اشتهرت هذه المنطقة – كما هو معروف- بتاريخها النضاليّ والتحرّريّ المجيد ضدّ الإستعمار الإسباني الغاشم،حيث مُنيت إسبانيا فيها بأكبر هزيمة حربية فى تاريخها العسكري الطويل بانتصار المُحاربين « الرّيفيين» الأقحاح على الجيش الإسباني النظاميّ المدجّج بأحدث الأسلحة، والمتخرّج من أرقىَ المعاهد،والكليّات الحربية الإسبانية فى عدّة معارك ضارية متوالية توّجت بمعركة « أنوال» الماجدة الكبرى التي ينعتها الإسبان فى سجلاّتهم العسكرية ب «كارثة أنوال» (Desastre de Anual ) نظراً للخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الإسباني فى هذه المعركة الباسلة الضروس وفى سواها من المعارك الأخرى الشهيرة فى الأرواح والمعدّات بقيادة الزّعيم محمد عبد الكريم الخطّابي الذي سنّ وصحبُه من المجاهدين الأبرار بتكتيكاتهم الحربية الذكيّة المبكّرة ما أصبح يُعرف أو يُطلق عليه فيما بعد ب «حرب العصابات» المعروفة ب «Guerrilla «والتي تأثر بها، واقتفاها، واستعملها على منوالهم مُحاربون عالميّون كبار فى مستوى الصّيني «ماو تسي تونغ «، والفيتنامي»هوشيه مينه»، والأرجنتيني- الكوبي»إيرنيستو تشيّ غيفارا « وسواهم،ولقد أصبحت هذه المعارك الفاصلة اليوم، إلى جانب المعارك الأخرى الضروس التي قادها المقاومون المغاربة الصّناديد فى مختلف أرجاء المغرب على إمتداد التاريخ من المفاخر التي يزهو، ويزدهي بها هذا البلد الأمين فى عشقه وتعطّشه للحرية والحياة الكريمة والإنعتاق. الخزامىَ الفيحاء تتوفّر نواحي وأرباض هذه المدينة على ثغور سياحيّة، ومنتجعات إصطيافيّة جميلة، ولقد صُنّف خليجها مؤخراً من بين أحد أجمل خُلجان العالم، وكانت نباتاتُ خزاميّاتها المضوّعة الفيحاء تملأ حقولها، وتنتشر فى مراعيها، وسهولها، وسهوبها، وكانت عصاراتها تُودَعُ فى قواريرصغيرة، وأحقاق دقيقة أنيقة ،وتسوَّق فى مختلف أرجاء العالم تحت اسم lavanda . فلا غرو،ولا عجب فاسمُ هذه المدينة اقتدّ من هذه النبّتة البريّة العبَقة الفوّاحة ذات اللون الأرجوانيّ البهيج، والنّسيم الأقحوانيّ الأريج . كان هواء المدينة النقيّ يملأ أجواءَها صَباً مُنعِشاً يتطاير من أفنان،وأغصان غابات أشجار الصّنوبر الخضراء التي كانت تحيط بها من قبل من كلّ جانب والتي اقتُلعتْ قهراً،وقسراً من جذورها لتحلّ محلّها أعمدة كثيفة، وجدران رمادية سميكة من الأسمنتٍ المُسلّح ،وتملأها هيادب البناءات العشوائية الضخمة كأنّها طواحين «دون كيشوت « العملاقة المُرعبة فى رائعة سيرفانطيس.. كان هواؤها فيما مضى من أيام العُمر دواءً مداوياً لكلّ العِلل، وبلسماً شافياً لقاطنة المدينة ولزوّارها من مختلف الملل والنّحل. آهٍ.. أيّها السّهل الخِصيب ما برحتْ شواطئك المتراميّة الأطراف تذكّرنا بدماء أجدادك الطاهرة..