الجلوس إلى الفنان عبد القادر علوش، أحد رموز الموسيقي الأندلسية والأغنية الشعبية، والملقب ب"التّاجر"، هو جلوس إلى جيل اتسعت دائرة عنوانه وتأثيراته وحمل من تقاسيم الحياة اغترابها وأعباءها، مثلما حملته حدائق الموسيقى بدهشتها وعمقها وبتحوّلها وتغيّرها.. الفنان من مواليد سنة 1934 في مدينة شفشاون ، ويعد من الأساتذة الأوائل الذين درّسوا بالمعهد الموسيقي لحظة افتتاحه. وبين هذا وذاك، فالفنان صاحب نكتة وروح مرحة تتحالف فيهما الوقائع وعنوان الذّات وبساطتها. تجربة الفنان العصامي عبد القادر علوش "التاجر" لها تجلياتها ودلالاتها البعيدة عن التكلف، إذ يشير بصدد هذا اللقب إلى أن والده كان من الأسر الميسورة بالمدينة، وكانت له العديد من الأملاك؛ لكنه في ظروف "السيبة" السائدة في القديم، وخوفا من عمليات السطو المتواصلة التي كانت تعترض أصحاب الأملاك، فكر في "تحبيس" كل أملاكه تفاديا لما قد يقع، وفي الوقت نفسه من أجل إدخال الرحمات على أسرته؛ وهكذا ضاعت الأملاك وصارت عائلة التاجر منذ ذلك التاريخ تتوارث اللقب مجازا.. جاء الفنان عبد القادر إلى طرب الآلة بتأثير وإسهام كبيرين من والده رحمه الله، الذي يعد من عشاق الموسيقى الأندلسية، إذ كان عازفا على آلة الإيقاع ومتشربا للعديد من القصائد. ولهذا كان له الفضل عليه وعلى أخويه: محمد وعبد السلام، إذ كان يصحبهم إلى الزاوية "الشقورية" في منتصف الأربعينيات، والتي كانت ملتقى للمادحين والمهتمين بتجليات الموسيقى الأندلسية؛ ومن بينهم المرحوم العياشي الوراكلي، العازف على آلة الرباب الذي كان بعض موسيقيي مدينة فاس يستزيدون من معين معارفه الموسيقية، آخذين عنه بعض الصنائع الأندلسية التي كانت تتميز بها شفشاون.. فضلا عن المرحوم محمد بن الأمين العلمي، عازف آلة الكمان الذي أخذ عنه هو الآخر الأستاذ الفنان مولاي أحمد الوكيلي ميزان قائم ونصف الاستهلال. ويذكر الفنان عبد القادر أنه بدأ الاشتغال بأفق احترافي بالمجال الموسيقي رفقة الأستاذين المرحومين: محمد المريني، أحد العازفين المهرة على آلتي الرباب والكمان، والذي كان يترأس جوق مدينة شفشاون للموسيقى الأندلسية، والفنان محمد بوقرنة، العازف على آلة الكمان، والذي يعد بدوره من أمهر العازفين بالجهة الشمالية. وكان هذان الفنانان من خيرة الحُفّاظ وساهما بشكل كبير في صقل موهبته الفنية، بعد أن أخذ عنهما عدة صنائع أندلسية وقصائد زجلية، وكان برفقتهما يعزف على آلتي الناي و"الكلارينيت"، هذه الأخيرة التي تعلم أصولها مع رفيقه الفنان الراحل عبد النبي الصديقي، على يد إسباني برتبة (سرجان) في الموسيقى "بمقهى بوقرنة"؛ وتعلم كذلك أصول العزف على آلة العود. وعن الدروب الأخرى في مسارات الفنان عبد القادر، الذي انتصر على محمولات الذاكرة متجولا في سياقات فنية وهو يقول: "من الضروري التأكيد هنا على زيارة الفنان عبد الوهاب أكومي إلى مدينة شفشاون (سنة 1976)، وإقامته حفلا موسيقيا شيقا بقاعة التعاون الوطني (مقر الكنيسة)، وتقديمه مجموعة من القطع الأندلسية والوصلات الإسبانية، ومرافقتنا له في العزف مع الجوق "الراشدي" الذي كنت من مؤسسيه. كما التقيت بالفنان محمد المزكلدي المعروف بقطعة "العروسة" المغناة في مناسبات الأعراس والمسجلة بدار الإذاعة.. فضلا عن ذلك أتوقف أيضا عند زيارة الفنان عبد الوهاب الدكالي لشفشاون (سنة 1978)، في سياق مشاركته في تصوير فيلم "الحياة كفاح"، إذ صاحبته في العزف على آلة العود، وهو عود قديم قمنا بكرائه من مقدم الزاوية الشقورية بالمدينة، وكان في ملك الولي الصوفي الشيخ مولاي علي شقور. وتعود حكاية هذا العود الأصيل - كما تم تداولها - أنه كان هدية من السلطان الحسن الأول للشيخ شقور، إثر زيارته مدينة فاس، كما أهداه أيضا آلة الطّرّ". عديدة هي القطع الموسيقية التي قام بتلحينها بأداء احترافي الفنان عبد القادر علوش، هذا الرجل الذي تتّسع نفسه للبهجة وإلى ذلك الجوهر الإنساني الشّفيف الذي يشكل انعكاسا للوجدان؛ والتي لاقت تجاوبا بين سكان شفشاون وخارجها، وهي من كلماته وتلحينه، (القطع): "طنجة غزالة" والتي مطلعها: "طنجة غزالة، الدُّخلة كلها نْوارْ..والمعاملْ يْمينْ وشْمالْ"، و"الشّايب ماندّيهْ": (الشّايب الشيّباني، مليون ريال عطاني..والله بْعايْنو لا رانِي وخّا يرجعْ نصْرانِي)، و"يا وردة": (البنت اللِّي على خدّها وردة ما نعرف أبوها شكون..نهديلو من المال ما يرضى)، و"عندي بنتْ غزالة": (عندي بنت غزالة صغيرة وما نعْطيهَاشْ..على الزّْواجْ مزالة سمرة من لرْماشْ)، و"تطوان يا البيضة"، و"واعملْ عينكْ قدّامكْ"، و"الشّاون في يومْ الرّْبيع": (الشّاون في يوم الربيع..فيها المنظرْ الرفيعْ).. (هذه القطعة الأخيرة معروفة بالجهة الشمالية، وأحرزت الجائزة الأولى في مسابقة غنائية للمدن نظمت بمسرح محمد الخامس (سنة 1975)). ويقول عبد القادر علوش، وهو يضيء واقع الموسيقى الأندلسية مجسّدا ضميرها وكينونتها، ويضع تراثه رهن إشارة الأجيال الجديدة: "أظن أن الموسيقى الأندلسية في الوقت الراهن بدأت تخرج عن عاداتها الأصيلة وطقوسها المألوفة المتأصّلة، بعدما صارت بعض الأنماط الشرقية مقياسا لتقديم المواويل والوصلات، ما أثّر بشكل كبير على عراقة الموسيقى الأندلسية. وبالتالي يجب العودة مرة ثانية وعاشرة إلى ضرورة فهم مرجعيات هذا الفن بشكل عميق، والبحث في متونه والإنصات إلى جذوره".