طعامٌ مُزّ وفكر خلاّق..! في مستهلّ هذا العرض حريٌّ بنا أن نستحضر بعض الذكريات اللطيفة، والهُنيهات السّعيدة التي قيّض الله لنا أن نعيشها في الديار الإسبانية في الثمانينيّات من القرن الفارط إلى جانب المفكّر الفذّ والمثقّف الجسور المهدي المنجرة رفقة الصديقيْن العزيزيْن الأديب الوزير السّفير محمّد العربي المسّاري، والكاتب المبدع في اللغة الإسبانية محمّد شقور، رحمهم الله تعالى جميعاً، وكاتب هذه السطور. ذهبنا ذات ليلة لنتعشّى في أحد مطاعم مدينة مدريد الكائن بأحيائها العتيقة ذات الطابع العربي الأصيل، وعندما ناولنا النادلُ قائمةَ الطعام، وألقينا نظرة ًعَجْلىَ على أسماء الوَجبات والأطباق التي كان يعدّها هذا المطعم، طلب منه المنجرة شريحةَ لحمٍ بقري يسمّيها الإسبان Solomillo وتُنطق في اللغة الإسبانية "سُولُو مِييُّو"، فقال للنادل مداعباً بلغة سيرفانتيس: (نَعَمْ أريد "سُولُومِييُّو" لأننّي أريده أن يكون لي لوحدي..!) أيّ ما معناه وكما يُنطق في اللغة الإسبانية (Solo mío) أيّ لي لوحدي، مستغلاً تقارُب، وتشابُه، ومضاهاة، وتطابُق النطق في الكلمتيْن، وإن كانت طريقة كتابتهما متباينة، فانخرط الجميع في ضحكٍ مُسترسل... وطالت بنا السّهرة ويا لها من سهرة، كنّا ضيوفاً على طعام مُزّ، وشرابْ مُرّ، (كما كان يقول بشّار بن بُرد!)، وفِكرٍ خلاّق، وأدبٍ رّفيع، ومع فيضٍ من قبسات، وقفشات، وهمهمات، وتمتمات، وهمسات، وإشارات، وإرهاصات، واستكناهات، واستغوارات، واستنطانات خبايا "مِهنة" أو بالأحرى "مِحنة" السياسة...!! ومرّ ليلنا اختلاساً، وجَعَلْنَاه قصيراً -كما يُقال بالعامّية المغربية -يعني أنّنا "قصّرنا".. قصّرنا في ليلنا، ولكنّنا لم نقصّر قطّ في صفاء صداقتنا، ونقاء عِشرتنا، وبهاء أنسنا، حافظين للذكرى الجميلة، راعين لها، حريصين على استحضارها وصَوْنها في كلّ وقتْ وحين ما حيينا...! وأنستنا هذه الأمسية اللطيفة الحافلة باللحظات السّعيدة، والهنيهات الرّغيدة، والأحاديث الشجيّة، والأقاويل الطليّة، أنستنا ليالي مدريد الشتويّة القارصة، وملأها أو عوّضها دفء وصايا "أبي حيّان التوحيدي" في "الصّداقة والصديق" لمدّ حبل الصداقة دوماً طويلاً ومتيناً، والحفاظ على شعلة المحبّة، وجذوة الأخوّة متأججتيْن مع هذه الصّفوة الخيّرة من المُفكرين أو مع مَنْ يُسمّيهم أو يُطلق عليهم الفيلسوف الفرنسي صاحب "الكوجيتو" المشهور (نحن نفكّر إذن نحن موجودون!) "رينيه ديكارت" اسمَ أنبل النّاس..! في 13 يونيو الجاري 2018 حلّت الذكرى الرّابعة لرحيل عالم المُستقبليات هذا المفكّر الجَسُور، الباحث المعروف المهدي المنجرة، كان عالماً جليلاً، ذا عقل راجح بشهادة علماء ومفكّرين أجانب مرموقين، إلاّ أنه قوبل بالجحود، والنكران من طرف بعض أبناء جلدته، وبني طينته، وقومه، ولا غرو، ولا عَجب فلا كرامة لنبي بين قومه! كما نُسِجتْ أباطيل، وحِيكتْ مزاعم، وادّعاءات حول مدى تكوينه العلمي، ومستواه الأكاديمي، إلاّ أنه مع ذلك أمكنه أن يتسنّم منازلَ عليا، وأن يتبوّأ مراتبَ رفيعة، وأن يُدرك أسمىَ المنابر العلمية على الصعيد العالمي والوطني، وأن يحظى باحترام الأوساط الثقافية، والعلمية، والفكرية، والسياسية