اعتدنا خلال نقاشاتنا في الفضاء العمومي أن نردد "لا ديمقراطية بدون عدالة"، أو بالأحرى "لا ديمقراطية بدون قضاء عادل"، ناسين أو متناسين أن لا قضاء مثاليا في عدالته، لأنه ببساطة يدار بواسطة رجال ونساء. وعندما نقول ذلك ونقتنع به، نكون بالفعل قد قلنا كل شيء. فالقضاة رجال ونساء درسوا القانون ويدركون جيدا أنهم لكي يحسموا في نازلة معينة ويصدروا قراراتهم، لا بد أن يلجؤوا إلى قاعدة قانونية أو يعتمدوا على نص قانوني. فإذا افترضنا أن النصوص والقواعد التي يعتمدها القضاة لا تقبل إلا تفسيرا واحدا أو تفسيرات محدودة، هل يصبح الرجال الآليون أنجع في أداء مهمة القاضي؟ أم إن ميزات أخرى تنهل من الثقافة الشخصية والتنشئة الاجتماعية وتمثلات الحق والعدل والانتماء والتعاطف وغيرها، تكون حاسمة في تحديد هوية القاضي؟ وأي قاض هو الأفضل والأقرب إلى الانتصار لمفهوم العدالة كما هي لذاتها لا كما نراها كمتقاضين؟ وهل بيئة المؤسسة القضائية ودهاليزها وتشابك الفاعلين داخلها يساعد بدوره على فهم مهام القاضي أو على الأقل تقييم نتائج عمله وقياس أثرها على المجتمع والمؤسسة معا؟ من الثابت أن يدافع القضاة عن استقلالهم عما يعتمل في الحقل السياسي، وإذا صدقنا ذلك وسلمنا به بشكل ساذج، نكون بدون شك قد ساهمنا في تشخيص مسرحية هزلية هي أقرب إلى المزاح، لأن التجارب أثبتت أن مجموعة من القضايا والإشكالات التي تطرحها السلطة السياسية قد أوجدت لها سلطة القضاء جوابا مواتيا وبشكل عفوي وكأننا أمام هيئة قضائية تعرف ما عليها فعله تجاه تلك السلطة بشكل تلقائي، أو على الأقل هذا مما آلت إليه الأمور في التجربة المغربية لغياب الحسم القانوني والمؤسساتي في الكثير من الأسئلة التي تلف معضلة القضاء من ألفه إلى يائه. وهو ما جعلنا نقدر أن رقابة ذاتية تولدت لدى قضاتنا بالإضافة إلى رقابة الرقيب. هذه التبعية التي تحتاج إلى تقفي آثارها في القرارات ودراسة سلوك المحاكم والمؤسسات المعنية ليست المشكلة الأساسية أو التبعية الوحيدة التي تذكي الشكوك في القضاة وعلاقاتهم بالسلطة السياسية والتسلسل الإداري وباقي طبقات المجتمع ذات الحظ الوافر في التأثير والتوجيه، وعلى رأسها بورجوازية ناشئة وصعبة التصنيف، بل إن ثقافة القضاة أنفسهم وتكوينهم المعرفي والاجتماعي تتحكم بشكل وافر في مصائر الأحكام والقضايا والقرارات التي ينتجونها. ثم إن تدخل الحياة الشخصية لهؤلاء القضاة يمكن رصد تأثيرها بالتجربة على كل المستويات. وهو ما دفع العديد من الدارسين في بعض التجارب المقارنة إلى التدليل على ذلك بقضايا الزواج وتعقيداتها التي تؤثر فيها تجارب القضاة الذاتية بشكل واضح على طبيعة القرارات والأحكام، بالرغم من الخطابات التي يصدر بها الكثير من القضاة جلسات الحكم على مرأى ومسمع من المتقاضين، والتي لا تنعكس دائما على نتائج تلك الأحكام. ولكي يكون القاضي جيدا، لا يكفيه الادعاء فقط بقدر ما يتطلب منه الوعي التام بشروط ذلك الادعاء. فالقضاء بغض النظر عن البلد أو النظام الذي يمثله، يؤدي