آهٍ يَا حُسيمتي خزَاميّةِ الطِّيبِ، والطِيبَةِ، والرّائحة الزكيّة.. آهٍ يا مدينتي السّاحرة الغرّاء... نباتاتُ خزاميّاتك النديّة الفيحاء التي كانت تعلو جدرانك، وتملأ حقولك، وتنتشر في مراعيك، وسهولك، وسهوبك كانت تُودَع في قوارير غاية في الدقّة والصّغر، وتجوب جميع أركان العالم المعروف. لا غرو، ولا عجب فقد اقتُدّ اسمُكِ الجميل من هذه النبّتة البريّة العبَقة الفوّاحة ذات اللون الأرجواني البهيج والنّسيم الأقحواني الأريج... هواؤكِ النقيّ الذي كان يأتيك صَباً مُنعِشاً من أفنان غابات أشجار الصّفصاف أو الصّنوبر الأخضر التي كانت رئتيْك، والتي اقتدّت عنوةً وجهلاً وقهراً وقسراً من جذورها كأختها أشجار السّرو الباسقة بغابة "المُجاهدين" قبالة جزيرة النكور المحتلّة بأجدير، لتعمرها أعمدة من أسمنتٍ مُسلّح، وتحلّ محلّها دعائم بنيان عشوائيٍّ هشّ، كان هذا الهواء فيما مضى من أيام العُمر التي خلتْ دواءً مداوياً، وبلسماً شافياً لكلّ العلل، وكانت فوّارات (آنوَاتك وتلالاك) "آنو وتالا" (عُيونك ومنابعك) شلالات زلالية بلّورية مُنهمرة منسابة من الأعالي متفجّرة من عمق ثرىَ الينابيع الرّقراقة النازلة قمم المُرتفعات السّامقات، ومن تجاويف نتوءات التضاريس، والصّخور المدبّبة، ومن سفوح التلال، والهضاب، والجبال الشاهقات. كنتِ ضيفةً وزوّاركِ أربابُ المنزلِ! فردوساً أرضياً كنتِ، وما زلتِ وستظلين في أعين قاطنيك، وساكنيك، وأبنائك، وبناتك، وأحبّائكِ، وأحبابك، وَمُحبّيك، وزوّارك الذين يدخلونكِ آمنين فترمي على أقدامهم بساط السّعة والحفاوة والترحاب، فتغدين ضيفةً أنتِ عندهم، ويغدون هم أصحاب البيت، وأرباب المنزل! معشوقة كنتِ وستظلّين في عيون كلّ الأعراق، والأجناس، والملل، والنّحل. ها هو ذا بحركِ المتوسّطي الزّاخر قد يعانق مرّةً أخرى الرّمالَ ويغنّى جلالا، وها قد بدت حولك الطبيعة الخلاّبة روعةً، وبهاءً وجمالاً، فإذا بالأطيار المُغرّدة بأدواحكَ الشّاهقات تشدو شدواً رخيماً عليلا، ورياحُ الآصال ما فتئت تلعب بالأمواج في يمّكِ السّاكن طوراً، والمُزبد أطواراً، فتهيم بزقزقاتها الحَمائمُ شذىً، وتصدح نغماً ولحنا نديّاً أصيلا. وغوانيكِ الحِسان يمشين الهُوينى مختالاتٍ متهادياتٍ على "كورنيشك" البديع على وقع خطوٍ واثقٍ جميلا. آه ٍيا جبالَ "مورّو فييخُو" و"آكام سيدي عابد" المتوَّجة بالشّرف والشهامة. آهٍ أيّها الشاطئ "المحروق" السّاحر الجميل، والسّاحل الشَّعري، والشَّاعري والشَّعيريّ في "سيباديّا" ذي الرّمال الذهبية، والصّخور الحَجرية، والكلسية الناتئة التي لم تعد ذهبية. آهٍ أيّها السّهل الخِصيب على شاطئ "الصّفيحة "بأجدير الحَصين الذي تتفجّر من جنباته ينابيع الدماء الطاهرة العائدة لأجدادك الشّهداء الميامين، والذي ما زالت رماله البركانيّة الرماديّة تأسىَ وتتأسّىَ على ماضيها القريب في مواجهة الاستعمار الإسباني الغاشم الدخيل، الذي ما زال يذكر مع كلّ إشراقة الشمس وغيابها، وتحرّك النجوم وبزوغها، أو مع طلعة كلّ بدر ولمعانه، وإطلالة كلّ هلالٍ وسطوع أضوائه، أو