التي ما زالت رمالها البركانيّة تفخر،وتزهو،وتزدهي بمواجهتهم الصّامدة، ووقوفهم وقفة رجلٍ واحد كسدٍّ منيع لدحر،وردّ، وصدّ فلول الإستعمار الإسباني الدخيل، وما فتئ أبناؤك، وأحفادك،وأحفاد أحفادك يتذكّرون أمجادَهم ،ويسترجعُون مناقبَهم مع إشراقة كلّ شمس وغيابها، وبزوغ كلّ نجمٍ وأفوله، أو مع طلعة كلّ بدر ولمعانه، وإطلالة كلّ هلالٍ وسُطوعه ، ومع اكتمال استدارة كلّ قمرٍ فى تمام رونقه وبهائه. الفوارس الصّناديد هنالك فى سَهل « مَلْعَب» قبالة شاطئ « الصّفيحة» الجميل بأجدير الحَصين، كان يتبارز الفرسانُ الأشاوس ،وما زالت ذاكراتنا الوَهنة تُنبئنا بتباري سباق الخيول المُسوّمة ،التي كانت تكاد أن تخرج من جلودها من كثرة العَدْو، على أكتافها وصهواتها كانت تنتصب الأسلُ الظَّماء من الفوارس الصناديد المغاوير، وهنالك فى أرض الصلحاء «بقّيوة»، ومروراً بسواحل «الطاية «، وسهول «السّواني»، وسهوب «الحَرْش» ، و»شاطئ « حجرة القرش» ووصولاً إلى»تمسمان» الأرض الفلاحية الطيّبة المِعطاء التي ما فتئت تعانق البحرَ فى عشق وهُيامٍ ، والتي ما انفكّت إلى يومنا هذا المشهود «تمسُّ أمَان» أو (تحاذي المياه) المتلألئة المحيطة بها فى رِفق من كلّ جانبٍ ومن كلّ صَوْب . أيّتها الجبالُ الشّاهقة فى قمم « تقيشّة»، و»بوجيبار»، و»هضبة عازف النّاي « (تقيّوت أوشبّاب)، وفى مرتفعات «جبل الحَمَام»، وآكام « بُوعرْمة» السّامقة ذات التضاريس الوعرة ،والأخاديد الملتوية، والنتوءات المُدبّبة وجبالها الشامخة التي كانت شاهدةً ذات يومٍ على بكاء الغانية الحسناء « زبيدة « فى أغنيتها الشّهيرة التي ملأت الدنيا بأنغامها الريفيّة الجميلة « كعْ كعْ يا زبيدة « وشغلت الناس، هذه الصبيّة العاشقة الولهانة بعد أن فرِحت، وطرِبت، وغنّت، و»هيّصت»، وعندما تذكّرت خليلها سرعان ما تفجّرت مآقيها، وانهمرت ميازيبُ عينيْها بالدموع الحرّىَ السّاخنة على ساحل البحر فى تمسمان المطلّة على شطآن وادي النكور، حيث قامت أوّلُ إمارة عربية- أمازيغية فى هذا الصُّقع النائي من هذا البلد الأمين ممثّلة فى مملكة صالح بن منصورعام 710م، أي قبل تاريخ فتح الأندلس بعام واحد..! حيث ما فتئ الخلود يستحمّ فى مياهها البلّورية، الصّافية ،النقية،ويتمرّغ فى رمالها الذهبية، ثمّ يكسوها المساء اللاّزوردي الزّاهي لونَ الذهب الإبريز الشفقيّ القانيّ المشعّ . ألوان قوس قزح الحسيمة..الخزامىَ..حيث تشرق الشمسُ وتغيب راسمةً بخيوطها الذهبية، وأشعّتها المخمليّة وإنعكاساتها ذات الألوان الساحرة الزاهية القوسقزحيّة لوحاتٍ مُبهرةً ، حيث تبدو الأمواج المتلاطمة المتلالئة على صفحة المياه الصقيلة وكأنّها تتسابقُ، وتتلاحقُ،وتتعانقُ، وتتراقصُ وتتبارىَ فيما بينها للوصول إلى أديم الشطّ الهادئ الجميل الذي تبدو رماله الناعمة وكأنّها رُشّت بمسحوقِ من تبرٍ خالصٍ ، أو بدقيقٍ من مسكٍ وعنبرٍ وكافور، و ما انفكّ قرصُ الشمس يعانقُ الأفقَ البعيد وكأنه زورق بلّوريّ سماويّ حالم ينثر الضياءَ فى شساعة هذا الكون الهائل