في مختلف أرجاء المعمور، وقد بدأ نجمه في السّطوع عندما طفق يتحدّث عمّا أصبح يُطلق عليه اليوم "حرب الحضارات"، ولقد اعترف له بالتألق، والتفوّق، والنبوغ المفكر الأمريكي المعروف صمويل هنتنغتون، ونوّه بقصب السّبق الذي أدركه في هذا المجال في كتابه الشهير "صدام الحضارات". هيامُه بمجريط وحواضر الأندلس تعرّفتُ عليه خلال عملي في سفارة المغرب بمدريد في الثمانينيّات من القرن المنصرم، حيث كان شغوفاً، ومُداوماً على زيارة هذه الحاضرة الأوروبية التي كان يشطّ بنا الحديث خلال تواجده بها عنها، وعن تاريخها، وإشعاعها، وماضيها العريق، ذلك أن هذه المدينة الجميلة تتميّز بخاصّية فريدة باعتبارها العاصمة الأوربية الوحيدة التي تحمل اسماً عربيّاً، كما أنها من بناء المسلمين، وكان الحضور العربي، والأمازيغي، والإسلامي فيها حضوراً قويّاً، ونابضاً، وزاخراً، وقد أمست اليوم من أكبر الحواضر الأوربيّة، أسّسها تحت اسم "مجريط" في القرن التاسع الميلادي الأمير محمد بن عبد الرحمن الثالث، خامس الأمراء الأموييّن في الأندلس. كما كان المهدي المنجرة مولعاً بزيارة بعض المدن الإسبانية الأخرى بين الفينة والأخرى خاصّةً في منطقة الأندلس لإلقاء بعض المحاضرات في العلاقات الدّولية، والعلوم المستقبلية، أو المشاركة في العديد من الملتقيات، والمناظرات، والندوات الثقافية الدولية وسواها من مجالات المعرفة، ولقد كتبتُ عنه، وعن أنشطته، ومشاركاته في بعض هذه الملتقيات في بعض الجرائد العربية الدولية الكبرى الصّادرة في لندن التي كنتُ أكتبُ فيها بانتظام إبّانئذ، كتبتُ عنه إيماناً منّي بفكره النيّر، وإعجاباً بعلمه الغزير، وبمداخلاته القيّمة، وإسهاماته الرّصينة في هذه الملتقيات. كان المهدي المنجرة ذا طبع مرح، خفيف الظلّ، يحبّ البسط، والنكتة الظريفة، والطرفة الطريفة، والمستملحة الحلوة، ولم تكن البّسمة تفارق مُحيّاه، ويتميّز بتواضعٍ جمّ يجعله يعلو في أعين كلّ من قيّض الله له أن يتعرّف عليه عن قرب، وكان عطوفاً، حنوناً، بارّاً على الشباب، والطلبة المتعطشين للعلم والمعرفة والتحصيل. كان يستعمل باستمرار منذ ذلك الإبّان حاسوباً صغيراً لا يفارقه أبداً، ويستخرجه خلال محاضراته، ويسجّل فيه مداخلاته، ويدوّن ملاحظاته، سواء كان مُحاضراً، أم مُشاركاً، أم مُستمعاً، ولم يكن يفارقه أبداً، كان قد وضع له اسماً أمازيغيّاً طريفاً فكان يسمّيه وينعته ب "يَطّو"، وهو اسم امرأة رّيفية في تاريخ المغرب كانت قد لعبت دوراً كبيراً في مساعدة الجيش المغربي على استرداد مدينة طنجة من قبضة الإنجليز عام 1095 هجرية.(أنظر مقالي في "القدس العربي" حول هذا الموضوع بعنوان (شقراء الرّيف) العدد 8125 بتاريخ 4 يونيو 2015). إعجابُ أستاذه الأمريكيّ به والحديث عن هذا الشّخص النبيل، والمثقف النيّر، والمفكّر الفذّ، ذو شجون يجرّ بعضه بعضاً، وممّا كنّا سمعناه عن المهدي المنجرة أنه كان نشيطاً، يقظاً، ومشاكساً، ومشاركاً بحماسٍ منقطع النظير منذ نعومة أظفاره، منذ أن كان صبيّاً طريَّ العود، غضَّ الإهاب، في شرخ شبابه، وريعان عمره في الحياة الطلاّبية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والشبابية، وكان