انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي و"طرد البوليساريو".. مسارات وتعقيدات    بايتاس يُشيد بالتحكم في المديونية    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    هل تغيّر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية من معادلة الصراع في الشرق الأوسط؟    هاريس وترامب يراهنان على المترددين    مشفى القرب بدمنات يواجه أزمة حادة    طرائف وحوادث الإحصاء    "النملة الانتحارية".. آلية الدفاع الكيميائية في مواجهة خطر الأعداء    بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    بذل عمل جديدة لعناصر الجمارك "توضح تراتبية القيادة" شبه العسكرية    الشرطة توقف مروج كوكايين في طنجة    فاتح شهر ربيع الآخر 1446 ه يوم السبت 5 أكتوبر 2024    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت وتقارير إعلامية تتحدث عن استهداف هاشم صفي الدين    المياه المعدنية "عين أطلس" لا تحترم معايير الجودة المعمول بها    رسميا: فيفا يعلن عن موعد انطلاق مونديال كرة القدم سيدات تحت 17 في المغرب    الحسيمة.. عائلة من افراد الجالية تتعرض لحادثة سير خطيرة على طريق شقران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    إسبانيا على وشك خسارة استضافة مونديال 2030 بعد تحذيرات الفيفا    المنظمة العالمية للملاكمة تقرر إيقاف الملاكمة الجزائرية إيمان خليف مدى الحياة    الملك يهنئ رئيس الحكومة اليابانية الجديدة    أسعار النفط العالمية ترتفع ب 5 في المائة    "مجموعة العمل من أجل فلسطين": الحكومة لم تحترم الدستور بهروبها من عريضة "إسقاط التطبيع" ومسيرة الأحد تؤكد الموقف الشعبي    مومن: قائمة المنتخب المغربي منطقية        بايتاس: الحكومة تتابع عن كثب أوضاع الجالية المغربية المقيمة بلبنان    مشروع هام لإعادة تهيئة مركز جماعة "قابوياوا"    "درونات" مزودة بتقنية الذكاء الاصطناعي لمراقبة جودة البناء    الركراكي: الانتظام في الأداء أهم المعايير للتواجد في لائحة المنتخب المغربي    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    الركراكي يساند النصيري ويكشف هوية قائد المنتخب        أخبار الساحة    أعترف بأن هوايَ لبناني: الحديقة الخلفية للشهداء!    مهرجان سيدي عثمان السينمائي يكرم الممثل الشعبي إبراهيم خاي    قراصنة على اليابسة    مقاطع فيديو قديمة تورط جاستن بيبر مع "ديدي" المتهم باعتداءات جنسية    عبد اللطيف حموشي يستقبل المستشار العسكري الرئيسي البريطاني للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    استدعاء وزراء المالية والداخلية والتجهيز للبرلمان لمناقشة تأهيل المناطق المتضررة من الفيضانات    "جريمة سياسية" .. مطالب بمحاسبة ميراوي بعد ضياع سنة دراسية بكليات الطب    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    جائزة نوبل للسلام.. بين الأونروا وغوتيريس واحتمال الإلغاء    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    مؤتمر علمي في طنجة يقارب دور المدن الذكية في تطوير المجتمعات الحضرية    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    القطب الرقمي للفلاحة.. نحو بروز منظومة فلاحية رقمية فعالة        وقفة أمام البرلمان في الرباط للتضامن مع لبنان وغزة ضد عدوان إسرائيل    مندوبية طنجة تعلن عن منع صيد سمك بوسيف بمياه البحر الأبيض المتوسط    المغرب يشرع في فرض ضريبة "الكاربون" اعتبارا من 2025    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    مغربي يقود مركزاً بريطانياً للعلاج الجيني    الرياضة .. ركيزة أساسية لعلاج الاكتئاب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    دراسة: التلوث الضوئي الليلي يزيد من مخاطر الإصابة بالزهايمر    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المهدي المنجرة .. رحيل عالم المستقبليات
عاش تقلبات فكرية واتخذ مواقف جلبت عليه غضب الكثيرين في الداخل والخارج
نشر في المساء يوم 17 - 06 - 2014

يوم الجمعة الماضي رحل المفكر المغربي الأكثر شهرة، الدكتور المهدي المنجرة، عن عمر يناهز الإحدى والثمانين سنة، في بيته بالرباط بعد مرض لازمه طيلة السنوات الست الماضية وألزمه فراشه. وكانت "المساء" الجريدة الوحيدة التي قامت بزيارته آنذاك، سنة 2009، وكتبت عنه للتذكير به ضد النسيان. وقد كان المنجرة أشهر مفكر مغربي لعدة أسباب، فهو لم يكن كاتبا نخبويا يتوجه إلى النخب فحسب، بل كان يستهدف الطلبة ورجل الشارع والتاجر والعامل ومختلف الشرائح، وكان اسمه معروفا ومتداولا على أوسع نطاق. كما أن كتبه كانت تلقى رواجا منقطع النظير في مجتمع لا تنتشر فيه قيمة القراءة. في هذا الملف، الذي نعده بمناسبة رحيله، نعيد تركيب مسار حياته خطوة بخطوة، كما سجلناها معه في مناسبات متعاقبة منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى ما قبل مرضه، سواء في بيته أو بالمركز الوطني للبحث العلمي والتقني بحي أكدال بالرباط، الذي منح له مكتبا خاصا فيه منذ عام 1981 تشريفا لموقعه ولعمله الدؤوب في هذا المجال. وقد سبق لجريدة "المساء" أن أجرت معه حوارا مطولا أيضا عن مساره الشخصي والفكري، نشر على حلقات عام 2007. ونشير من باب الأمانة إلى أن هذا العمل، الذي قامت به "المساء" عن الدكتور المنجرة، هو الأوسع من نوعه بعد ذاك الذي قام به الصحافي والشاعر حسن نجمي في يومية "الاتحاد الاشتراكي" في منتصف التسعينيات، ونشر لاحقا في كتاب "المهدي المنجرة، مسار فكر".
ولد المهدي المنجرة في 1933 بالرباط، في حي يوجد خارج سور المدينة القديمة كان يحمل اسم حي «مراسا». هذا البيت يوجد في مكانه اليوم المقر الرئيس لحزب الاستقلال. كان والد المهدي، امحمد المنجرة، أحد التجار المغاربة في الثلاثينيات، الذين كان السفر جزءا من مهنتهم. وقد نشأ المهدي في وسط عائلي تطبعه القيم المسلمة والدعوة السلفية،إذ كان جيران عائلة المنجرة من رجالات الوطنية والسلفية مثل الفقيه محمد بلعربي العلوي، الذي كان صديقا لوالد المهدي .
لم تكن مدن مغرب الثلاثينيات تشهد الفوارق الاجتماعية الصارخة. كما لم تؤثر هذه الفوارق، التي وجدت ككل زمان، على العلاقات بين الناس داخل الأحياء السكنية، بسبب تجذر القيم الأصيلة في نفوس الناس، فهم يختلفون إلى نفس المتجر، ويدخلون أبناءهم إلى نفس المسيد، ويذهبون إلى نفس الحمام، ويسيرون جميعا خلف الجنائز، ويحضرون الأعراس جماعات متجانسة. هذا النسيج الاجتماعي هو ما ساعد فيما بعد الحركة الوطنية في مهماتها النضالية والجهادية، لأن النخبة الوطنية لم تنشأ معزولة عن الناس، بل بينهم، واستندت على هذا الرصيد من التماسك الاجتماعي ووجود الإسلام حيا في قلوب الناس كمنظور حضاري وليس فقط كمجرد دين، يقول المنجرة.
في هذا الوسط الشعبي المتحفز ضد «الكولونياليزم»، الكلمة التي كانت شائعة لتسمية الاستعمار الفرنسي وسط المغاربة، فتح الطفل المهدي عينيه على العالم والناس والأشياء، وبدأ يتهجى الحروف الأولى للتواصل مع الآخرين. وبسبب علاقات والده مع رجال الحركة الوطنية وقيادات العمل الوطني احتك الطفل في سنواته الأولى بعالم الوطنية، ورافق والده إلى دار جده المريني حيث كانت تجرى التجمعات التي يقيمها العلماء.
