يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/26.. مستجدات السياسة البربرية قبيل رحيل ليوطي يعد ليوطي المفوض المقيم العام للجمهورية الفرنسية بالمغرب الذي وضع الأسس الأولية لنظام الحماية، وأرسى دعائم هذا النظام على قواعد براغماتية كولونيالية محضة. فهو الذي رسم كل أهداف الخطة الاستعمارية، التي كانت فرنسا تلتزم بتحقيقها وتسير على ضوء انتهاجها. وقد كانت الطبقة البورجوازية والعائلات الأرستقراطية والتيارات اليمينية المحافظة تكن له نوعا من الاحترام والتقدير، فيما كان يتمتع لدى قادة الجيش الفرنسي بباريس بسمعة الضابط المحنك ذي الكفاءة العالية، لذلك نودي عليه في أوج الحرب العالمية الأولى ليتولى منصب وزير الحربية. وفعلا تولى هذا المنصب لمدة أسابيع قليلة سنة 1916، لكنه لم يحقق نتائج تذكر، فرجع بعد ذلك إلى إقامته العامة بالرباط ليتابع تنفيذ مخططاته، وبقي في منصبه هذا إلى عام 1925. ولم يكن رحيل مهندس السياسة الكولونيالية الفرنسية بالمغرب بإرادة منه، أو بسبب مرضه أو تقاعده، وإنما جاء كثمرة من ثمار انتفاضة الريف المجيدة. وخلافا لما حققته خطته من تضليل وتغلغل في المنطقة الجنوبية من البلاد، فإن أساليبه الدعائية الخبيثة ومناوراته الاستخباراتية التخريبية لم يكن لها أي تأثير على عزيمة أبناء الريف في مقاومتهم للطغيان، إذ لم يجد ليوطي بينهم أنذالا من طينة الكلاوي والقواد التابعين له. عندها تبين لفرنسا أن مقيمها العام الأول بالمغرب استنفد دوره، بدليل أنه لم يعد قادرا على مواجهة تطورات الأحداث ورفع التحدي الكولونيالي، وهكذا كلفت الحكومة الباريسية المارشال بيتان لإدارة العمليات العسكرية في الجبهة الريفية، ووضعت تحت إمرته ما لا يقل عن 60 جنرالا فرنسيا، جاؤوا على رأس كتائب مدججة بالسلاح لكبح جماح الانتفاضة الريفية، التي كانت قاب قوسين أو أدنى من القضاء على الوجود الإمبريالي بمنطقة الشمال الإفريقي قاطبة، وليس فقط في حدود القبائل الريفية، كما كانت تتداول ذلك بعض التحليلات الاستعمارية. وهكذا تحت ضغط لهيب الثورة الريفية، اضطر ليوطي إلى تقديم استقالته يوم 28 أكتوبر 1925. وفي هذا الموضوع بعث برسالة إلى وزير الخارجية بباريس يعبر فيها بمرارة مستترة عن فشله الذريع، ومما جاء فيها: «إن استراتيجية التنظيم العسكري، والتخطيط السياسي، وطرق التسيير الإداري، والبرامج المتبعة حاليا في المغرب تم وضعها في غيابي، ولم يكن لي فيها رأي بالسلب أو بالإيجاب. كل الأمور أصبحت الآن تسير بشكل مخالف تماما لتلك التي كنت أخطط لها وأدبرها على مدى حياتي العملية الكولونيالية، وبصفة خاصة في المغرب. قد أكون على خطأ أو على صواب، ولكني لست واثقا من نجاعة الأسلوب المتبع حاليا». وما كان له أن يضيف أكثر من ذلك، فقد انتهى أمره ودخلت الحماية مرحلة ما بعد ليوطي حتى وإن بقيت آثار سياسته سارية المفعول على مستويات شتى. وفيما يخص السياسة البربرية على وجه التحديد، فإن ما عرفه هذا الملف من مستجدات قبل الإعلان عن التحالف المزدوج الفرنسي– الإسباني ضد الريفيين، يمكن إجماله في نقطتين جديرتين