يحضر التجمّعات الشعبية التي ينظمها الوطنيّون، وكان يؤمّ طلباً للعلم والتكوين المدرسةَ والكُتّاب (يُسمّى في المغرب المسيد) في أن واحد. وعندما ذهب إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لاستكمال دراسته العليا بجامعة "كورنيل"، كان لمّا يَزَلْ في ربيع حياته، كان شغوفاً بحبّ الاستطلاع، والفضول العلمي، والخوض في مختلف حقول المعرفة، والتطلّع نحو استبطان المجهول، واستكناه المستقبل، وسَبْر آفاق كلّ المعارف والعلوم، وكان فضوله المبكّر العلمي، والمعرفي يدفعه دائماً إلى السّؤْل، والسُّؤال، والتساؤل والاستفسار بدون هوادة، وبدون انقطاع، عن كلّ ما يخطر له على البال في دروب العلم، وحقول المعرفة، أو يعنّ له في متاهات الحياة، وذات مرّة ضاق ذرعا أستاذه في هذه الجامعة بكثرة أسئلته وتساؤلاته، وبفضوله فصاح به بإعجاب وانبهار: مَنْ أَنْتَ؟ مَنْ تكون؟ (?who are you) وأردفَ الأستاذ الأمريكي قائلاً له: تساؤلاتك الدقيقة المتوالية ستجلُبُ لك الكثيرَ من المعارف، ولكنها قد تجلب لك معها كذلك الكثيرَ من المتاعب! قِيمةُ القيَم وفى إطلالة عاجلة ولكنها لا تخلو من فائدة على فكر وبعض تأمّلات المهدي المنجرة في المجتمع، والتنميّة، والثقافة، ومستقبل الثقافة، والاقتصاد، والعلم، والتعلّم التي تعتبر من المقوّمات الاساسية في حياة الفرد والجماعة في محيطه الاجتماعي، في عرض قيّم، ودراسة متّزنة ورصينة لتقية محمّد في هذا الصدد لكتاب "قِيمَةُ القِيَم" للمهدي المنجرة نقرأ بكلّ إعجاب: "أن المؤلف يُولي الاهتمامَ بمختلف القيم الموجّهة للمجتمع توجيهاً صواباً سواء من داخله أو حتى فيما يمكن أن يربطه بالخارج من علاقات". وكذا: "(…) ورغم كثرة البرامج الدولية للتنمية، لاسّيما في أفقر الدول، حيث يزداد الاهتمام الدّولي، فإنّ المساهمة الوطنية نادراً ما تمثل أقلّ من سبعين في المائة من المجموع، وتبقى المساعدة الدولية التي تنتج عن هذا التعاون ضعيفة من ناحية الكمّ، إذن يصبح من الضروري القيام بمقاربة منظومية في التحليل لتقييم جودة التفاعل الثابت بين المستوى الوطني والمستوى الدولي، والمهمّ في هذه المساعدة الخارجية هي الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنه والتجارب الصّادرة منه". وبربط هذا المحتوى بالأحداث الراهنة خصوصاً بما يتعلق بدول صنفت اقتصادياً ب (دول نامية) أو (في طور النموّ)، فإنّ إشكالية تبعية الدّول النامية للدول (المتطوّرة) مستفحلة كلما ارتبطت بما يُسمّى "مساعدات" من هذه الدّول، وجعلت معتمدها الرئيسي عليها بالرّغم من ثبوت ضآلة مساهمتها في النهوض، خصوصاً بقطاع الاقتصاد الذي أصبح ركيزةً أساسيةً للاعتراف بوجود الدّول في معالم القوة. إذ إن أهمّ ما يمكن أن يساهم في "النهوض" انطلاقاً من التعاونات بين الدول مرتبط بعالم الأفكار، والتصوّرات الناتجة عنها". إشكاليات الثقافة والهويّة ونقرأ كذلك -حسب العَرْض الآنف الذكر-في هذا الكتاب الرّصين من جهة أخرى حول أهمية "الثقافة المتوسطية" التي تربط بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بل أكثر من ذلك ربط مستقبل هذه الدول ومستقبل قضاياها رهين بمستقبل الثقافة بها، على اعتبار