الحياة في البيضاء
في بداية الأربعينيات سيدخل المهدي «ليسي غورو» لمتابعة تعليمه الابتدائي. كان ذلك في 1941. لكن دراسته في هذه الثانوية لم تخل من المصادمات التي يمكن أن تكون طبيعية بالنسبة للفتى الذي تشرب معاني الوطنية ومعاداة الاستعمار داخل البيت قبل الشارع. ولأن والده كان كثير التنقل بين الرباط والدار البيضاء في إطار عمله في عالم الأعمال قرر بعد اندلاع الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية الهجرة إلى البيضاء والاستقرار فيها، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة المهدي الصغير.
الدار البيضاء في النصف الأول من الأربعينيات مدينة مشتعلة ومتوترة، خليط من الناس والرغبات مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، والمواجهات مع المستعمرين والمعمرين في البوادي والقرى حولها. وهنا سيتابع الطفل المهدي حياته ليكتشف حضور قيم الجوار والتآخي بين المغاربة. تلك المعاني التي يقول المنجرة إنها اليوم افتقدت، ولا أحد أصبح يتحدث عن «الجار قبل الدار». كان الغني الموسر إذا أعطى الفقير لا يفعل ذلك باعتباره صدقة، بل باعتباره حقا واجبا، وإذا جفف أحد السكان الزيتون أو القديد مثلا، ونشره على سطح البيت ورآه الجيران فلابد أن يوزع ما تيسر. كان مفهوما الإحسان والخير جزءا من حياة المغاربة الأصيلة، كما كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ جماعيا في كل مكان.
في الدار البيضاء سيزداد الوعي السياسي للفتى المهدي، وهناك كان عدد من الوطنيين، الذين اقترب منهم كالقاضي الزموري والمهدي الصقلي، الذي كان صديقا لوالده، وسمى ابنه باسمه.
تشكل الوعي السياسي المبكر لدى الفتى، في الجو العام في الأربعينيات، من خلال كرة القدم وفريق الوداد البيضاوي الذي قاده الحاج بنجلون، الذي كان زعيما سياسيا ورياضيا، وحلقة الحسين السلاوي، التي كان المهدي يواظب على حضورها في «باب الجديد»، قبل أن يعود إلى درب التازي حيث بيت الأسرة قرب المعرض الدولي اليوم، والذي كان مسبحا يختلف إليه المهدي مع أقرانه. هناك أيضا كان يحضر مع الآخرين صندوق العجب الذي كان يتفرج عليه الناس بعجب واندهاش شديدين، ويشبهونه بالسحر. كان ذلك صدمة السينما في بدايتها.
التحق المهدي بمدرسة الأعيان بحي موغادور، وفي نفس الوقت كان يتابع تعليمه بالمسيد، وتعليما ثانيا بالبيت حيث كان إدريس الكتاني ومصطفى الغرباوي يعلمانه وإخوته الثلاثة (الأخوان الشقيقان والشقيقة نجية) اللغة العربية.
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سيلتحق المهدي ب»ليسي ليوطي»، التي لم يكن يتجاوز عدد التلاميذ فيها الخمسين، وعدد المغاربة بينهم لا يزيد عن العشرة. في «ليسي ليوطي» سيشحذ المهدي إحساسه الوطني جيدا، وسيتعلم اتخاذ المواقف وتحديد الاختيارات.
كانت هناك خليتان حزبيتان في «ليسي ليوطي»، الأولى تابعة لحزب الاستقلال، يرأسها عبد الرحمان اليوسفي، والثانية تابعة لحزب الشورى والاستقلال يسيرها أحمد بلهاشمي، فكان المهدي يحضر اجتماعات الخليتين معا، بحافز الوطنية ومعاداة الاستعمار الفرنسي، ولكنه لم يفكر في الانخراط بأي منهما أو في أداء قسم الولاء، إذ ظل فقط مستقلا.
وإلى جانب هذا النشاط كانت للمهدي الفتى نشاطات أخرى، إذ كان يحضر التجمعات الشعبية، التي ينظمها الوطنيون في دار بنجلون وغيرها. ويتذكر المهدي حضوره الحفل الكبير الذي أقيم هناك بمناسبة عودة علال الفاسي من منفاه بالغابون. ويقول المنجرة إنه كان، وهو فتى، يرى في علال الفاسي رجلا مثاليا وعالما سخر علمه لخدمة قضايا أمته ومحاربة الجهل والتخلف الفكري.
النموذج التربوي
عاش المهدي المنجرة في وسط عائلي موسر. وكانت أسرته من أوائل الأسر التي أدخلت الراديو إلى البيت والسيارة إلى المغرب، وارتبطت بشبكة الهاتف. لذلك لم تكن لديه مشكلة مع المعاصرة منذ البداية. يستعمل المنجرة كلمة المعاصرة أو المدنية ولا ينطق بالحداثة إلا بين قوسين. تلقى تربية سلفية على يد والده ووالدته، التي كانت من أوائل النساء اللواتي كن يختلفن إلى «دار المعلمة»، وهي ما يقوم مقام المسيد بالنسبة للرجال.
يقول المنجرة إن والده شجع أبناءه منذ النشأة على الحرية والتعبير التلقائي والحر عن أفكارهم وآرائهم، ولم يفرض عليهم مواقف من أي نوع. ويضيف أن هذه القيم لا تزال جزءا من تكوينه ومن شخصيته. كان والده يطالبه فقط بالتمييز بين الأمور الرئيسة والأمور الثانوية، وأدخل في نفسه القدرة على التحليل والاختيار بين عدة اختيارات، وعلمه التركيز على الأولويات والنزاهة ومحاربة الغش. ويدرك المهدي أن والده فهمه جيدا، فلم يأمره يوما بالصلاة أو الصوم مثلا، بل كان يكتفي بإعطاء المثال والقدوة. كان الوالد مثقفا كون نفسه بنفسه، إذ فرضت عليه تجارته التجول في دول أوروبية وإفريقية، وكان يتحدث ست أو سبع لغات. لذلك لم يجد المهدي مشكلا مع المعرفة والثقافة داخل الأسرة.
بالنسبة للمنجرة، فإن أفضل وسيلة بيداغوجية في تربية الأبناء هي المثال والنموذج. إذ لديه ابنتان هما الآن زوجتان وأمّان، وله أحفاد منهما. ويقول إنه لم يتدخل أبدا في حياتهما أو في دراستهما أو في زواجهما، فقد اختارتا حياتهما بحرية، وهو سعيد لأن طريقته في التربية كانت ناجحة. ويقول: «لا يمكن أن أكون أكبر مدافع عن الحرية والاختيار ولا أمارس ذلك في بيتي». لكن الأمر أصبح صعبا اليوم، دون أن يفقد هذا النموذج أهميته، فقد أصبح دور الخارج في التربية بنسبة 70 في المائة مقابل 30 في المائة فقط هي نسبة الدور الذي يقوم به البيت والمدرسة. لكن بالأمس كانت النسبة بين الاثنين منقلبة.
فلسفة المهدي المنجرة في التربية توجد في بضع كلمات: إذا ربيت أبناءك على نمطك وثقافتك الشخصية، وعاشوا على نفس قيمك دون أن يضيفوا لها شيئا، فإنك تكون قد فشلت في التربية.
من السجن إلى نيويورك

واجه المهدي المنجرة في طفولته عدة مشاكل في دراسته مع الأساتذة الفرنسيين، الذين كانوا يدرسونه، سواء في «ليسي غورو» أو «ليسي ليوطي». ويقول إن هذه المشاكل كانت ترجع إلى تشبثه بهويته الوطنية ومعاداته للاستعمار وثقافته، فقد كان من بين الأمور التي يرتضيها الأساتذة الفرنسيون الثناء على المحتلين والإشادة بالثقافة والحضارة الفرنسيتين في تمارين الإنشاء، وهو ما كان المهدي يرفضه.
ويحكي المنجرة واقعة حدثت له في بداية 1948، يعتبرها فاصلا في مسار حياته وشخصيته، ولا يكف عن التذكير بها، فقد ذهب إلى مدينة إفران في ذلك العام، وبينما كان في المسبح، اقترب كلب إحدى الفرنسيات من ماء المسبح، فاحتج أحد الفرنسيين، فأجابه آخر : «إذا كان هناك عرب يسبحون، فلِمَ يمنع ذلك على الكلاب؟». ويضيف المنجرة أنه لم يتمالك نفسه فقفز نحو ذلك الرجل وضربه. ولم يكن ذلك الشخص سوى رئيس الأمن الإقليمي لمدينة إفران. اقتيد المهدي إلى مركز الشرطة حيث قضى بضعة أيام رهن الاعتقال بدون علم أسرته ووالده. ومنذ تلك الفترة، يقول المنجرة إنه تعلم كيف يقف ضد الغطرسة الثقافية ويناصر مبادئ حقوق الإنسان.
ذلك الحادث أقنع والده بضرورة إرساله إلى الخارج لمتابعة دراسته بعد أن أصبح ذلك في المغرب متعذرا. ولم يكن ممكنا أن يختار له فرنسا، فأرسله إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كان ذلك بضعة أشهر بعد ذلك الحادث.
الشخصية الأمريكية

وصل المهدي المنجرة إلى أمريكا عام 1948، وهي سنة مليئة بالأحداث والتطورات. ففي تلك السنة اعترفت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بقيام الكيان الصهيوني، وفيها وقعت الحرب العربية الإسرائيلية، وفي نيويورك التي وصلها وجد اللوبي الصهيوني اليهودي ناشطا بقوة لجمع التأييد والتبرعات للكيان الجديد، وعايش الضغوط اليهودية على الساسة الأمريكيين. وهناك بدأ يتحرك لصالح القضية العربية وفلسطين في الجامعة، حيث أسس النادي العربي وعمل مديرا للمجلس الدولي للطلبة.
نشط المهدي منذ سنة 1951 في مكتب حزب الاستقلال رفقة المهدي بنعبود، الذي كان سفيرا للمغرب بواشنطن وعبد الرحمان بن عبد العالي وآخرين، وتجند لصالح استقلال المغرب. كما نشط في مكتب تونس عندما جاء باهي الأدغم إلى نيويورك في الخمسينيات، وعمل مع الحسين آيت أحمد ومحمد اليزيد حين التحق بأمريكا وأسس مكتب الجزائر.
كان المنجرة يتحرك بين المكاتب الثلاثة وينشط فيها على السواء، ويتحرك على أساس توجه مغاربي أوسع. ويقول إن تلك التجربة أقنعته بالنظر إلى المغرب كمفهوم واسع مرتبط بالمغرب العربي ككل، «ويوم تتحرر المنطقة ستتحرر كل دولة على حدة، وما زال هذا المطلب مطروحا إلى اليوم لأن الاستقلال لم يتم». أما فكرة الحدود فلا يؤمن بها المنجرة، فما يفصل دول العالم الإسلامي أو دول المغرب العربي مجرد حدود خلقها الاستعمار الحديث وما زال يغذيها.
من الناحية النفسية والثقافية، يقول المنجرة إن سفره إلى أمريكا في نهاية الأربعينيات كأول طالب مغربي يلتحق بالجامعة الأمريكية لم يشكل أي صدمة له، لأن الحوار والتواصل كانا جزءا من قيمه في الحياة، «ولا يقع الاصطدام مع ثقافة معينة إلا حينما تهاجمك هذه الثقافة في ثقافتك وقيمك». لكن حياته وتجربته في أمريكا كونتا لديه تصورا معينا للشخصية الأمريكية.
لقاء مع محمد بن عبد الكريم
دامت إقامة المنجرة في أمريكا ست سنوات كانت غنية بالنسبة لرصيده المعرفي والثقافي والسياسي. إذ اشتغل على عدة واجهات، وكان أحد مؤسسي «جمعية المسلمين» والنادي الشرقي. كما كان عضوا في جمعية «من أجل عالم واحد». وفي 1954 عند نشوب الحرب بين أمريكا وكوريا طلب منه كباقي المهاجرين الذين يتوفرون على «الورقة الخضراء» أن يستعد للتجنيد، فرفض، وكان السبب نفوره من كل ما هو عسكري ومن كل ما يرمز إلى القتل والتدمير والعنف.
في تلك السنة سافر المنجرة إلى لندن لتحضير أطروحة الدكتوراة حول الجامعة العربية. وفي السنة الموالية (1955) سيحصل على منحة من مؤسسة روكفلر مكنته من السفر إلى مصر مدة ثلاثة أشهر للالتقاء بعدد من المسؤولين في الجامعة العربية، وهناك التقى بعدد من الطلبة المغاربة كعبد الكريم غلاب وعبد القادر الصحراوي، وكانت له فرصة للقاء بزعيم حرب الريف المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي وشقيقه امحمد. بالنسبة للمنجرة فإن هذا اللقاء مناسبة لا ينبغي نسيانها.
لقاءان مع الملك محمد الخامس
في تلك المرحلة كانت القضية الوطنية قد دخلت منعطفا ساخنا بعد قرار السلطات الفرنسية نفي الملك الراحل محمد الخامس. وقد عاش المهدي هذه الظروف في لندن وفرنسا حيث كان واحدا من الطلبة المغاربة الذين استقبلهم محمد الخامس في العاصمة الفرنسية بعد عودته وأفراد عائلته من المنفى. لكن المنجرة، الذي استقبله الملك الراحل في فرنسا كطالب قبل الاستقلال، سيستقبله بعد الاستقلال في الرباط عام 1959 كأول أستاذ مغربي في كلية الحقوق، ويعينه مديرا للإذاعة المغربية خلفا لقاسم الزهيري.
مديرا للإذاعة والتلفزة

في عام 1954 عين المنجرة مديرا للإذاعة والتلفزة المغربية. وهي فرصة مكنته من الانفتاح على الفنون بشتى أنواعها. لكنه لم يستمر طويلا على رأس الإذاعة، إذ سرعان ما قدم استقالته والتحق بمنظمة اليونسكو عام 1962 مديرا لديوان المدير العام للمنظمة روني ماهو. ويعتبر المنجرة تجربة العمل مع ماهو تجربة خصبة أغنت رصيده العلمي والثقافي والقيمي. كما شكلت سنوات العمل في هذه المنظمة رحلة ثقافية هامة في حياة الدكتور المهدي، إذ كانت المنظمة سنوات الستينيات ساحة حرب حقيقية على الصعيد الثقافي بين الدول الغربية المنقسمة إلى معسكرين، معسكر غربي وآخر شرقي. كما كانت ساحة للصراع الثقافي بين النموذج الفرنسي والنموذج الأمريكي، الذي كان يسعى إلى الهيمنة الثقافية والقيمية على العالم. ومن هنا برزت حساسية الدكتور المنجرة ضد الثقافة الأمريكية بشكل خاص وثقافة الهيمنة والقوة بشكل عام.
خلال تلك المرحلة تعرف المنجرة على أسماء كبيرة في المشهد الثقافي والفكري الفرنسي والعالمي، أمثال أندريه مالرو، المفكر والروائي الفرنسي الذي عمل وزيرا للثقافة في عهد ديغول. وبالرغم من أن المنجرة لا يرى جدوى من تولي المفكرين والمبدعين مسؤوليات حكومية، ويعتبر أن تلك المسؤوليات تحرق رصيدهم، إلا أنه كان لديه تعليق طريف على تولي مالرو حقيبة وزارة الثقافة، إذ يقول إن مالرو تولاها في عهد ديغول، وهي مصادفة لا تتكرر لأن ديغول شخص نادر ومالرو شخص نادر.
رائد المستقبليات
ترأس المنجرة الفيدرالية الدولية لدراسات المستقبل بين عامي 1977 و1981، وأدار مجلة «فوتوريبل» المتخصصة في علم المستقبليات التي تصدر بفرنسا.
وبالموازاة مع عمله في منظمة اليونسكو، تقلد المنجرة عدة مناصب على الصعيدين الوطني والدولي، وساهم في تأسيس الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، والأكاديمية الإفريقية للعلوم، والأكاديمية الدولية للفنون والآداب.
وقد غذت هذه التجارب فكر المنجرة وجعلته رجلا متعدد الروافد، منفتحا على مختلف المعارف والثقافات. ولذا صب جل اهتمامه على القضايا الحضارية الكبرى وعلوم المستقبليات، باعتبار هذه الأخيرة انعكاسا لمسار الحضارات. وكان يشدد كثيرا على الخصوصية الحضارية إلى حد التعصب، لأنه كان واعيا بأنه بدون خصوصية لا يمكن الانخراط في الحضارة العالمية، التي هي مساهمات مختلفة للحضارات والثقافات البشرية. وكان يحذر كثيرا من الهيمنة الثقافية الغربية والأمريكية بوجه خاص، وفرض نمط معين من القيم الحضارية على باقي الشعوب. ولذلك كان كتابه ذائع الصيت، الذي جمع فيه الكثير من مقالاته ودراساته وحواراته الصحافية تحت عنوان «الحرب الحضارية الأولى: مستقبل الماضي وماضي المستقبل» ذا دلالة خاصة. فقد جمع الكتاب ونشره عام 1991 مع اندلاع الحرب الخليجية الأولى بعد الغزو العراقي للكويت، والهجوم العسكري للتحالف الدولي بقيادة أمريكية على العراق. وقد كان تصور المنجرة أن تلك الحرب هي حرب حضارية تستهدف ضرب المقومات الحضارية للعراق، وليس مجرد طرد الاحتلال العراقي من الكويت.
ويعتبر المنجرة أول شخص ينحت مصطلح «الحرب الحضارية»، أو على الأقل يضمن له الانتشار الواسع بعد نجاح كتابه، إلى حد أن الأمريكي صمويل هنتنغتون صاحب كتاب «صدام الحضارات» الصادر عام 1996 ذكر في مقدمة كتابه أن المفكر المغربي المهدي المنجرة كان السباق إلى استعمال مصطلح صراع الحضارات.
وقد حصل المنجرة على عدة جوائز، من بينها جائزة الحياة الاقتصادية سنة 1981، والميدالية الكبرى للأكاديمية الفرنسية للمعمار سنة 1984، وقلادة الفنون والآداب بفرنسا سنة 1985، وقلادة الشمس الشارقة باليابان سنة 1986، وميدالية السلام من الأكاديمية العالمية لألبير إنشتاين، وجائزة الفيدرالية الدولية للدراسات المستقبلية سنة 1991.
‏ وللمنجرة عدة كتب باللغات العربية والفرنسية، والمئات من البحوث والدراسات بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وقد ترجمت جل كتبه إلى عدة لغات، خصوصا كتابه «الحرب الحضارية الأولى». ومن بين مؤلفاته الأخرى: «من المهد إلى اللحد»، الذي ألفه بشراكة مع باحثين آخرين في السبعينيات، بتكليف من منظمة اليونسكو، حول قضية التعليم، و»حوار التواصل»، الذي صدر عن «سلسلة شراع» بطنجة، و»الإهانة في عهد الميغا إمبريالية»، و»عولمة العولمة»، و»انتفاضات في زمن الذلقراطية».
ادريس الكنبوري
درس المهدي المنجرة.. عالم مستقبليات فَضَحَنا في حياته وفي مماته
هذه مقالة عابرة لا علاقة لها بظاهرة الساحة، والتي من المفترض أن تستمر طيلة أيام، كما جرت العادة، ومفادها أن الكل سُيصبح منجريا اليوم، على هامش رحيل عالم المستقبليات الأبرز في المجال التداولي الإسلامي برمته (نسبة إلى المسلمين عامة)، تماما كما أصبح الكل جسوسيا بعد وفاة محمد جسوس، وجابريا بعد وفاة محمد عابد الجابري، وهكذا دواليك...
بسبب هذه الهرولة، إذن، سوف نعاين منذ الآن جولات من التوظيف الفكراني (الإيديولوجي) على هامش رحيل عالِم المستقبليات المهدي المنجرة. وهذا أمر متوقع من طرف بعض الفكرانيات التي ساهمت في تكريس الحصار الثقافي والإعلامي المضروب على علمه وشخصه، وتريد اليوم إقناع الخاصة والعامة بأنها «صادقة» في هذا الاحتفال العلمي الجنائزي، آخرها احتفالية قادمة في ناد ثقافي، يقوده فاعلون ينهلون من مرجعية طائفية!
بين أيدينا لائحة عريضة من الشواهد والأدلة التي تصب في أحقية الحديث عن مسؤولية أخلاقية كبيرة لهذه الفكرانيات في تكريس هذا الحصار ضد عالِم رفض أن يكون قلما يُطبل باسم هذه الفكرانية أو تلك، وسوف نتوقف عند مثلين دالين:
1 من يقرأ أعمال المنجرة، سواء تعلق الأمر بمؤلفاته أو محاضراته أو ما نُشر عنه هنا وهناك، سوف يصطدم بمفارقة صارخة: التوظيف السياسي/ السياسوي لمواقفه النقدية ضد الحكومات المتعاقبة على الحكم في الساحة المغربية.
تفيد هذه المفارقة أن بعض أحزاب المعارضة كانت تستفيد كثيرا من الترويج لمواقف وانتقادات المنجرة لصانعي القرار الحكومي على الخصوص ولو أنه ُيُحسبُ له عدم شخصنة الأمور في مؤسسة أو شخصية أو تيار، بحكم أنه كان يتحدث بشكل عام ودقيق في آن ولكن بمجرد ولوج هذه التيارات الفكرانية والسياسية مرتبة التدبير الحكومي، تطبق منابرها الإعلامية الصمت على أعمال ومواقف المنجرة، لأنها لا تخدم مصالحها الاستراتيجية.
حدث هذا مع الحكومات المغربية، قبل وبعد أحداث «الربيع المغربي»، ويكفي تأمل حضور المنجرة في هذه المنابر: سوف نجده في منابر المعارضة الحكومية، ولكن لن نجد له أي أثر في منابر الأحزاب الحكومية. ومن يعاين مضامين منابر إعلام حكومة «الربيع المغربي»، سيصطدم بهذا المعطى الفاضح، الغني عن كثير تأويل أو تفكيك؛ (وبالرغم من ذلك، لن تتردد نفس المنابر اليوم، بعد التأكد من رحيله، في الترويج لاسم المنجرة باعتباره كذا وكذا، مع أنه طيلة سنوات من تدبيرها العمل الحكومي لم تكن تتحدث عنه البتة).
2 على هامش التفاعل «البحثي» مع أحداث «الربيع العربي»، سوف تصدر حركة إسلامية مغربية كتابا في الموضوع، كان ذلك في غضون العام 2012، وجاء الكتاب تحت عنوان «الربيع العربي وأسئلة المرحلة». (صدر الكتاب عن منشورات «مجلة الهدى» (الكتاب الأول)، 264 صفحة من الحجم المتوسط، ط 1، 2012).
لا يهمنا اسم الجماعة، لأن دلالات الحدث تنطبق على باقي الفصائل الفكرانية، سواء كانت تنهل مما يُصطلح عليه ب»المرجعية الإسلامية» (نسبة إلى التيار الإسلامي الحركي، في شقيه الإخواني أو السلفي) ، أو تنهل من مرجعية مغايرة.
تضمن قراءة أنجزها عبد العظيم صغيري (أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بمؤسسة دار الحديث الحسنية) في كتاب «الحرية أو الطوفان»، وهي دراسة للكاتب حاكم المطيري في غضون سنة 2003، أي قبل ثمان سنوات من أحداث الحراك العربي، دون أن يُشير مُحرر المقالة، ولا مقدمة العمل (وهو عمل جماعي، تضمن تجميع العديد من الدراسات والمقالات) إلى أن هذا الاحتفاء «البحثي» بكتاب صادر سنة 2003، تنبأ فيه مُحرره بأحداث الحراك العربي، سبقه كتاب صادر في مجالنا التداولي الإسلامي المغربي، والإحالة هنا على كتاب «انتفاضات في زمن الذلقراطية» للمهدي المنجرة دون سواه (صدر في غضون 2000، ثلاث سنوات قبل كتاب «الحرية أو الطوفان»)، لولا أن مقتضيات الحسابات الفكرانية تحول دون ذلك، ما دام المنجرة يرفض الانتماء إلى هذه الفكرانيات، متبنيا الدفاع عن قضايا شعوب العالم الثالث، وداعيا إلى الحق في الاختلاف وشرعية التشبث ب»قيم القيم» (أحد عناوين أعماله).
بما أن التاريخ يُعيد نفسه، ولكن بشكل سيء، فقد تكرر نفس الأمر مع المنجرة: في مرة أولى كان الحدث عالميا/ كونيا، عندما طبقت النخبة الثقافية والإعلامية الصمت على سبق المنجرة بالترويج لأطروحة التدافع الحضاري، وقد صدرت دراسات ومقالات في المقارنة بين ما ذهب إليه المنجرة المغربي («الحرب الحضارية») وصمويل هنتنغتون الأمريكي (صدام الحضارات)، قبل أن نُعاين نفس السيناريو يتكرر اليوم في عقر البلد الذي أنجب المنجرة، من طرف تيار فكراني، على غرار باقي التيارات التي تنكرت للرجل، وتريد إقناعنا اليوم بأنها غيورة عليه!
نتفهم جيدا أن تكون التيارات التي تُعادي المعرفة والعلم والنقد معنية بهذا المأزق، ولكن أن تنخرط في المأزق حتى التيارات التي ترفع شعار التحديث والتنوير، فهذا أمر لا يليق بأبسط مقتضيات التحديث والتنوير في مجالنا التداولي.
المنجرة فضحنا في حياته، وشاءت الأقدار الإلهية أن يفضحنا حتى في مماته: لنتأمل جيدا الحضور المتواضع ل»آل الحرف والسؤال» بتعبير الزميل عبد الرحيم العطري في حفل توديعه، ولنتخيل حجم الحضور لو كان المنجرة يُروّج خطابا شعبويا أو طائفيا، يروم استقطاب الأتباع والمخلصين، كما هو سائد اليوم، ولكن بسبب سُمو أفكاره ونُبل مقامه، رفض دوما هذه الانتماءات، مادام همه إنسانية إنسان العالم الثالث أولا وأخيرا، ضد مشاريع «ما بعد الاستعمار»، بالصيغة التي اجتهد في التنظير لها طيلة عقود من النضال العلمي الهادف والنافع للوطن والأمة والإنسانية..
منتصر حمادة
المنجرة الذي أحببته بصدق فاحتضنني بحب
هذه الكلمات ليست تأبينا بحق الراحل المهدي المنجرة، رحم الله، وليست من تلك التي تنبش في ثنايا الذكرى لتستعيد حدثا جميلا هنا أو واقعة طريفة هناك، أو لتنقب عن مزايا وخصائص رجل أعترف أنه كان أستاذي وصديقي وعائلتي جزء من عائلته.
فالرجل أكبر من أن نؤبنه أو نرش قبره ببعض من الماء. ثم إن تأبين الجسد، وقد غدت الروح بين يدي باريها، يوحي بأن تاريخ الرجل توقف وأجره في الدنيا انقطع.
أعتقد أن العكس من ذلك هو القائم. فالكبار لا يموتون، ومن ثمة لا يؤبنون. إن شعاعهم يبقى، وحضورهم لا ينحصر، وقوة فكرهم تتجاوز التاريخ، فما بالك بالزمن الجاري والعابر.
ولذلك، عندما طلب مني الصديق إدريس الكنبوري أن أكتب شهادة سريعة في حق الراحل، لفائدة جريدة «المساء»، لم أتردد بالمرة، لكني اشترطت ألا تكون الشهادة تأبينا أو تقليبا في الذكريات، بل حديثا في سبل قراءة ما تركه لنا المهدي المنجرة، مقالة وكتابا وحوارا ومحاضرة. أتصور أن هذا هو الأساسي للأجيال القادمة التي أوصى بها خيرا، أكثر من تأبين جسد فان، أو الدعاء لروح قد باتت من المجال المطلق لمالك الملك.
والحقيقة أنه كلما تساءلت عن السبل المنهجية لقراءة فكر المهدي المنجرة، وحسمت في سبيل منها، كلما اعترضني السؤال الأولي التالي: كيف لهذا السبيل أو ذاك أن يلملم فكر رجل غرف من معظم الحقول المعرفية، ونهل من نهر العديد من المدارس، وعايش في حياته أحداثا جساما، كان في العديد منها فاعلا مباشرا، وكتب بالتالي في شتى المجالات العلمية، وأسهم في صياغة سياسات عمومية هنا وهناك؟ كيف لنا أن نلملم هذا العطاء الكثيف من خلال هذا الإطار المنهجي الضيق أو ذاك؟ أعني كيف نقرأ فكر رجل موسوعي بأدوات قد لا تكون شاملة لفكره، أو غابنة لبعض من جوانب ذات الفكر وأبعاده؟
أعترف أن هذا التساؤل الجوهري سيبقى حاضرا وضاغطا لدى كل من اقترب أو حاول الاقتراب من فكر المهدي المنجرة. لكني أجزم القول بأن أي قراءة عمودية (قراءة تقسيمية للتيمات المعالجة من لدن الراحل، وعلى مدى زمني يتعدى النصف قرن) ستبقى جزئية، حتى إن اكتنزت أهميتها في ذاتها. والسبب في ذلك أن قراءة من هذا القبيل من شأنها أن تميط اللثام عن هذا الجانب، لكنها لا تستطيع أن تسعف كثيرا في استجلاء مكونات الجوانب الأخرى. ثم إنها قد تسقط في الاختزالية الصرفة، لأنها ستفضي حتما إلى تضييق زاوية النظر، فيبدو الجزء وكأنه الكل حقا وحقيقة، وهذا ظلم ما بعده ظلم.
وعليه، فأنا أتصور أن التيمات الكبرى التي اخترقت كل كتابات المهدي المنجرة وألهمت جل إنتاجه الفكري، إنما تمحورت حول أمرين اثنين، حتى إن كان في الاقتصار عليهما بعض من الاختزال الضمني الذي لا أنكره:
الأمر الأول يتمثل، في نظره، في مركزية القيم، باعتبارها المحرك الأساس لدينامية العلاقات بين الأفراد والجماعات وبين الدول أيضا.
القيم، من منظور المهدي المنجرة، ليست تمظهرا لسلوك فردي معزول، محصور في الزمن والمكان، بل هي المفتاح الذي يمنح الفرد مرجعيته، والجماعة لحمتها، والأمة هويتها، ويفسح لهم جميعا مسالك النهضة والتقدم، ويزودهم بمكامن الجلد والقوة.
مركزية القيم في فكر المنجرة، رحمه الله، لم تأت من فراغ، بل تأتت له من دراساته المستفيضة وملاحظاته العملية لمجتمعات تبدو لنا مادية وفردانية صرفة في مظهرها، لكنها ترتكز في جوهرها على تمثل عميق للغتها، لشعرها، لفنها، لروايتها، لمسرحها، لتماهيها مع هذا التمثل، للالتزام به، وللتفاخر به عند الاحتكاك مع الآخر، دون خجل نفسي أو عقدة نقص.
لا تنحصر تيمة القيم عند المنجرة في هذه الجزئية الدقيقة والبليغة، بل تذهب إلى حد الاعتبار من لدنه بأن الحروب الجارية أو القادمة هي، وستكون، حروب قيم وهويات بامتياز.
لذلك، لم يتردد في الانسحاب من اليونسكو عندما أحس أن مهمتها زاغت عن رسالتها الأخلاقية، ولم يتوان، بالتحليل العميق وليس بالمزايدة الفجة، في القول بأن الحرب على العراق إنما هي حرب قيمية في جذورها ومنبعها، حتى إن لبست، برأي العامة، لبوس الحرب على المواقع الجيوستراتيجية، أو على موارد النفوذ والطاقة بهذا الجزء من العالم.
ثم هو استشرف، منذ أكثر من عشرين سنة مضت، وبأدوات تحليلية مركبة، قدوم الانتفاضات العربية، وبالبلدان التي أشار إليها بالاسم والموقع. إلا أن المرض لم يمهله حتى يرى بأم عينيه كيف تحققت نبوءته، وتحولت البلدان إياها إلى مجال للاقتتال الهوياتي المقيت، أزعم بدوري أنه في طريقه للإتيان على الأخضر واليابس إن لم يتم تدارك ذلك بالمدى المطلوب.
أما ثاني تيمة شغلت المهدي المنجرة، لحد الهوس ربما، فتتمثل في تركيزه على مسألة الرؤية، وما يستتبعها إجرائيا من أبعاد استشرافية واسعة. كان الرجل دقيقا وحاسما بهذه النقطة، إذ لا سياسة ولا أخلاق ولا قيم ولا تنمية ولا نهوض، برأيه، في غياب الحلم الجماعي، وتأطير ذات الحلم برؤية واضحة، ترسم مساقات المستقبل بتموجاته ومنعرجاته وانزلاقاته المحتملة.
لذلك كان المستقبل في ذهنه مستقبلات، ليس فقط من زاوية استباق الآتي، القادم لا محالة، ولكن أيضا بغرض وضع مشاهد بديلة إن تعثر هذا السيناريو أو ذاك، أو طرأ من الأحداث ما يستوجب التعديل أو إعادة توجيه البوصلة.
إن بناء المستقبل يستوجب، بنظر المهدي المنجرة، الانطلاق من القيم، بالارتكاز على الحلم وبالاتكاء على الرؤية، في طرح منظومي محكم وثاقب، أما الباقي فتفاصيل لأنها لا تهتم إلا بتصريف البرامج وترجمة السياسات.
ولذلك، عندما يتحدث الرجل عن انسداد أفق المدرسة بالمغرب، وتدني مستويات التعليم والبحث العلمي، وتردي وضع الصحة، وتيه الفرد والجماعة، فلأنه يدرك أن الأمر غير مؤطر برؤية، وغير مبني على تصور، بقدر هو مرتكز على «فلسفة» في التدبير الآني ذي الطبيعة العشوائية والحلول الترقيعية.
وعندما يعرض سبل معالجة هذه الأعطاب، فهو لا يجازف بتقديم الحلول، لكنه ينصح بأن تتم المعالجة ذاتها في إطار منظومي شامل، يشارك في وضعه كل من هم مادة هذا الإطار ومصبه...لذلك، لم يمل من القول بأن مشاكل التعليم لا توجد كلها عند وزير التعليم، بل هي أيضا عند وزير الصحة ووزير التجهيز ووزير البيئة وقس على ذلك.
رحم الله المهدي المنجرة. رجل أحببته بصدق فاحتضنني وحضنني وتبناني بحب. كتبت عنه بتعالي المتعلم، وكتب عني بتواضع العالم. اقتحمت عليه خلوته مرارا بمكتبه وبمنزله دون استئذان، فكان يسعد بمجيئي ويتقاسم معي ما يجول بذهنه من أفكار ومن مواقف. كنت أشعر بذلك وهو موفور الصحة، وشعرت به وهو طريح الفراش، مكتفيا بالنظر إلى بابتسامة بريئة، لكني لم أظفر بها عندما ودعته وقد صعدت روحه إلى السماء.
لذلك، وعلى الرغم مما قلته مكابرا بالبدء، فأنا لم أستطع، وجثمانه مسجى أمامي، أن أتغلب على إحساس انتابني، وأنا في جلالة هذا الموقف، مفاده أن جزءا مني قد انصرم ورحل إلى الأبد.
يحيى اليحياوي
«دفء الملح».. عندما يلفظ الوطن أبناءه في آخر المنعرج
تناولت ظاهرة «الحريك» التي تعد صرخة مدوية واحتجاجا عارما على مظاهر البؤس والعوز والفاقة
تعتبر رواية «دفء الملح» للروائي المصطفى تكاني المنجز السردي الثاني في مسيرته الإبداعية بعد مجموعته القصصية «حديث البحر». ويبدو أن المبدع في روايته هاته متمكن من أدوات الكتابة السردية وتقنياتها، وهو ما انعكس بشكل إيجابي من حيث الشكل على بنينة المادة الحكائية وكيفية تقديمها للقارئ.
لذا وجدنا الروائي يلجأ إلى تكسير خطية السرد باستدعائه مقومات سردية خارجية كالحوار الداخلي والاستذكار والاسترجاع والصورة الفوتوغرافية، وهي مقومات تساعد على تخصيب السرد وتدفع به للتدفق نحو المصب.
رواية «دفء الملح» سفر حارق في عوالم صقيع الغربة والاغتراب، ورصد مسكون بأوجاع البعد عن الوطن والحبيبة وحميمية أولاد الدرب وخبز الأم الذي لم يستطع الشاعر محمود درويش مقاومة حنينه إليه، فاستحال شعرا جميلا أصبح في ملك الإنسانية.
«دفء الملح» أو إن شئت سميتها الرواية القضية باعتبارها غوصا جريئا في متاهات الهجرة السرية ومطباتها، وتشخيصا لطبيعة العلاقة المرتبكة بين الذات والآخر، خصوصا حين تجد هذه الذات نفسها لقمة صائغة أمام أخطبوط الوحدة القاتلة والصقيع المدمر للعواطف والمفضي إلى زواج غير مرغوب فيه بامرأة في خريف العمر قصد التغلب على فوبيا ترحيل مفاجئ قد يترك جرحا لا يندمل قط.
تتميز الرواية، التي نحن بصدد قراءتها قراءة عاشقة، بعوالمها الدلالية المتنوعة والمنفتحة على أشكال تعبيرية أخرى كالشعر والأغنية والحكاية الشعبية، وهي روافد دلالية مهمة تؤثث بنية الحكاية وشكلها.
لقد استطاع الأستاذ تكاني عبر هذه المكونات جميعها أن يقدم لنا وجبة سردية دسمة تتقطر جمالية، يضاف إلى ذلك مكون اللغة، التي جعل منها أحد العناصر بالغة الأهمية في التعبير عن المعاناة الإنسانية، وأداة فعالة لاستبطان دواخل شخصيات النص. هكذا وجدناها تعكس بشكل لاهب ما يعتمل في الوجدان من أحاسيس وانفعالات وأوجاع ناتجة بالأساس عن حالة الانشطار والتشظي بين فضاءين متباعدين جغرافيا ونفسيا: فضاء الوطن الأم وفضاء المهجر (إيطاليا / ميلانو). وكلاهما يبعث على الشعور بالتمزق والتهميش والقلق الوجودي في الزمان والمكان، ولعل ذلك ما يمكن تلمسه عبر ثنائية : قرب/ بعد، حنين/ ضياع.
إن هذا الاستبطان السيكولوجي لشخصيات الرواية هو ما أعطى عملية الكتابة في موضوع الهجرة السرية ألقه على المستوى الجمالي والفني ورفع منسوب الشاعرية فيه.
من هذا المنطلق فإن رواية «دفء الملح» تعطي مفهوم الكتابة بعدا آخر، وخاصة عندما ينعطف المبدع باللغة من كونها بيانات استجداء وتبرم إلى اعتبارها موقفا صارما من مظاهر الاختلالات التي تطوح بالإنسان في مجاهل الخواء والتهميش وتجرده من جوهره الخلاق، بل أكثر جاءت الرواية لترصد تجليات الموت بالتقسيط وانتظار الذي يأتي والذي لا يأتي في وطن يقسو على أبنائه –رغم محبتهم الزائدة له- عندما يلفظهم في آخر المنعرج دونما أدنى اعتراف لهم بالكفاءة والمسار العلمي المتميز لأن «معترك الحياة لا يؤمن بقوة الضعيف'' (ص 24) كما جاء على لسان السارد.
إن تناول الكاتب المصطفى تكاني ظاهرة الهجرة السرية أو ما يطلق عليه «الحريك'' هو في عمقه صرخة مدوية واحتجاج عارم على كل مظاهر البؤس والعوز والفاقة. إنه واقع مأزوم هذا الذي تعيشه شخصيات الرواية الباحثة عن الخلاص من مخالب الإقصاء والتجاهل وما يستتبع ذلك من مآس إنسانية، لاسيما عندما تتحول جحافل هؤلاء المغامرين السريين إلى مشاريع قبور في الماء أو تعود كنعوش في صناديق مشمعة وكأن الوطن تحول إلى مقبرة بدل أن يكون ملاذا آمنا يضمن لأبنائه الكرامة والعيش الكريم.
لذا تصبح الهجرة بمثابة «تقريع للوطن الذي لم يوفر لأهله الكرامة والحرية واللقمة الكريمة».
إن هذا الواقع المأساوي والقاتم الذي ترصده الرواية هو ما جعل أبطالها يعيشون في حلقة مفرغة ملؤها الخيبة والانكسار وسيادة منطق العبث الذي يصبح فيه الحب والموت في كفة واحدة لدى شخصية البطل عبد الصمد، الذي يسعى إلى تحقيق أحلامه المعلقة بين السماء والأرض.
يقول السارد: «ألسنا نولد لنموت؟
سيان بين الموت غرقا في البحر وبين الموت اختناقا بالحب.