الفسيح ، وتبدوالألوان الزّاهية وكأنّها صِيغت من ذهب ساطع، أومن لجيْن ناصع ،أنظر إليه هائماً حائماً متهادياً فى الفضاء ،وكأنه تجسيد حيٌّ نابضٌ لروعة أمّنا الطبيعة فى أبهىَ صُورها، وأجمل رونقها ،وأتمّ بهائها، فى سماء هذا الخليج الخزاميّ العاطر البهيج . طيور القطا منذ غابر الأزمان ، عاش ساكنة هذا الصّقع النائيّ البعيد ذي التضاريس الطبيعيّة الوعرة ، والأخاديد الجبليّة الصّعبة داخل نسيج فسيفساء هذا البلد الأمين (المغرب) الذي قيّض الله لهم أن يروا فيه نورَالحياة ،عاشوا كسائر إخوانهم وأخواتهم من مواطنيهم فى مختلف مناطقه ، ونواحيه، وجهاته، وأرباضه على الفِطرة ،وترعرعوا على البداوة ،وتربّوا على البساطة، وجُبِلوا على عِشق الحياة الحرّة الكريمة . فى ربوعهم، وأحيائهم، ومرابعهم، ومرابضهم، وقراهم، ومداشرهم، وضِيَعِهم كانوا يدقّون أبوابَ الحريّة الحمراء دقّاً عنيفاً حتي تتضرّج بألوانها القانية، ولا يرضون أبداً بها أو لها إنصياعاً، ولا إذعاناً، ولا بديلاً ، تماشياً، وإمتداداً، وتأكيداً لأوتادَ الشّهامة التي دقّها أجدادُهم الميامين. كان حسنُ الجوار دأبُهم ، والذّود عن حوضهم، وجيرانهم دَيْدنُهم، كان عدم الرّضى بالظّلم، والضّيم، والجّفوة، والجفاء غاياتهم، ومراميهم، كانت شِيمُهم وهِمَمُهم مبادؤهم وسجاياهم ، وعاداتهم العريقة، وتقاليدهم الحميدة التي تربّوا على منوالها، ونشأوا فى كنفها، كلّ تلك السّجايا والشمائل، كانت نبراسَ دربهم فى مسالك حياتهم.كانت معايشاتهم فيما بينهم، وبين جيرانهم الأبعدين منهم والأقربين عفويّة، تلقائيّة، طبيعيّة، فطريّة ، بسيطة لا تصنّعَ، ولا مِراءَ ولامصانعة،ولامحاباة ولامداهنة فيها . فى هذا الصّقع النّائي كانوا يعيشون أحراراً طلقاء مثل طيور القطا، ينتقلون من حقلٍ إلى حقل، ومن بستانٍ إلى بستان، ومن غصنٍ إلى غصن. الأسُود والأرانب كانوا يستنشقون هواءَه العليل، ويتغذّون بخيراته، ونِعَمه وثماره، وحبوبه، وقطوفه،وحصاده، وبكلّ ما طاب واستطاب ممّا كانت تجود به عليهم أرضُه الطيّبة،وطبيعتُه المِعطاء، كانوا يستمتعون بحرّه وقرّه، وببحره وسمائه،وشمسه وقمره،وجباله وغاباته،وحواضره وآجامه،وهضابه وآكامه، ووديانه وأنهاره،ومرتفعاته، ووهاده، لم يكن يأتيهم منه إلاّ الخير، وكلّ ما يُرضِي أنفسَهم، ويُسْعِدُ قلوبَهم، و يُنعِش أرواحَهم، ويُحيي وجدانَهم،ويَشدّ كيانَهم ، هؤلاء الأقصوْن الأبعدُون، ذوو السِّحَن الغريبة ، والشّعورالناعمة المنسدلة من جيرانهم فى الضفّة المقابلة الأخرى من البحرالأبيض المتوسّط، الذين كانت لهم معهم مواجهات ومشاكسات، كما كانت لهم معهم معايشات حضارية أنارت دياجي الظلام فى مدائنهم، دامت زهاء ثماني قرون، كانوا يقومون بين الفينة والأخرى بغاراتٍ قرصنيةٍ على أراضيهم وشطآنهم، ودُورهم، ومُمتلكاتهم، ومَزارعهم ،ومَحاصدهم، وغِللهم ،لم يكونوا يتوانوْنَ قيد أنملة فى دحرهم ، وصدّهم ، وردّهم على أعقابهم من حيث جاءوا،كانوا يأتونهم كالأسُود، ثمّ سرعان ما يعودون فارّين مَخذولين مُنكفئين كالأرانب من حيث قدموا وهم يجرّون أذيالَ الخيبة، والمهانة، والهزيمة والمذلّة..!