أن الثقافة لها ارتباط عريق، وصلة وثقى بجميع جوانب الحياة، ولا يُمكن نسخ ثقافة مجتمع مّا، أو دولة مّا، في حيّز آخر تحت مُسمّى "نقل الثقافة"، لأنّ التعدّد وارد بحكم أن لا شمولية لثقافة مّا من جهة، ومن جهة أخرى باعتبار الثقافة نسبيّة، والموروث الثقافي هو مفتاح من مفاتيح التنمية، وبالتالي فإنّ أيَّ محاولة لتعميم ثقافة مّا، أو نقلها، أو استنساخها، وإجبارها ما هي إلاّ محاولة للتشتيت، والتفرقة، والهدم وليس البتّة البناء". ويقول المهدي المنجرة في هذا المجال: "إن إحدى القضايا الأساسية بالنسبة لدُول حَوْض البحر الأبيض المتوسط، تتعلق بمستقبل ثقافاتها، لأنّ هذا المستقبل مرتبط بجميع الجوانب الأخرى للتنمية الاستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية إلخ...أضف إلى ذلك أن هذا المستقبل غير قابل للانقسام، لأنّ هناك ثقافة متوسطيّة بكل ما تحملُ هذه الكلمةُ من معاني سامية". وعليه، فإنّ "الثقافة" بما تضمره من أبعاد –حسب المنجرة-لها وقعٌ عميق على مستقبل الشعوب ووجودها وارتباطاتها فيما بينها، وذلك نظراً لما لها من جذور ضاربة في عمق التاريخ، وما تكتنزه لواقع المستقبل، ويؤكّد المنجرة في هذا القبيل كذلك قائلا: "إن الفرَضية السّابقة قد يظهر فيها شيء من المبالغة بالنسبة لأولئك الذي لا يهتمّون بالماضي، ولا بالاطّلاع على كتب التاريخ، وحسب تجربتي، فإننّي أدرك أنّه كلما إزددتُ اهتماماً بالدراسات المستقبلية، زادني ذلك الشعور بالحاجة لترسيخ رؤيتي على أسس تاريخية صلبة". وفى مَعْرِض حديث المنجرة عن "الهويّة الثقافية" التي يعتبرها سبباً في وجود "منظومة القيم" وبغيابها تفشل المجتمعات في إثبات ذاتها أو هُويّتها يقول: "هناك فترات يؤدّي فيها الانفتاح التلقائي وليس الانتقائي إلى غزو كبير، وإضعاف أعزّ ما للإنسان وهي هُويته الثقافية". ويركّز المفكّر المنجرة –حسب تقية محمّد- على ضرورة صَيْرُورَة حَرَكية "التعلّم" من المهد إلى اللّحد، منبّها إلى ما يُمكن أن يجابه أو يعوق المسيرةَ العلمية بين هاتين المحطتين مستقبلاً، مشدِّداً على أن أهمّ عنصر من عناصر التعلّم هي "القيم"، قائلا في هذا المضمار: "وأهمّ عناصر التعلّم هي القيم، وعندما نشير إليها كعناصر، فإنّنا نؤكّد على دورها الفعّال في عملية التعلم، فقيمة البقاء مع الكرامة يمكن أن تكون ذات آثار مباشرة في التوجيه، وأنّ ظهور القيم هو ظهور الحدّ الفاصل بين الذاتية، والموضوعية، وبين الحقائق، والأحكام، وبين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، وبين العلم والأخلاق، والأحكام وبين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية، وبين الغايات والوسائل، وبين المعقول، واللاّمعقول". كان يرى بعيداً كالصّقر ويحلّق عالياً كالطائر قيل فيه، أو بالأحْرَى قيل عنه: "من حسن حظ المغاربة أن المهدي المنجرة هو واحد منهم، وإذا كانت لدى جنوب إفريقيا مناجم الذهب، ولدى مصر الأهرام، ولدى البرازيل القهوة، فلدى المغرب الفوسفاط والسّمك والمهدي المنجرة. يرى بعيداً مثل صقر، ويحلّق عاليا كطائر، ويتكلّم مثل حكماء الجبال في الصّين القديمة". قال عنه "ميشال جوبير" ذات مرّة: "إن الجلوس بجانب