بالملاحظة. تتجلى الأولى في ظهور بارز لعدم الانسجام بين الرؤية الاستعمارية ذات البعد السياسي العام وبين الإجراءات التطبيقية المبنية على القاعدة العرفية كمعيار لتصنيف القبائل البربرية المغربية. بينما تتجلى النقطة الثانية في ظهور المدارس البربرية. تناقضات التشريع الاستعماري بعد استصدار ظهير 1914، الذي كان ينظم القبائل البربرية بالاستناد حصريا على أعرافها وتقاليدها، بدأ المستعمر يميز القبائل المغربية بين قبائل يطبق عليها «الشرع» وأخرى يطبق عليها «العرف». ولم يكن هذا التنظيم القضائي الكولونيالي يرتكز سوى على دوريات إدارية لا تتوفر على سند "قانوني"، علما أن المسألة هنا، في الحقيقة، لا تخضع إلى مسوغات المشروعية أو عدم المشروعية للقاعدة القانونية المتبعة، فهذا غير وارد لأن النظام كان نظاما كولونياليا في كلياته وفي جزئياته، لكن ما يسترعي الانتباه هو العجز الفعلي للمستعمر، وعدم قدرته على بناء هيكل "قانوني" متماسك ومنسجم حتى وإن كان جائرا. وعلى أي حال، لم يكن تخبط المستعمر ليثني عزمه عن مواصلة عمله البراغماتي. وهكذا كانت التعليمات تصدر عن الإقامة العامة بهدف الشروع في تنظيم العدلية البربرية، وكانت أولى دورياتها في هذا الموضوع تلك المؤرخة في 22 شتنبر 1915، والمتعلقة بقبائل كروان الجنوبية وقبائل بني مطير، حيث تم فرض "قاضي الصلح" عليها بهدف تطبيق أعراف تدخل في نطاق القانون الخاص. والمحاولة الثانية لتنظيم العدلية البربرية جاءت موزعة بين دوريتين بتاريخ 10 يوليوز و17 غشت 1923، وكانتا ترميان إلى تأسيس «هيئة حكام» تمت تسميتها ب«الجماعة القضائية»، وأشارت التعليمات إلى ضرورة جمع العشائر البربرية على شكل تكتلات من الفرق القبلية تكون تابعة لجماعة «قضائية» معينة، وهو إجراء كان يهدف بالأساس إلى تقليص عدد «الجماعات القضائية»، لتيسير مراقبتها من جهة، وتخفيض نفقاتها من جهة ثانية. وهذا بالطبع ما كان يتعارض ليس فقط مع طبيعة البنية القبلية، بل حتى مع اعتبارات الحماية المزعومة للتعدد «العرفي»، والتزام الإقامة العامة بالحفاظ على استقلالية هذا التعدد. بعد ذلك تم تطوير «الجماعات القضائية» لتصبح محاكم قائمة الذات بناء على دورية بتاريخ 29 يناير 1924. وكانت هذه الدورية تنص على أن اختصاصات تلك المحاكم هي نفسها الاختصاصات المعترف بها للقاضي في المناطق الخاضعة لتطبيق «الشرع». وصدرت دورية أخرى بتاريخ 16 فبراير 1924 قصد تنظيم تلك الجماعات. وهكذا تدريجيا، وبصفة تعسفية، تم إحداث عدد من «الجماعات البربرية» تتولى الشؤون القضائية في مجموعة من المراكز الإدارية تحت إشراف كتاب فرنسيين كان معظمهم من الضباط التراجمة التابعين للمصالح الاستخباراتية. وسرعان ما تبين أن الرئيس الآمر والناهي للجماعة ما هو إلا السكرتير الفرنسي، وأن الأعراف البربرية لا يؤخذ منها بعين الاعتبار إلا تلك التي كان السكرتير يراها ملائمة لأهداف السياسة الاستعمارية، وما عداها كان يتم تعديله أو إلغاؤه بحجة كونه من بقايا تشريعات بدائية تتعارض والقيم الحضارية الراقية. والواقع أن سكرتير الجماعة القضائية