،وهذا ما حدث، وسيحدث لهم فى مختلف مناطق، ومناحي، ونواحي،وأصقاع مغرببنا الحبيب من أقصاه إلى أقصاه. وللذكرى حنين وللذكرىَ حنين حميم يتفجّر فى القلب، ويطفوعلى ثبج الذاكرة، فعندما تعود بنا هذه الذاكرة الوَهنة إلى الماضي القريب، ونرجع الزّمانَ القهقرىَ تتراءى لنا كيف كانت هذه المدينة المنارة الموسّطية الفيحاء فيما مضى من الأزمان، كنا نقف مبهورين بجمالها الأخّاذ،وبشواطئها ذات الرّمالٍ الذهبيةٍ الناعمة التي كانت تغصّ بالسيّاح من كلّ الأجناس الذين كانوا يشاركوننا الإستمتاع بهذا المنتجع الإصطيافي الجميل، وكانت البيوت البيض البحرية المُكلّلة باللون الأزرق ( لون البحر الأبيض المتوسّط) تنتشر بين أخاديد السّفوح الجبلية الشاهقة العليا التي تمتدّ على طول خطّ مرتفعات وآكام المدينة العليا،كانت أفواج السياح تتقاطر على هذه السّواحل من كلّ فج ٍّعميق للرّاحة ،والإستجمام،وكانت المطاعم من كلّ نوع تعمل بدون إنقطاع ، وكان منتجع «أجدير» يحظى بنصيب الأسد فى البنيات السياحيّة التحتية بالمنطقة على الإطلاق حيث كان يقع على شطآنه المترامية الأطراف ( نادي البحرالأبيض المتوسطClub Med ) وسط غابة كثيفة من أشجار الصّنوبرالنضرة،والسّرو السّامق البديع مجاورة لشاطئ «الصّفيحة» السّاحر حيث تظهر للمصطاف من كلّ جانب «صخرة النكور» السّليبة التي ما زالت تأسى، وتتأسّى حزينةً، كئيبةً،باكية،كسيرةً أسيرةً بين مخالب المستعمِر، كانت أجنحة أكواخ «نادي المتوسّط» مصنوعة من القشّ ،والقصب، والخيزران ، وكان النادي يوفّر العديد من فرص الشّغل لأبناء البلدة،ولأبناء القرىَ، والمداشر، والأرباض المجاورة لها، وكانت الطائرات النفاثة العملاقة القادمة من أوربا ومن مختلف عواصم العالم تحطّ فى المطارالدّولي الذي يحمل اسمَ العالم السّبتي المغربي الجليل، والجغرافيّ الفذّ المتفوّق «الشّريف الإدريسي» المجاور لهذا النادي العالمي الذي كانت تديره شركة سياحية فرنسيّة عالمية شهيرة . ناهيك عن منتجع «شاطئ قوس قزح» (كالا إيريسCala Iris) الذي أصبح اليوم أطلالاً بالية يلوح للناظرإليه من بعيد كباقي الوشم فى ظاهر يد خولة خليلة طرفة بن العبد الشاعرالمنكودالطالع، يحرسه ضرغام ضخم من حَجر صلد تكسو ظهرَه وجانبيْه نباتات وشُجيْرات الصَبّار الهندي المُثقلة بثمار التّين الشّوكي اللذيذ، يتراءى للناظرين وهو يستلقي فى شموخ على شاطئه السّاكن،والحديث ذو شجون يجرّ بعضه بعضا . قال الشاعر: تُهدِي لنا كُلما كانت عُلاوَتَنا / ريحَ الخُزامىَ فيها الندىَ والخَضلُ . محمد محمد الخطابي/ عضو الأكاديميّة الإسبانيّة – الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.