هذا "المنذر بآلام العالم ومآسيه" لساعاتٍ طويلة يترك لديك انطباعاً بأنّك أمام رجل يشتغل في شباب كامل، مثل تلميذ يعالج واجباته المدرسية كما يليق". جاب هذا الطائر الحكيم أزيدَ من مائة وأربعين دولة عبر العالم في تجربته الغنية مع الحياة، والمعرفة، حاور ثقافات، وجاور معالم حضارية، ولامس أفكاراً وناظر عقولاً، وعاد ليجلسَ على كرسيّ صغير في غرفة ضيّقة تحوطها كتب بكل اللغات ليقول لك الخلاصة: "بهذا يعرف الله"! إنه المهدي المنجرة رجل واحد بصيغة المجموع، إنّه المفرد حين يكون جمعاً. شهادات وأقوال كانت جمعيَّة "أماكن"، المغربية قد نظمت بالمدرسة العليا للتعليم التقني بمدينة الرّباط لقاءّ فكريّاً على إثر رحيل المهدي المنجرة، قدّم خلاله ثلّة من الاساتذة، والباحثين والمفكّرين المغاربة الذين عرفوا المنجرة شهادات، ومداخلات حول فكره، وأعماله، ومسار إبداعاته، كما تمّ خلال هذا اللقاء الإعلان عن خلق مؤسّسة تُعنى بفكر المفكّر الراحل. وقال الباحث الأستاذ مصطفى محسن أثناء هذا الملتقىَ في هذا السياق: "لقد كان المهدي المنجرة مثقفًا مستقلًا، يستعصِي حصرهُ في أيِّ زاوية، وحريصاً كبيرَ الحِرص على مجابهة الغوغائيَّة، والانتهازيَّة وتحنيط الأفكار، وذلك تحديدًا ما جرَّ عليه نقدًا عنيفًا". ورصد الأديب الباحث يحيى اليحياوِي -من جهته -في المناسبة نفسها على وجه الخصوص علامتين اثنتين طبعتا فكر المهدي المنجرة، وعملَه، واشتغالَه، ومباحثَه، أولى هاتين الخاصّيتين الإيمان بالمنظومة، كما يتبدَى ذلك في أعماله بدءاً من ستينيّات القرن الماضي، إلى أن أنهكه المرض سنة 2010، كما أنه حسب تعبير الأستاذ اليحياوي: "كان موقنًا أن التطرّق إلى أمرٍ من الأمور لا يمكنُ أن يتحقق دُون ربطه بباقي العناصر الأخرى". وفي معرض الشهادات والمداخلات التي قدّمها المثقفون المغاربة في مختلف المناسبات منذ رحيل المنجرة، أشاد المتدخّلون بهذا المثقف الموسوعي، واستحضروا الفكر الخلاّق لهذا الرجل الذي- عكس ما كان يعتقد البعض- كان زاهداً في المناصب العليا؛ وذلك ما ذهب إليه وأكّده الباحث الأستاذ عبد الرحمن لحلُو، الذي أشار في هذا الصدد إلى أن "المهدِي المنجرة هو الذِي كان زاهدًا فيها بالأحرى، مختاراً لنفسه ملازمة الكلمة الحرّة، التي تضيقُ بقالبٍ مؤسّساتي ينزعُ إلى توجيهها، كان إنساناً مبدئيّاً، وحتَّى لغات العصر المتداولة التي أتقنها، فنهل بها من الفكر الغربِي، لمْ تجعله ينصرفُ عن لغته، ولا هي جعلته يحجمُ عن الانتصار لها". إنّه المثقّف والمفكّر، الإنسان. وقال الباحث الأستاذ سعيد السالمي مُحقّاً ضمن مقال رصين نشره مؤخراً حول المهدي المنجرة: "ميزة المنجرة أنه كان يطوع التاريخ والاقتصاد والجغرافيا والسياسة والدبلوماسية والديموغرافيا والعوامل الثقافية لتحليل مجريات الأحداث، واستشراف المستقبل المتوسط والبعيد، بعيداً عن المعادلات الجيوبوليتيكية المُبسطة. هذه الميزة هي التي جعلته يتبوأ مكانة مرموقة في الأوساط الفكرية السياسية الدولية". رحم الله هذا الإنسان النبيل الذي هَضَم زمانَه، وبذّ عَصْرَه. *(حيّ المَزمّة، أجدير الحصين)-عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا