لعل الكثير من المواطنين في بلدي، الذين تضامنوا مع موت بائع السمك محسن فكري بطريقة تشبه مصاصي الدماء وأبطال أفلام "الزامبي"، التي اشتهرت في أمريكا في السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين، قبل سنتين، لم يكن تعاطفا معه وفقط، لم يكن رفضا لأن تزهق روح تبحث عن لقمة عيش، على رصيف الشارع، رصيف الحياة، بتلك البشاعة. بل كان الأمر، إلى جانب التعاطف، رفض لممارسة الطاحونة الكبرى التي تتسع دائرتها يوما بعد يوم، فالوطن، صار طاحونة مجنونة لا تبقي ولا تذر، الوطن غدا طاحونة وَحَبُّ رحاها هم الفقراء والمهمشين، هم السواد الأعظم في هذا المغرب الأقصى، هذا المغرب الأقسى... أما أرباب الطاحونة فيتفرجون على "طحين" الشعب في ساديَّة هتليرية... ليطرح السؤال الفأس، كم عدد المطحونين في هذا البلد؟ وإلى متى سيستمر هذا الطحن...؟ كم من تلميذ طُحِن حقه في أن يجد مكانه في المدرسة، وكم عدد الأقسام التي تُرتِّب تلاميذها في حجرات بئيسة وكأنهم في علب سردين؟ كم من النساء والأطفال المنسيين في الجبال والدواوير المعزولة، متروكين لغطرسة الطبيعة، معلقين بين برد لا يرحم، أو صهْدٍ لا يرحم، حتى لَتغدو كل أحلامهم، مدفأة وكسرة خبز تسكت البطون المحتجة؟ أو بيت يقيهم حر الشمس، وعهر الشارع... كم من العمال الذين تقتل إنسانيتهم تدريجيا، ويصبحون مع مرور الوقت."ربوهات" بليدة، تشتغل ليل نهار في شركات أجنبية، بدراهم لا تكفيهم حتى ليعيلوا أنفسهم، فكيف بذويهم؟ إنها أسئلة ما عاد المواطن يطرحها، لأنها موجعة، ولأن أنياب الطاحونة لا ترحم، وتغتال كل من قال "لا" ... كم من المعتقلين الذين نسوا في الزنازين حتى تعفنت أحلامهم، وتأكسدت انتماءاتهم لهذا الوطن/ الطاحونة؟ إنها الطاحونة الوطن، أو الوطن الطاحونة، تُفقر وتُجهل، كي نبقى حطَبها ووقودها، فإن كان "فكري" بائع سمك "بو سيف" يعرفه، فإن شريحة كبيرة من الشعب ما كانت تسمع بهذا الاسم قبل الحادثة، وشريحة أكبر كانت تسمع به، لكنها كانت تدرجه في خانة الحلال/المحرم، الممنوع، لأن دراهمنا الحقيرة لا ترقى لشراء سمكة واحدة منه، نحن البلد الذي يتمتع بثروة بحرية تصل إلى 3500كلم، لا نعرف من الأسماك سوى، السردين، الشرن، كابايلا، يعني، كل ما لا يتجاوز ثمنه 20 درهما، حتى إن الواحد منا، لَيَتَجنب أن يمر بجانب "مارشي الحوت"، كي لا يحس كم هو جيبه فقير... هذا حال المغاربة مع سمكهم، السمك الذي ذهب بروح شاب ثلاثيني، بصورة تجعلك أمام كوابيس مزعجة بعد مشاهدتها...، السمك الذي كان سببا في احتجاج شباب لم يرض عن واقع أليم، فوزعت "العدالة" سنوات طويلة من السجن، حتى ليخيل إليك، أنها لن تنهي.. الوطن الطاحونة، هذا هو الوصف الذي يليق ببلدي، ولقد تعلمنا، وبُرمجنا أن نكون "مازوشيين" أي، أن نحب الوطن رغم كل هذا الظلم والحيف، أن نقول، سمعنا وأطعنا، أن نقول عاشت الطاحونة، أن نشاهد في قنوات تافهة برامج للطبخ، لا يعرفها أكلاتها السواد الأعظم من الشعب، فقط نشاهدها ولا نعرف حتى نطق أسمائها، ونترك لخيالاتنا المعطوبة/ المكبوتة، أن تتلذذ بها في الحلم... نحن الذين نعدُّ الدراهم عدّا، قبل أن ندخل السوق، لا نطرح السؤال المزعج: هل نحن فقراء قدرا؟ هل الله هو الذي حرمنا من أن نحصل على حصتنا في ثروات بلدنا...؟ موت محسن فكري، واعتقال المناضلين في كل من جرادةوالحسيمة وغيرهما، ما هو إلا صورة صغيرة لطاحونة عملاقة، تطحن كرامة المواطن في المستشفيات، في النقل، في التعليم، في الشغل، وفي كل شيء، طحن بنظام المداومة، حتى أننا أَلِفنا أن نكون حبوب الطاحونة الكبرى، وحين جاءت واقعة سماك الحسيمة، وقبله مي فتيحة، ولحقهما شباب الريف صدمنا سؤال استشرافي: من المطحون القادم، أنا أنت، أم ...؟ * أستاذ وباحث جامعي