في كتابه الصادر مُؤخَّرا تحت عنوان "التاريخ الشعبي لكرة القدم" (مارس 2018) يُوَضِّح ميكائيل كُورِيَّا، بمنتهى الجلاء، العلاقة التي نشأت مُبَكِّرا بين لُعبة كرة القدم المعاصرة والصُّعود الاقتصادي/ السياسي للبرجوازية. فهذه الرياضة كانت من الممارسات الرائجة، نسبيا، منذ أواخر القرون الوسطى، في أرياف إنجلترا. وكان الغرض منها تقوية أواصر الترابط الاجتماعي بين سكان البلدات نفسها، لاسيما في بعض المناسبات الدينية ("ثلاثاء المَرْفَع"، مثلا). في القرن 18 م ستساهم عملية "التَّسْيِيج" التي طالت بوادي إنجلترا في إعادة تحديد المِلْكية وعَقْلَنة الإنتاج، بموافقة البرلمان، الذي كانت تُهَيْمن عليه وقتذاك البرجوازية القروية. وهي الظاهرة التي سَيَدْرُسها كارل ماركس فيما بعد، ويَجْعلها من المراحل المُؤَسِّسة للرأسمالية الصناعية. هكذا وبفعل "تَسْيِيج" المساحات وما تلاه من قوانين، سَيُحْرَمُ الفلاحون من تعاطي كرة القدم فوق أراضيهم. وعلى شاكلة مجلس العموم (البريطاني) العُشْبيُّ اللون، الذي يَتَوَسّطه مَمَر واسع، يَفْصِلُه إلى جزأين متقابلين، واحد يضم المُوَالين والآخر المعارضين؛ تَعْلُوهُمَا مِنَصّة للرئيس، ببذلة سوداء، لإدارة النقاش؛ سيَشْهد الملعب مباراة بين فريقين متنافسين، وحَكَم، أيضا بِزَيّ أسود، يحرص على تطبيق قوانين لم تكن موجودة. **** يتَّخِذُ ميكائيل كُورِيَّا من جدلية "التَّمَلُّكِ/ استعادة التملك الجماعي" مفتاحا أساسيا لفهم تاريخ كرة القدم. كان أول من تَمَلَّكَ اللُّعبة، طبقة الفلاحين، ثم الطبقة العمالية. بينما كانت ترى فيها البرجوازية أحد عناصر الضبط الاجتماعي والأمني. في الجزء الثاني من القرن 19 م، ستَتِّم عملية تقعيد اللعبة في المدارس العامة "الفيكتورية"، المُوَجَّهة إلى النخب المُمَيَّزة (مثل مدرسة "إيتون"). كان القصد من تقنين اللعبة تنشئة الشباب على القيم الخاصة بالبرجوازية الصاعدة: روح المبادرة، التنافس، طاعة الرئيس، الرجولة والشرف الفردي... وما إن يصبح خريجو تلك المدارس النخبوية أرباب مصانع حتى يبادروا، بدورهم، إلى تعليم العمال مبادئ كرة القدم بالرغبة نفسها في الضبط الاجتماعي، لتجنيبهم الإدمان على الكحول في الحانات والانتماء إلى النقابات. لكن العمال سيجعلونها عنصرا تكوينيا لثقافتهم، وبالتالي لوعيهم الطبقي. هكذا، ومع مرور الزمن، ستسعى كل طبقة اجتماعية إلى تَمَلُّك هذه الرياضة وتحميلها دلالات وقيم مُعَيَّنة. **** قِيَم سَتُتَرْجَمُ، أولا، على أرض الواقع، في أسلوب اللَّعب. لمَّا وضعت الارستقراطية أسس اللعبة كان حفظ الشرف والرفع فيه يحتل المقام الأول. وكان القيام بتمريرة يُعَدُّ فِعْلا جَبانا، مُخْجِلا، لأن الغاية كانت الانطلاق نحو الأمام، فرديا، واستهداف المرمى. أما الأخلاق البرجوازية فلم تكن تركز على الانتصار، عكس الطبقات الشعبية، حيث يكتسي "إلحاق الهزيمة" بالخصم طابعا ثأريا لكرامة الجماعة. في نهاية القرن 19 م سَيَخْلُقُ العمال تقنية "التمريرات"، كما ستُحدَّدُ أماكن تَمَرْكُز اللاعبين ووظائفهم، بُغية