دوره في حدوده الدنيا ويحقق الأمن المرجو، وهذا لا يعني رضى المتقاضين دائما، كما لا يمكن أن يحقق عدالة مثالية لأنها تبقى عدالة إنسانية محضة بما يعتورها من قصور ونسبية، بل إن النصوص القانونية نفسها لا يمكن أن تتجاوز عادات القضاة في الحكم في كثير من الأحيان. وكمثال على ذلك، فالاعتقال الاحتياطي يبقى اعتقالا وسجنا، ولا يغدو أن يكون أمام الواقع سوى تواضعا لغويا، بالرغم من أن قرينة البراءة ظلت السيف المدافع الرافض لهذا الاعتقال، وبالرغم كذلك من مبدأ الحرية كقاعدة لا تحتاج إلى تنميق لغوي ماكر. ولنا في التجربة الفرنسية مثال قاضي الحريات الذي بالرغم من اعتبار إحداثه قفزة نوعية حينها إلى جانب قاضي التحقيق، إلا أنه لم يغير من آثار الواقع أي شيء تقريبا، إضافة إلى إشكالات كثيرة تتعلق بحضور الشهود وغيرها، التي بالرغم من الاجتهادات القضائية ظلت في مكانها راسخة كصخرة تجثم على صدر تجويد عمل القضاء وتعزيز استقلالية القضاة وتمنيع مواقعهم ضد الإملاءات والاستغلالات. كثيرة هي القضايا التي ترتبط بعمل القضاة، وقليلة هي مجهودات المسؤولين المرتبطة بالتنبيه إلى أهمية تمكين القضاء من الوسائل المادية الكفيلة بأداء مهامه على أحسن وجه كذلك. وعندما انبرى ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي منادين بإصلاح التعليم والصحة والقضاء بتقليص حجم النفقات والخسائر التي تتكبدها الميزانية العامة بصرفها على مشاريع وأنشطة لا تمت إلى العقلانية بشيء، إنما تجاوزوا بذلك سقف الدولة التي لم تستطع استنبات سياسات عمومية جنائية وقضائية قادرة على الدفاع عنها والوفاء بالتزاماتها اتجاهها. وهو ما يؤكد صوابية المتقاضين والمواطنين عندما يرصدون تلك الاختلالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر الإعلام والمواقع الإلكترونية التي استفزت مؤسسة القضاء، أو بالأحرى مؤسسة قاضي التحقيق، وتجاوزتها من خلال تدقيق تفاصيل العديد من القضايا المالية والسياسية والأخلاقية الشائكة المطروحة على المحاكم المغربية وكشف هزالة المصداقية المعتمدة في معالجة حيثياتها واحترام ضماناتها، والتي أثرت بشكل سلبي على شعارات الإصلاح ووضعت صانع القرار في مأزق حقيقي تتآكل معه مصداقية المؤسسات بشكل فظيع. إجمالا، لا يمكن لتهاون المسؤولين السياسيين أن يلهينا عن الإيمان بوجود قضاة استثنائيين يشتغلون باستقلالية عن ثقافتهم، أو يعمينا عن تجارب مضيئة في هيئة القضاء على قلتها، أو عن رغبة الوثيقة الدستورية في ترقية القضاء إلى سلطة حقيقية يضمن الملك استقلالها. كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمنعنا ذلك من توجيه أنظارنا وآمالنا إلى السلطة التشريعية التي تعتبر بحق مسؤولة عن جزء كبير مما يحدث لهذا القضاء الذي تحول بفعل الذاتية والانتصار للظرفيات مجرد عصا في عجلة بناء الوطن، إن لم يكن المعول الذي يهدم كل جميل ويقصم تلك اللحمة التي بناها أبناء هذا الوطن بدمائهم وتضحياتهم. *باحث في القانون العام والعلوم السياسية