البربرية كان تجسيدا لمرحلة انتقالية بدأت فيها التنظيمات القضائية الفرنسية تتأهب لابتلاع النظام العرفي المفتعل. وفي هذا الباب جاء تأكيد على لسان مستشار الحكومة الشريفة، الذي كان بطبيعة الحال تابعا لأوامر الإقامة العامة، مفاده أن "مبدأ استقلال العرف البربري ودوائر اختصاصه عن الشرع الإسلامي مبدأ فيه أكبر مصلحة سياسية لفرنسا، وإن إلغاء الشرع الإسلامي في جميع المناطق البربرية بشكل نهائي ومطلق يسمح لنا، في يوم قد يكون بعيدا شيئا ما، بإنشاء نظام معقول للعدلية البربرية من منظور فرنسي خالص". وبينما كان العرف البربري يضمن حق الطعن عبر اللجوء إلى ثلاثة حكام متتاليين، فإن الدوريات الاستعمارية تجاهلت هذا الحق تماما، ولم تكترث بتأثير ذلك على «البرابرة» الذين جاءت فرنسا «لتحميهم من ابتزازات وخروقات المخزن». وقد كان من بين النتائج التي أسفرت عنها نهاية الحرب بأوربا التدفق المتزايد للقوى الاستعمارية في اتجاه المغرب. إذ بدأت المصالح الكولونيالية تنتشر وتتطور كما وكيفا، مما أسفر عن ارتفاع عدد الصفقات والمعاملات المختلفة. وترتب عن الاستئناف الدينامي لهذه الأنشطة تزايد مباشر في عدد الأحكام والعقود. وكنتيجة حتمية لهذا التطور بدأت تناقضات النظام المفبرك للعدلية البربرية تطفو على السطح. وكأمثلة على ذلك نجد أن قبائل زمور بمنطقة الخميسات تم تصنيفها سنة 1916 على أساس كونها تابعة لمنطقة «الشرع»، لكن تحت تأثير المصالح الاستعمارية أعيد تصنيفها سنة 1920 لتصبح تابعة لمنطقة «العرف»، وفي 5 ماي 1923 صنفت قبيلة آيت سعدان، الواقعة على بعد 25 كلم إلى الشمال الشرقي من مدينة فاس، ضمن قبائل «العرف»، لكن سرعان ما غير المستعمر رأيه وصنفها ضمن قبائل «الشرع»، كما غير اسمها لتصبح قبيلة بني سعدان! وبموجب قرار بتاريخ 23 ماي 1923 تم تصنيف 13 فرقة تابعة لقبيلة آيت يوسى، بمقاطعة صفرو، على أساس «العرف»، لكن تم إلحاقها فيما بعد بمنطقة «الشرع». وظهرت حالات أخرى مشابهة كثيرة. والسبب في ذلك كان راجعا إلى إملاءات الإرادة الاستعمارية وفقا لمصالحها. وهكذا اتضح للإقامة العامة أن الأخطاء التي ارتكبت في منطقة «القبائل» والأوراس بالجزائر هي نفسها تقريبا التي لم يكن تفاديها ممكنا في المغرب، رغم حنكة ليوطي وبعد نظره الكولونيالي. وبالتالي، فإن السياسة البربرية التي كانت تلوح بتسجيل نجاحات باهرة بدأت تناقضاتها الصارخة توحي بالسقوط في متاهة الإحباطات المتتالية. إخفاق تجربة المدارس الفرنسية – البربرية كان من بين متزعمي السياسة البربرية في مجال التعليم أحد مستشاري ليوطي المقربين، يدعى موريس لوكلي. وقد كتب مقالا صدر في نشرة "التعليم العمومي بالمغرب" لشهر غشت 1921، وفيه أشار إلى أن سياسة فرنسا لا يمكنها أن تكون موحدة بالنسبة إلى جميع جهات المغرب، بالرغم من اعتبار هذا البلد بربريا خالصا في جل مناطقه. وهذا هو بيت القصيد، لأن الحماية، في نظره، لم تول اهتمامها اللازم لتعليم برابرة المناطق القروية، الذين رغم روافد خارجية عربية -يهودية - سودانية، بقوا محافظين على نقاوة عرقهم. وهكذا لما