إنتاج عمل تعاوني، تقاسم انتصار جماعي، ضدا في أخلاق البرجوازية المبنية على الفردية. ومع تطورات الرأسمالية المالية، وتعاظم الرهانات الربحية، صار أسلوب اللعب دفاعيا، ما جعل تحقيق الفوز الهاجس الأوحد للفرق. إذ يكفيها فارق هدف واحد "لقتل اللعب". وبما أن الخسارة تكلف غاليا، فقد كان لا بد من تقليص المخاطرة إلى أضيق الحدود. هذا التحول انكشف خلال مونديال 2006، حيث تم الابتعاد كثيرا عن "كرة القدم الشاملة" وقاعدتها: "الكل يهاجم والكل يدافع". أي "أسلوب سنوات ال70"، المُكَسِّرِ لقواعد "تقسيم العمل". في إيطاليا يرتبط "الكاتيناتشيو" جزئيا بالتاريخ السياسي للبلد. هذا الأسلوب المفرط في الدفاع مُسْتمَد من تكتيكات قوات المقاومة المناهضة للنازية (التراجع إلى الخلف والركون للدفاع). وفي البرازيل كان اختراع "المراوغة"، بين 1920/1930، بمثابة فعل مقاومة، في مجتمع تنخره كُلِّيا العنصرية. ومَرَدُّ ذلك أن "السود" حينما سُمحَ لهم باللعب في "الاستادات"، كانوا عرضة سهلة لعنف اللاعبين "البيض"، خصوصا أن القوانين كانت تمنع الحُكَّام من احتساب المخالفات المقترفة في حقهم. ولتفادي خشونة "البيض" اهتدوا إلى تقنية "المراوغة". **** المراوغة ذاتها تُحيل على العلاقة مع الجسد. علاقة ستُبْعِدُ النساء، لأمد طويل، عن كرة القدم، نتيجة هيمنة الخطاب الذكوري. ومعلوم أن ممارسة الإناث للكرة بدأت مبكرا، في 1880، من طرف الطبقة العليا البريطانية. ثم لم تلبث أن توقفت بسبب ما كانت تثيره من اضطرابات. ذلك أن المجتمع "الفيكتوري" المحافظ كان لا يطيق أي نشاط تزاوله جماعات خاضعة كالنساء والعوام. وأثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) سَتَعُود، لبعض الوقت، مع حضور العاملات في المصانع إلى جانب الرجال للمشاركة في "المجهود الحربي". لكن ما إن وضعت الحرب أوزارها وعاد الجنود من جبهات القتال حتى أُخْضعن من جديد لمهمة الإنجاب بذرائع واهية (تعمير البلد، الكرة تسبب العقم...). في 1921، سَتُمْنَعُ رسميا كرة القدم على النساء. وفي الفترة النازية/الفاشية (1922/1945) حيث بلغ الخطاب الرجولي أقصاه، كان دوما يُرْفع شعار "الجسم التناسلي" لحَظر الكرة النسوية. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن المؤسسات الرسمية ساهمت في تكريس التمثل (التملك؟) الذكوري لكرة القدم. فحتى بَعْدَ نحو ربع قرن من إقرارها (عام 1991)، لا تزال الحملات الحكومية لتشجيع كرة القدم النسائية تتم باللون "الوردي" وبالكثير من الرواشم. **** عموما، تبقى لعبة كرة القدم رهينة طرق تدبيرها. لكن في كل مرة تبرز أشكال جديدة من محاولات "التملك واستعادته الجماعية". وليس من المصادفة اقتران "عولمة" كرة القدم بانتقال الرأسمالية إلى حركة إمبريالية، مع توسع الإمبراطورية البريطانية، عن طريق أرباب المصانع والرهبان والبحارة والجنود... لهذا كانت أرصفة الموانئ أول الأماكن التي "رَسَتْ" فيها (مثل "لوهافر" حيث أنشئ أول نادي فرنسي سنة 1872). ومنها انتقلت إلى مناطق أوسع عبر خطوط السكك الحديدية. وإبان الحقبة الاستعمارية، وظفتها قوى الاحتلال لأغراض الاستيلاء، في المقابل استغلتها حركات التحرر الوطنية في المطالبة بالاستقلال. وانطلاقا من 1930 ستظهر المنافسات الأممية لتعزز كونيا من أهميتها الاقتصادية/الإعلامية والسياسية. ويُعَدّ عقد الستينيات (1960/1970)، مع انتشار أجهزة التلفزيون وتعاظم سطوة الإشهار، بداية مرحلة "تَسْلِيعِ" كرة القدم، التي سَتُتَوّج ب"قانون بُوسْمَانْ"(1995) وتحرير سوق اللاعبين (الميرْكاتُو). **** في هذا الإطار، ينبغي إدراج عواقب استبدال "دوري كرة القدم البريطاني" (بعد 104 أعوام من الوجود) ب"الدوري الإنجليزي الممتاز" (1992). في نهاية موسم 1990-1991، قدمت أندية الدرجة الأولى مقترحا لإرساء قواعد بطولة جديدة، بقصد الزيادة في إيراداتها. وفي 1992 استقالت جماعيا لتؤسس "البْريمْليغ"، كشركة "توصية بالأسهم" مُدْمَجة في البورصة. وبهذا تحولت الأندية إلى "أعضاء مساهمين" في البطولة، لها الحق في الإشراف على الأنشطة التجارية، والتفاوض بشأن عقود الرعاية وصفقات حقوق البث التلفزيوني الخاصة... هذا التغيير العميق وَلَّد علاقات قوى جديدة ومطالب مختلفة، أهمها "دَمَقْرَطَةُ" القطاع. وتُعْتَبر مشاهد اقتحام الجماهير للملاعب بمثابة ردود فعل حيال العنف الاقتصادي المُضِر بحقل الرياضة. إذ غالبا ما تتخللها نداءات بإحلال "التشاركية" والشفافية في إدارة الأندية. وتختزل اللافتة الإنجليزية الشهيرة "اخترعها الفقراء وسرقها الأغنياء" قساوة ذلك الانقلاب. فهذه الجماهير تشعر ب"قرصنة" أنديتها من طرف رؤساء ولاعبين يعيشون في عالم المال والأعمال، غير مراعين حُماة الهوية الجماعية والتاريخية. ومن تجليات ذلك التحول، أيضا، تقمص الجمهور دور النقابيين (المطالبة بتذاكر منخفضة الثمن، إعداد اليافطات، "التيفوات"، الأغاني الحماسية، والعرائض للتأثير في قرارات الرؤساء واللاعبين...). **** من بين الأمثلة البليغة على جدلية "التملك واستعادته" عملية "التهجير الطبقي" للملاعب، بعد الحرب العالمية الثانية (إنجلترا). إذ تم استغلال إعادة هيكلة الأحياء الشعبية المدمرة (ما بين 1950 و1960) في إبعاد "البروليتاريا" إلى ضواحي المدن. غير أن العمال، الذين انتزعت منهم أحياؤهم، سيجعلون المدرجات أراضي (ملكيات؟) يتوجب الدفاع عنها بكثير من الإصرار، بل الشغب. من هنا انتعاش ظاهرة "الهوليغانز" (1960/1970)، التي ستواجهها الحكومات المتعاقبة بإقرار أنواع جديدة من الجرائم (عهد تاتشر). في 1985 ستشكل مأساة "ستاد هيسل" (39 ضحية) منعطفا حاسما: 1- سيتم منع المدرجات المخصصة لوقوف الجماهير (المدرجات الشعبية). 2- تجديد وتأمين الملاعب (خَلْقُ جهاز قمعي خاص بها). 3- إدراج النوادي الكروية في البورصة. والحاصل: انفجار حقوق البث، وغلاء أسعار التذاكر... وبالتالي عدم قدرة العائلات الكادحة على ارتياد الميادين، والاكتفاء بمشاهدة المباريات على شاشات التلفزيون. هكذا أزيحت الطبقات الشعبية من الملاعب. في العشريات الثلاث الأخيرة، ولإبقاء السيطرة على النوادي، نشأت مجموعات "الألتراس"، و"المشجعين المستقلين"، كسلطة مُناهِضَة لسَلْعَنَة كرة القدم. مجموعات تَتّصِفُ باستقلالية بنياتها المالية والثقافية عن المؤسسات الرياضية الرسمية. وعادة ما تُصَنفُ كتنظيمات منغلقة، تَشَكَّلَتْ على منوال اليسار الإيطالي المتشدد (أعوام ال 70) المعروف بإتقان فنون الدفاع الذاتي والسخرية والهجاء لمواجهة الخصوم. وهي الثقافة الشعبية ذاتها المنتشرة حاليا داخل الحركات الاجتماعية، بقدراتها على تحريك الجماهير وقيمها التضامنية. **** يُرْجِعُ ميكائيل كُورِيَّا شغف الجماهير الشعبية القوي بكرة القدم إلى بساطة قواعدها (التي لم تتغير كثيرا) وسهولة ممارستها. هذا الافتتان بقدر ما يَحْجُب الهوة الحادة القائمة بين مَالِكِي الاقتصاد وواقع الطبقات الشعبية، بقدر ما يبقي على خيوط الاتصال بين كُرَتَيْ القدم "العميقة" و"التجارية" (البراقة)... وإلى وقت غير بعيد، كانت اللعبة تُفْرِزُ رموزا كبرى (أساطير) تُجَسِّدُ الثقافة الشعبية، مثل كرويف، بيلي أو سقراطيس (قارئ جَيِّد لماركس وغرامشي). وهو ما لم تَعُدْ تَسْتطيعه كرة القدم "الاحترافية" الراهنة. وضعية يجري عليها تحليل سارتر للُّعبة، المُتَضَمَّن في كتابه "نقد العقل الجدلي" (1960)، حيث يطرح من خلاله مسألة التعارض بين الحرية الفردية والاستلاب الجماعي. فمن بين التشكيلات الاجتماعية المنصهرة يأخذ سارتر فريق كرة القدم (كجماعة مُلْتَحِمة) ليوضح كيف يتحرر الإنسان (لوقت وجيز) من خلال عمل مشترك من ديكتاتورية الأشياء والمؤسسات و"التسلسلية" و"العملانية-الميتة"، لكنه لا يتحرر وجوديا، وبذاته، بل من خلال الآخرين... اللاعبون ينحدرون من الطبقات الشعبية، والرياضة تمثل لهم الفرصة الوحيدة للارتقاء الاجتماعي (الانسلاخ الطبقي). يتجلى الاستلاب في الإذعان التام لضوابط اللعبة وخطط المدرب وبرامج الرؤساء المُحَدَّدَة قَبْليا. وتَتَبَدّى الحرية حين يُبْرِزُ كل لاعب ملكاته الإبداعية وقدراته التقنية الفردية. غير أن تلك المواهب والمهارات الشخصية لا تكتمل إلا ضمن عمل جماعي يربطها بفعل الآخرين وبهدف مشترك. لهذا يَعْتَبر سارتر مباراة كرة القدم من اللحظات النادرة التي يتحقق فيها لبرهة التوازن بين الخضوع للجماعة والإرادة الفردية. أما بازوليني، فَيَعْزُو شعبيتها إلى طابعها القريب من المسرح "الكلاسيكي"، بعناصره المعروفة (الوحدات الثلاث، العرض، الانطلاق، التعقيد، الأزمة، الذروة والحل) بما تَضُمّه من تشويق وإثارة ومفاجأة... فأمام الجماهير 22 لاعبا وحَكَما مُتَحَلّقين حول كرة مستديرة، ولا أحد بمُكْنَته التكهن بما سيقع حتى صافرة النهاية. ينضاف إلى قوة المشهد دور الجمهور، الذي يهتف، يحتج، يصيح في وجه الحَكَم، يُبدع "مشاهد" مرئية، وبالتالي يُغَيِّر الديكور... في مجتمع الفرجة، تظل ملاعب كرة القدم من الأماكن التي تَتَحَرَّرُ فيها القوى الكامنة داخل الجماهير. المراجع: -1- Mickaël Correia, Une histoire populaire du football, Paris, La Découverte, 2018. 2- Sartre, Jean-Paul, Critique de la raison dialectique, tome 1, Paris, Gallimard, 1960.