في بعض اللحظات من الصعب أن تفكر في فعل ما لم تفعله في حياتك، وهو أن تفكر في ألا تفعل شيئا» (ص 29).
عندما يصبح الحب والموت سيان فتلك قمة الخساسة ومنتهاها، لأن الإنسان عندما يعيش الحالة ونقيضها فهو أقرب إلى الجنون منه إلى التعقل، ومن ثمة فالوطن ليس بخير ومفهوم المواطنة وجبت مراجعته.
لما وصلت نشوة الفرح قمتها وبدا المدعوون إلى حفل زفاف عبد الصمد بزينب في أوج انتشائهم تنتهي الرواية في جو جنائزي. يقول الراوي: «تسلل شاب من أبناء الدرب المجاور بين صفوف الموائد وأخذ مكانه في حلقة مائدة ضمت بعض الشباب من أولاد الدرب. كانوا هائمين مع إيقاعات الألحان وتمايس الأبدان وحين تقاربت رؤوسهم وآذانهم من فم الشاب هوت أيديهم من مستوى رؤوسهم وامتنعت عن التصفيق مع إيقاعات النغم. انحسرت ملامح الفرح عن قسمات وجوههم وأسدل صمت رهيب جفون أعينهم وتوقفت الكلمات فوق ألسنتهم. ردد شاب بهمس: «لقد قذفت الأمواج بجثة بوشعيب بعد موته غرقا وهو يحاول العبور في قوارب الموت نحو الشمال الأبيض».
رحال نعمان *
* ناقد
روسيليني.. سقراط الواقعية الجديدة
الكلام عن روبرتو روسيليني معناه الكلام عن الأسطورة، عن السينما عن الشعر والفكر، عن الإيمان والعلم، عن الفلسفة والايدولوجيا، عن الانسجام والتناقض، عن الأمل والتشاؤم، عن السينما الإيطالية. والكلام عن السينما الإيطالية معناه الكلام عن الواقعية الجديدة، وعن الموجة الجديدة، أي الكلام عن «سينما بديلة».
إن استحضار روسيليني هو استحضار لأسماء أخرى أمثال فيسكونتي ودوسيكا ودوسانتيس وكارلو بونتي وآخرين. هذه الأسماء ظهرت مع إيطاليا الفاشية، وانساق بعضها مع أطروحة موسيليني، التي تعد بعودة أمجاد الإمبراطورية الرومانية. وكان روسيليني من بين المخرجين الذين ساهموا في إخراج مجموعة من الأفلام الدعائية لمساندة الحكم الفاشي، غير أنه سرعان ما سينقلب ضدها،عندما سيكتشف قذارة مراميها وآثار الخراب الذي تركته الحرب التي تسببت فيها. فحاول بكل وسائله الخاصة وبإمكانيات محدودة أن يكفر عن ذنبه من أجل أن يمحو عن إيطاليا الصفة الفاشية والكليانية التي ألصقها بها موسيليني.
في هذه الظروف الصعبة ظهر تصور عملي جديد عند هذه المجموعة من السينمائيين عبر عنه فيسكونتي في مقال ظهر في مجلة «سينما «، اعتبره البعض «بيان استتيقا الواقعية الجديدة» وإعلان مبدأ جمالي جديد لمواجهة الاستبداد. يقول البيان: «ما أتى بي للسينما هو أن أحكي قصص أناس أحياء، أناس يعيشون وسط الأشياء، لا تهمني الأشياء في حد ذاتها. إن السينما التي تهمني هي السينما «الأنتروبومورفيك»، ومن أهم الانشغالات التي تغويني كمخرج هو الاشتغال على الممثلين، أي المادة الإنسانية التي بواسطتها يمكن أن نصنع الإنسان الجديد، الذي يجسد الواقع، الواقع الجديد الذي ينبغي أن يعيش فيه، أي واقع الفن، وهذا الإنسان هو الإنسان التاريخي. لقد علمتني التجربة أن ثقل الكائن الإنساني وحضوره هما أهم شيء يملأ الشاشة فعلا، كما أن المناخ والأجواء يخلقهما هذا الإنسان بحضوره الحي. إن أبسط حركة يقوم بها الإنسان، خطوه مثلا، تردده، انفعالاته، وحدها قادرة على إعطاء غلالة شعرية وذبذبة حياتية لكل الأشياء التي تحيط به، ولكل الأمكنة التي يوجد بها»
لقد كان هدف «السينما البديلة» الأساسي، رغم اختلاف مشاربها الأيديولوجية والإنسانوية والأخلاقية، هو محاربة وكسر الابتذال الذي وصم الفن السينمائي. غير أن هذه المهمة الوطنية ستعترضها صعوبات يمكن تلخيصها في كون السينما السائدة، التاريخية والميلودرامية، خلقت متفرجها، ونمطت الذوق العام، وأفسدت حساسية الجماهير، مما جعلها غير مستعدة لاستقبال وتقبل الكتابة السينمائية الجديدة. كما أن الانتصار الانتخابي للديمقراطيين المسيحيين جعل السينما الجديدة تسقط تحت الرقابة المستمرة والحذر السياسي، الشيء الذي شوش على الإنتاج والتوزيع والاستغلال.
غير أن ما جعل الواقعية الجديدة تفرض نفسها على مستوى الإبداع السينمائي العالمي هو كونها تؤمن بصدق رسالتها، كما أنها هضمت كل المرجعيات السينمائية الكبرى، مثل السينما الأمريكية، والمعلمين السوفيات، والسينما الطلائعية، واستثمرتها بشكل وظيفي جديد ومغاير، يعتمد على إعادة النظر بشكل جذري في العلاقة الثلاثية بين المخرج والكاميرا والواقع، بناء على أشكال تعبيرية أكثر بساطة وأكثر ابتدائية.
يلخص روسيليني في ثلاثيته منظور الواقعية الجديدة والمبادئ الأساسية التي بنت عليها تصورها الفكري والإستتيقي. وتشتمل هذه الثلاثية على الأفلام التالية: «روما مدينة مفتوحة»، «بايزا «، و«ألمانيا سنة الصفر».
لقد استطاع روسيليني في هذه الثلاثية أن ينقل صورة الدمار الذي تخلفه الحرب على نفسية الإنسان من خلال وجهات نظر متعددة. ففي فيلم «روما مدينة مفتوحة» بحث عن تحديد الأفق الإيديولوجي والإنساني الذي خرجت منه المقاومة الإيطالية في شكلها المنظم أو في شكلها التلقائي. في حين يسعى فيلم «بايزا» إلى كشف روح المقاومة في جغرافيتها الإنسانية، وكشف توحد الشعوب وتضامنها، رغم اختلافها وخلافها، تحت الاستبداد والطغيان، والألم وتهديد الموت. أما فيلم «ألمانيا سنة الصفر»، الذي يختم ثلاثية الحرب هذه، فهو فيلم جد متشائم، يبعد كل أمل في بناء هذا الجسد الفردي أو الاجتماعي الألماني المدمر. كما ينذر بأن النازية انهزمت ولكنها لم تمت، وأن على العالم أن يكون يقظا، وأن ينتظر عودتها بشكل مغاير.
لقد أبدع روسيليني نوعا جديدا من الأفلام يمكن أن نطلق عليه «المجموعة الفيلمية»، وهو مكون من مجموعة من الأفلام القصيرة. ومن أهم هذه الأفلام فيلم «الحب»AMOR وهو مركب من فيلمين قصيرين، الجزء الأول بعنوان «الصوت الإنساني»، وهو مأخوذ عن قصة لجان كوكتو. والفيلم الثاني مأخوذ عن سيناريو لفيلني. في الجزء الأول نعيش لحظة قوية مع امرأة (أنّا مانياني) هجرها عشيقها وهي في سن متأخرة، وتبقى الوسيلة الوحيدة للاتصال به هي الهاتف. نرى بضعة أشياء مبعثرة داخل فضاء مغلق، شبه مظلم، سرير وامرأة، امرأة منسية وكلب حزين. وحده التليفون حاضر ثم وجه أنا وصوتها أو صوتها ثم وجهها. تغيب كل الأشياء، ويغيب العالم بغياب «الآخر» العشيق. في المشهد الأخير يعود وجه المرأة للظهور تدريجيا من خلال انعكاس المرآة ، نسمع صوتها وهي تناجي وجهها من خلال المرآة التي كشفت لها الحقيقة : «لأول مرة أكتشف أني ذميمة الوجه وأني هرمت».
في هذا الفيلم اعتمد روسيلني على ما يمكن تسميته ب»الكاميرا الميكروسكوب»، في علاقته مع الأشياء ومع الوجوه. يقول: «هذه التجربة ساعدتني فيما بعد في كل أفلامي. أثناء التصوير أشعر، في بعض اللحظات، بحاجة ملحة لأن أترك السيناريو وأتبع الشخصية في ثنايا أفكارها التي ربما لم تعها بعد».
كما يشرح روسيليني الانقلاب الذي أحدثه في مسار الكتابة السينمائية من خلال تكسير قواعد الكتابة الأكاديمية، التي تعارفت عليها المؤسسة السينمائية الهوليودية: «عادة يقطع المشهد في السينما التقليدية كالتالي: لقطة جماعية، ثم نصف الوضعية، نكتشف شخصا، نقترب منه، ثم لقطة متوسطة، لقطة أمريكية، لقطة مكبرة، ونبدأ في حكاية قصته. أنا أفعل عكس هذا: رجل ينتقل، وفي تنقلاته نكتشف المكان الذي يوجد فيه. أبدأ دائما بلقطة مكبرة، ثم تتبع حركة الكاميرا الممثل، الذي يقوم بكشف الوضع العام، ويبقى المشكل هو أن لا تضيع الكاميرا الممثل في تنقلاته المتشابكة، وأن تربط الكامير بين الباطن والظاهر من الأشياء».
إن دراسة أفلام روسيليني تكشف فعلا عن خصوصية وتميز هذه الكتابة السينمائية، حيث يتسرب الواقع من خلال الكاميرا بكل سلطته، ليجد المشاهد نفسه أمام التفاصيل النابضة بالحياة، إذ تفشل أحيانا كل الإجراءات التخييلية والايهامية لتصبح الأشياء عند روسيليني أدوات مباشرة للكتابة. غير أن ما يميز علاقة روسيليني التوظيفية مع هذه الأشياء هو لا بلاغيتها. إنها أشياء باردة لا تقول إلا ما تقوله. إن كتابة روسيليني تحيلنا على عالم همنجواي الروائي وأسلوب «الجبل العائم»، الذي يخفي أكثر مما يظهر ويبطن أكثر مما يعلن.
حمادي كيروم
«دون كيخوت» لم يمت
ذات يوم من العام 1984 كان الأديب السوري الراحل ممدوح عدوان في هافانا، عاصمة كوبا البعيدة، هناك رأى بغتة تمثالاً مذهلاً لدون كيخوت، بطل رواية سرفانتس، على ظهر جواده وبيده رمحه. إنها الصورة المألوفة لدون كيخوت، لكن هذا التمثال كان محبوكاً من الخيزران، وقد أعطاه هذا الخيزران قوة لا يمكن توقعها.
إن قضبان الخيزران استطاعت إظهار عضلات الحصان بشكل لم يسبق له أن رآه في أي تمثال سابق، ثم انتبه إلى الرجل الذي يمتطي الحصان، أي دون كيخوت نفسه، الخيزران ذاته الملفوف ليشكل كتفيه وزنديه وصدره وفخذيه أظهره شخصاً خيزرانياً، للمرة الأولى يبدو دون كيخوت أمامه نحيلاً وقوياً وليس هزيلاً، وكان نحوله نحول شخص كله أعصاب متوترة، وهي أعصاب توحي بالقوة والعزم والإرادة، وإضافة إلى ذلك كان فيه عضل. إنه العضل الذي نعرفه عند لاعبي الكاراتيه وفنون القتال، عضلات الأجسام المفتولة التي ليس فيها جرام واحد زائد. كل ما تراه من الجسم لازم له، كل ما فيه عزم وقوة.
حين شرح ما رآه كتب: «لو أنني استطعت تصوير ذلك التمثال لفزت بأجمل صورة يمكن أن يحصل عليها مصور للرجل المثالي». وسيتخذ من ذكرى هذا التمثال في هافانا توطئة لشرح موقفه من فكرة الرجل الذي يواجه قدره، مواجهة مستحيلة مع أخطاء العالم.
لم يكن سرفانتس في روايته التي دخلت في عداد كنوز الأدب الروائي الكلاسيكي يرمي إلى تمجيد بطله. كان هدف سرفانتس الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر هو هجاء مفهوم الفروسية الذي بدأ يتهاوى مع تزعزع مكانة الإقطاع وبواكير صعود البرجوازية الأوروبي، لكن ما من أحد قرأ الرواية أو شاهدها على المسرح أو في السينما إلا وتعاطف مع البطل. بل إن الكاتب نفسه لم يخفِ هذا التعاطف في الطريقة التي تناول بها «بطولات» ذلك الرجل الذي راح ينازل طواحين الهواء ظاناً أنه يُنازل جيوشاً مجيشة .وممدوح عدوان أحب تمثاله الخيزراني لأنه رأى فيه تجسيداً للرجل غير المتلائم مع واقع متحول كان يرفضه، لأنه غير قادر على التآلف معه، ومستعد لمبارزته حتى النهاية.
هناك من يقول «لا» في الوقت الذي يقول فيه الجميع «نعم». هؤلاء الذي يقولون لا، يمكن أن يكونوا أقلية، أو هم في العادة أقلية، ولكنهم من الجسارة ورباطة الجأش وثبات الموقف وصلابته بحيث يغامرون ويمشون عكس التيار مراهنين على كسب الرهان. ليس هذا زمن الفروسية، ولكن الفرسان، حتى لو كانوا قلة، موجودون، من هؤلاء الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز الذي، وعلى بعد أميال ليست كثيرة من الولايات المتحدة اختار أن يتحداها وخلفه شعب بكامله، يقف معه بإرادته الطوعية لا بقوة البوليس والعسكر وغرف التعذيب والمقابر الجماعية وزنازين الموت، كما يفعل الطغاة عندنا ليسوقوا الناس كالإمعات أمامهم.
ليس هذا زمن الفروسية، ولكن شافيز اختار أن يذكر مواطنيه بهذا الزمن، فقام بما لم يقم به رئيس سواه، دعا مواطنيه إلى قراءة رواية سرفانتس: «دون كيخوت»، وهتف أمام الجماهير: «كلنا دون كيخوت». لم «يؤلف» شافيز كتاباً أحمر أو أخضر أو برتقالياً، ليجعله مقررا على خلق الله من مواطني بلاده، كما فعل رؤساء آخرون سواه، وإنما ذهب لواحدة من درر الأدب العالمي وتراث الإنسانية الزاخر: «دون كيخوت» وقرر توزيع مليون نسخة من الرواية الضخمة داعياً الناس لقراءتها، عائداً بهم أربعة قرون للوراء، أي إلى الزمن الذي كتب فيه سرفانتس روايته التي اختيرت في العام 2002 بصفتها أهم عمل روائي على الإطلاق أبدعه الإنسان، والذين اختاروها لهذا التوصيف هم نخبة من كبار أدباء العالم، وبينهم عدد من حملة جائزة «نوبل» للآداب.
صدَّر الدكتور عبد الرحمن بدوي ترجمته العربية للرواية بمقدمة قارن فيها بين «دون كيخوت» سرفانتس وبين «فاوست» غوته، وبين «هاملت» شكسبير، وهذا يضعنا أمام مقارنة صعبة بين أعمال تزداد تألقاً مع الزمن، أعمال لا تتقادم ولا تبلى ولا تنسى، ليخلص إلى أن دون كيخوت بطل رواية سرفانتس الذي قارع طواحين الهواء كان رمزاً للنبالة الساعية لخير الإنسانية، إنه صوت العدالة العليا تصرخ في عالم حافل بالمظالم، ولا ضير عليه أن يظل صوتاً يصرخ في البرية، ذلك أن هذا النداء مهما كان وحيداً وخافتاً، يمثل ضمير البشر ضد الظلم والنفاق والخديعة والوضاعة والملق والدس، يمثل صوت أولئك الذين يقولون «لا» في الوقت الذي يقول فيه الجميع «نعم».
حسن مدن *
* كاتب من البحرين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.