تحرروا من «ربقة الولاء المخزني» أصبح لزاما على فرنسا أن تهتم بمستقبلهم «وها نحن، يقول لوكلي، أمام ما يمكن أن نسميه العالم البربري، بمعنى ذلك الكيان الذي بقي متسما ببساطته المتجذرة. إن وجوده على حاله الخام يغرينا ويدفعنا إلى محاولة تكييفه وقولبته». وكان واضحا من تحليله أن تلك المحاولة لا يمكن أن تكلل بالنجاح إلا بواسطة اللغة الفرنسية، وهو لا يخفي أن الخلفية العربية الإسلامية تعد من العناصر التي تدخل في تشكيل الهوية الثقافية للكيان البربري. لكنه يشير إلى أن أهمية ذلك تظل ضعيفة جدا. فإسلام البربري المغربي، في نظر موريس لوكلي، شبيه تماما بيهوديته ومسيحيته سابقا، حيث إن تمسكه بهذه الأديان تمسك سطحي تتحكم فيه معتقداته الوثنية التي ظلت توجه سلوكاته عبر الأزمان . ويزعم لوكلي أن «تفكير الإنسان البربري لا يرتكز على أي مشارب دينية، ومبادئه القانونية ليست مستوحاة من الدين، وحتى إذا كان يحلو له في أحيان نادرة أن يسمي نفسه مسلما، ويعبر عن احترامه للمبادئ الإسلامية مظهريا، فإنه يتجاهل وينفي كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية وما نص عليه القرآن». كل هذه الطروحات الدعائية كانت مجرد مدخل لفلسفة التعليم البربري الاستعماري. إذ أن الهدف كان هو إحداث شرخ عميق في الهوية الثقافية الأمازيغية من أجل فرنستها النهائية، ولا يهم بتاتا محتوى برامج التدريس بالنسبة إلى هؤلاء البرابرة ما دام تدريسها يتم حصرا باللغة الفرنسية. وتساءل لوكلي عن إمكانية حدوث حالة من الاستغراب لدى مواطنيه الفرنسيين، الذين قد يسمعون في يوم ما سكان قبائل بربرية يرددون تلك العبارة المشهورة: «أجدادنا الغاليون»، على غرار كل الفرنسيين الأقحاح. فأجاب: "من الممكن جدا أن يحدث ذلك، لأنه على كل حال ليس هناك أحد يعرف على وجه الدقة من أين جاء هؤلاء القوم، انظروا إلى الزعيم الزياني المسمى ولعايدي، إن جمجمته تشبه إلى حد بعيد جمجمة أي من مواطنينا في منطقة لوفيرني، وحتى خشونة طبعه وسلوكه الماكر من الخصائص التي تعزز ذلك الانتماء، كما أن صهره السيد (س) يشبه بطريقة لافتة للنظر واحدا من أنشط معمرينا، ولو قدر له أن يتحدث باللغة الفرنسية لتبددت كل دواعي الاستغراب!" وبناء على طروحات من هذا النموذج، والتي كانت تشكل العمود الفقري لسياسة الحماية البربرية، تم فتح المدارس البربرية الأولى ابتداء من سنة 1923. وكان عددها ست مدارس موزعة كالتالي: مدرستان بمنطقة فاس: واحدة في إيموزار (قبيلة آيت صغروشن)، والثانية في عين شكاك (قبيلة آيت عياش)، وأربع مدارس بمنطقة مكناس: واحدة في آزرو، وواحدة في عين اللوح (قبيلة آيت مكيلا)، وواحدة بخنيفرة، وواحدة في لكباب (قبيلة أشكارن). وفي يناير 1924 فتحت مدرسة من النوع نفسه باهرمومو. وفيما بعد افتتحت مدارس أخرى، منها ثانوية آزرو المشهورة، لكن رغم كل ما بذله المستعمر في هذا المجال من مجهودات تخريبية وتشويهات حقيقية طالت عمق الهوية الأمازيغية، فإن تجربته التعليمية في الوسط البربري كان مآلها الفشل الذريع. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة