الآخرون مازالوا يحكمون بقبضة ناعمة، لكن المنطق نفسه أصبح مرفوضا.