مع اكتمال كلّ قمرٍ في تمامه ورونقه وبهائه. على صَهَوَاتِها الأسَلُ الظَّمَاء هناك، حيث ما زالت ذاكراتنا الوَهنة تُنبئنا بتباري سباق الخيول المُسوّمة، التي كانت تكاد أن تخرج من جلودها من كثرة العَدْو، وعلى صهواتها تنتصب الأسل الظَّماء من الفوارس المغاوير، والفرسان الأشاوس، هنالك في "مَلْعَب" مروراً ب"الطّاية" و"السّواني" و"الحَرْش" و"تمسان" الفيحاء الأرض الفلاحية الطيّبة المِعطاء التي ما فتئت تعانق البحرَ في عشقٍ، وهُيامٍ، وأوامٍ، وتيْمٍ، وصَبابةٍ، وجَوىً، والتي ما انفكّت إلى يومنا هذا المشهود "تمسُّ أمان" أو (تحاذي المياه) المتلألئة المحيطة بها في رِفق من كلّ جنبٍ، وصوبٍ وحدب. أيتها الجبال الشاهقة في "تقيشّة"، وفي "بوجيبار"، وفي "هضبة عازف النّاي" (تقيُّوتْ أوشبّاب"، وفى مرتفعات "جبل حمام" وآكام "بُوعرمة" ذات التضاريس الوعرة والصّعبة الشامخة، وجبالها العالية التي أبكت "زبيدة" في أغنيتها الشهيرة "كعْ كعْ يا زبيدة" العاشقة الولهانة بعد أن فرحت، وطربت وغنّت و"هيّصت"، وعندما تذكّرت خليلها سرعان ما تفجّرت مآقيها، وانهمرت ميازيبُ دموعها حرّىَ ساخنة على ساحل البحر في تمسمان المطلّة على شطآن وادي النكور، حيث قامت أوّل إمارة اسلامية في هذا الصُّقع النائي من مغربنا الحبيب وهي مملكة صالح بن منصور عام 710م، وحيث ما فتئ الخلود يستحمّ في مياهها البلّورية، الصافية، النقية، البرّاقة الصّهباء، ويتمرّغ في رمالها السّاخنة الحامية الدكناء، ثمّ يكسوها المساء اللاّزوردي لونَ الذهب الشفقيّ القاني، آهٍ يا بلادي التي تشقها أنهار غِيسْ، والنُكور، والكِيرْت، عيناي الغائرتان ليستا جديرتين برؤية جمالك، وجلالك، وجبالك، وبحارك، وأنهارك، وسهولك وسواحل، آهٍ يا حسيمتي الخزاميّة الحسناء، يا زهرة الرّيف...! شواطئ رُشّت بمسحُوقٍ من تِبرٍ هنالك حيث تشرق الشمسُ وتغيب في هذا الرّكن القصيّ من الوطن الكبير راسمةً بخيوطها الذهبية، وأشعّتها المخمليّة وانعكاساتها القوسقزحيّة لوحة ساحرة ذات الألف لون ممّا هو معروف، ومألوف من الألوان، وممّا ما زال الناس يجهلونه منها، الأمواج المتلاحقة المتلألئة تبدو على صفحة الماء الصقيلة وكأنّها تتسابقُ، وتتلاحقُ، وتتعانقُ، وتتراقصُ وتتبارىَ فيما بينها للوصول إلى أديم الشطّ السّاكن الجميل الذي يبدو وكأنّه رُشّ بمسحوقِ تبرٍ خالصٍ، أو بدقيقٍ من مسكٍ وعنبرٍ وكافور، وقرصُ الشمس السّاطعة ما انفكّ يبدو في الأفق البعيد وكأنه زورق بلّوريّ سماويّ حالم ينثر الضياءَ في مناكب شساعة هذا الكون الهائل الفسيح، وتبدو الألوان الزّاهية وكأنّها صِيغت، أو صُنعت، أوقُدّت من ذهب إبريز، أو من لجيْن مُطعّم بنُقرة ريفيّة خالصة، أو فضّة سوسيّة أصيلة، أنظر إليها هائمة حائمة معلّقة في كبد السّماء، وكأنها تجسيد حيٌّ نابضٌ لروعة أمّنا الطبيعة في أبهىَ صُورها، ورونقها، وبهائها، وسحرها في هذا الخليج الخزاميّ الفريد الذي يُعتبر من أجمل خُلجان العالم. حُسْنُ الجِوار دَيْدنُهُم منذ غابر الأزمان، أدرك سكان هذا الصّقع النائيّ البعيد ذي التضاريس الطبيعيّة الوعرة، والأخاديد الجبليّة الصّعبة، منذ نعومة أظفارهم، وغضاضة إهابهم، وطراوة أعوادهم، وشرخ شبابهم، وريعان عُمرهم أنهم داخل نسيج فسيفساء هذا البلد الأمين (المغرب) الذي قيّض الله لهم أن يروا فيه نورَ الحياة، عاشوا كسائر إخوانهم وأخواتهم من مواطنيهم في مختلف مناطقه، ونواحيه، وجهاته، وأرباضه على الفِطرة، وترعرعوا على البداوة، وتربّوا على البساطة، وجُبِلوا على عشق الحياة الحرّة الكريمة. في ربوعهم، وأحيائهم، ومرابعهم، ومرابضهم، وقراهم، ومداشرهم، وضِيَعِهم كانوا يدقّون أبوابَ الحريّة الحمراء دقّاً عنيفاً حتى تتضرّج بألوانها الزّاهية القانية، ولا يرضون أبداً بها أو لها انصياعاً، ولا إذعاناً، ولا بديلاً، تماشياً، وامتداداً، وتأكيداً وترسيخاً لأوتادَ الشّهامة، والنخوة، والكرامة التي دقّها أجدادُهم الميامين. كان حسنُ الجوار دأبُهم، والذّود عن حوضهم، وجيرانهم دَيْدنُهم، كان عدم الرّضى بالظّلم، والضّيم، والجّفوة، والجفاء غاياتهم، ومراميهم، كانت شِيمُهم وهِمَمُهم مبادئهم وسجاياهم، وعاداتهم العريقة، وتقاليدهم الحميدة التي تربّوا على منوالها، ونشؤوا في كنفها، كلّ تلك السّجايا والشمائل، والمزايا ولفضائل، كانت نبراسَ دربهم في مسالك حياتهم. كانت معايشاتهم فيما بينهم، وبين جيرانهم الأبعدين منهم والأقربين عفويّة، تلقائيّة، طبيعيّة، فطريّة، بسيطة لا تصنّعَ، ولا مِراءَ ولا مصانعة، ولا محاباة ولا مداهنة فيها. في هذا الصّقع النّائي الجميل كانوا يعيشون أحراراً مثل طيور القطا، ينتقلون من حقلٍ إلى حقل، ومن بستانٍ إلى بستان، ومن غصنٍ إلى غصن، ومن زهرةٍ إلى زهرة، يستنشقون هواءَه العليل، ويتغذّون بخيراته، ونِعَمه وثماره، وحبوبه، وقطوفه، وحصاده، وبكلّ ما طاب واستطاب ممّا كانت تجود به عليهم أرضُه الطيّبة، وطبيعتُه المِعطاء، كانوا يستمتعون بحرّه وقرّه، وببحره وسمائه، وشمسه وقمره، وجباله وغاباته، وحواضره وآجامه، وهضابه وآكامه، ووديانه وأنهاره، ومرتفعاته، ووهاده، لم يكن يأتيهم منه إلاّ الخير، وكلّ ما يُرضِي أنفسَهم، ويُسْعِدُ قلوبَهم، ويُنعِش أرواحَهم، ويُحيي وجدانَهم، ويَشدّ كيانَهم. هل أصاب صرحَ الصّدق، والنبل، والوفاء، والشرف، والكرامة شرخ ٌعميق؟ هؤلاء الأقصوْن الأبعدُون، ذوو السِّحَن الغريبة، والشعور الناعمة المنسدلة من جيرانهم في الضفّة المقابلة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط، الذين كانت لهم معهم مواجهات، ومشاكسات، ومعايشات حضارية أنارت دياجي الظلام في مدائنهم، دامت زهاء ثماني قرون، كانوا يقومون بين الفينة والأخرى بغاراتٍ قرصنيةٍ على أراضيهم وشطآنهم، ودُورهم، ومُمتلكاتهم، ومَزارعهم، ومَحاصدهم، وغَللهم، لم يكونوا يتوانوْنَ قيد أنملة في دحرهم، وصدّهم، وردّهم على أعقابهم من حيث جاؤوا، كانوا يأتونهم كالأسُود، ثمّ سرعان ما يفرّون ويعودون مخذولين مُنكفئين كالأرانب من حيث قدموا يجرّون أذيالَ الخيبة، والمهانة، والهزيمة والمذلّة حتى أضحى التنائي بينهم وبين هؤلاء بديلاً عن تدانيهم، وناب عن طيب لقياهم بهم تجافيهم! الخزامىَ التي في خاطري عندما أعود بذاكرتي إلى هيادب الماضي غير البعيد، وأرجع الزّمانَ القهقرىَ تتراءى لي كيف كانت الحسيمة (الخزامىَ) الفيحاء فيما مضى من الأزمان، كنت في مقتبل العمر مبهوراً بشواطئها ذات الرّمال الذهبيةٍ الساحرة تغصّ بالسيّاح من كلّ الأجناس، كانوا يشاركوننا الاستمتاع بهذا المنتجع الاصطيافي الجميل، وكانت الفيلّات المُجهّزة للإيجار تنتشر بين أخاديد السّفوح الجبلية الشاهقة العليا التي تمتدّ على طول خط مرتفعات وآكام المدينة العليا، كانت أفواج السياح تتقاطر على هذه الشواطئ من كلّ فج ٍّعميق للرّاحة، والاستجمام، والتسرية، والاصطياف، كانت المطاعم تعمل بدون انقطاع، مثلما كانت تنتشر في السّاحل الطويل الممتدّ على كورنيش سيباديّا مروراً بحجرة "تيمشظين"، و"إزْضيِ"، و"المدّ"، وشاطئ "تَالاَ يُوسف" الفريد، وكان منتجع "أجدير" يحظى بنصيب الأسد في البنيات السياحيّة التحتية بالمنطقة على الإطلاق حيث كان يقع على شطآنه مترامية الأطراف "نادي البحر الأبيض المتوسط" وسط غابة كثيفة من أشجار الصّنوبر النضرة، والسّرو السّامق البديع التي اكتسحها اليوم هي الأخرى الإسمنت المسلّح بدون رحمة. هذه الغابة كانت مجاورة لشاطئ "الصّفيحة" الجميل حيث تظهر للمصطاف من كلّ جانب صخرة النكور السّليبة، كان هذا النادي البحري يعتبر من أكبر النوادي الاستجمامية من هذا النوع في شمال إفريقيا، كانت أكواخه مصنوعة من القشّ، والقصب، والخيزران المنصوبة بإتقان، وكان هذا النادي يوفّر المآت من فرص الشّغل لأبناء البلدة، ويستقبل آلاف السيّاح خلال موسم الصّيف. وكانت الطائرات النفاثة العملاقة تحطّ في مطار الشّريف الإدريسي المجاور له، قادمة من أوروبا ومن مختلف عواصم العالم. ناهيك عن منتجع "قوس قزح" (كالا إيريس) (الذي يبعد 70 كلم عن الحسيمة)، والذي يحرسه ضرغام ضخم من حَجر صلد تعلو ظهرَه نباتات الصبّار المُثقلة بثمار التين الشّوكي، يراه الناظرون وهو يستلقي في شموخ على شاطئه الجميل الذي كان يؤمّه كذلك العديد من السيّاح من كلّ صوبٍ وحدب في جوّ اصطيافيّ بديع. شكوى الدّهر ومناغاة الزّمنَ تُرى ماذا حدث؟ لقد أمسوا يتنفّسون الصّعداء، ويرفعون أنظارَهم إلى السّماء، ويجيلون بأبصارهم في فضاءاتها الواسعة مترامية الأطراف، ويحدّقون في سديمها السّرمديّ الأبديّ الفسيح، وبقدَرٍ مُشْعَلٍ على شفاههم يرجونها أمراً في قرارة أنفسهم، ويستعطفونها سرّاً في أعماق ذواتهم، ويناشدونها بلسماً شافياً، وترياقاً مُداوياً لجروحٍ غائرةٍ مُجترّةٍ لا تندمل! يعاتبُون الأيّامَ الحالكات، ويلومون الليالي المدلهمّات التي لا تُؤمَنُ بوَائقُها، وما برحُوا يَشكُون الدّهرَ القاهر، ويُناغُون الزّمنَ الغادر! أجدادُهم الصّناديد قدّمُوا أرواحَهم دفاعاً عن حوض وحوزة جزءٍ غالٍ من وطنهم المغرب الغالي الحبيب، أعطوا النّفسَ والنّفيس ذوداً عن عزّته، وصوناً لكرامته. *"حيّ المزمّة" حاضرة أجدير (الحسيمة)، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.