استئذان: من "أقدار" "ليلة القدر" التي تشغل بال المغاربة قدر "اللبن المحلوب" والسمك والبنزين والماء و... وللترتيب سياق رمضاني، وليلة القدر فرصة للتساؤل عن السنة المقبلة التي يبت فيه في هذه الليلة، فإذا لم نكن مستعدين لذلك فلنحسن الدعاء ولنطلب "اللطف في ما جرت به المقادير"، فالمغاربة واجهوا المستعمر باللطيف، وأغيثوا المطر باللطيف، وعاشوا زمن " اللطف الاقتصادي"، وأرى أن اللطف مطلب واقعي. الكل يتساءل عن مصير "اللبن المغربي" المحلوب بيد الفلاح، هل سيتحكم فيه الغريب أم أن "قدر اللبن " بيد حالبه؟ فنحن "لا ندرك" أين يكمن الخير، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا. فالذي رزق اللبن، بيده أبواب الرزق لكل مخلوق بل لكل دابة، وجعل الأسباب بعدد المخلوقات فما ينقصنا سوى إدراك "فلسفة الرزق"، فلا نسد الأبواب بالحجب وبقلة الإيمان. وإذا لم نعد نثق في الواقع أفلا نثق في "ليلة القدر"؟ ليلة تقدر فيها شؤون الخلائق، ليلة الأقدار المقدرة، يعني مصيرنا في السنة المقبلة سيحدد فيها، (فيها يفرق كل أمر حكيم). ألا نستطيع أن ندرك أبعاد تلك الليلة التي باركها الله بالوحي وجعلها حدثا كونيا، تتنزل فيها الملائكة، ويعم السلام الإلهي، وأي سلام حينما نشكو من نقص أو شروط معيشة أو تطلعات... فالسلام يتحقق بتوافر نعم الله التي إذا افتقرنا إليها افتقرنا إلى السلام. وإذا لم ندرك ذلك فلنستوعب الأمر، لأن الإدراك حقيقة الإيمان والاستيعاب مرتبط بالتفاعل، لهذا قال تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر) جملة تبين حقيقة الليلة التي تبقى مجملة، فما أدراك مفتوحة على الحقيقة التي لا يدركها إلا الله، وعلى مدى تفاعلنا معها. بين القدْر والقدٙر: بالتأمل في أدعية ليلة القدْر (اللهم اجعل لنا من قدٙرك في هذه السنة)، ف"من" تفيد التبعيض من قدٙر الله العام، و"في هذه السنة" ظرف زمان لفعل "اجعل" وليس ظرفا للقدٙر، فالقدْر حكم خاص (مجعول) بالعبد أو بالشيء، والقدٙر حكم عام يخضع له الجميع كل بحسب قدْره الخاص، ف"القدْر محكوم بالقدٙر" أو "مجعول به"، أي قدٙر الله وقضاؤه يتحقق بفعل العبد ونيته (بقدْره) (وقدْر فعل العبد محكوم بالقدٙر والقضاء). ليلة القدْر يجعل الله فيها لكل شيء قدٙرا بقدْر الاكتساب ووفقا للقدٙر العام المرتبط بعلمه وحكمته وحكمه. يمكن التقابل بين القدْر والقدٙر كالتقابل بين الداخل والخارج؛ فقدْر الشيء قيمته أو حكمه من الداخل والقدٙر حكمه من الخارج، كما الفعل حركة الفاعل من الداخل إن قام به يجازى عليه. والقدْر مشتق من القدٙر، ويقع، باعتباره مجعولا، على موضوعاته فيجري عليها بالقضاء، فالقدْر ينسب إلى العبد ويحكم له أو عليه به، بينما القدٙر ينسب إلى القادر تعالى بحكمه وعدله على قدْر كل عبد (من إيمانه ونيته وعمله وسعته وضيقه)... ويمكن المقارنة بينهما على أن القدْر هو مقدار الشيء والقدٙر هو الميزان الذي توزن به المقادير، نضع الموازين القسط ليوم القيامة حيث يعرف قدْر الانسان فيجازى بالقدٙر. بين القدٙر والقضاء أو "ربيع الدعاء": هناك ما يسميه العلماء ب"القضاء المعلق" ما علق وقوعه على شيء، كالزيادة في العمر بصلة الرحم أو بر الوالدين وأعمال البر والدعاء من أقوى الأسباب في رد القدٙر، جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، فمن جملة القضاء، كما يقول الغزالي، رد البلاء بالدعاء، كما البذر سبب خروج النبات من الأرض. فالقضاء يتغير كالأرزاق يقول تعالى:(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد 39. والدعاء قضاء الله تعالى أيضا ، فالله يعلم أن عبده سيدعوه، فيغير القدٙر بقدٙر آخر مكتوب عنده، (فالدعاء والقضاء يعتلجان بين السماء والأرض إلى يوم القيامة). "ليلة القدْر" ربيع العمر: إن ليلة القدْر تهب للإنسان عمرا مديدا، انطلاقا من "قدرية الزمان"، ليلة بألف شهر (ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر). هذه القدرية الزمنية والزمانية قد تمنحك فرصة إطالة العمر بالعبادة في سائر الأيام وبمتتاليات حسابية مختلفة، (الحسنة بعشر أمثالها) (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة 261. إن الاهتمام بليلة القدْر يعلمنا فلسفة الاستفادة من لحظات العمر، فإذا كانت الاستفادة من كل لحظة فتلك العبرة، حيث يصبح عمق العمر وربيعه والانتفاع منه. إن ليلة القدْر تعلمنا كيف نجعل من قطعة أرض صغيرة نملكها ناطحة للسحاب، تعلمنا كيف نجعل من "خدمتنا الإدارية" لحظة مرور سريع على الصراط، تعلمنا كيف نجني أثر "السنة الحسنة" إلى يوم القيامة، تعلمنا كيف نكون مع من نحب، وتعلمنا كيف نتعلم. إن ليلة القدْر تعطينا البركة في الجهد والجري؛ فبركة ليلة القدر جعلت من ثلاث وعشرين سنة مرحلة للرسالة تستمر إلى يوم الساعة، وتطوي زمان كل الرسالات من آدم إلى جميع الأنبياء. "ليلة القدْر" موهبة للأمة لتمديد أعمارها في البعد الثالث (أي بعد العمق)، ولعل ذلك تأويل للحديث النبوي الذي أري فيه أعمار الأمم قبله فتقاصر أعمار أمته عليه الصلاة والسلام، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. أما بعد: "ليلة القدْر" لحظة لمحاسبة الذات والنظر إلى التقارير الأدبية والمالية، نسجل الثغرات السابقة والانحرافات الراهنة ونعقد العزم على تجاوزها بالندم إذا أردنا أن نجدد الاستحقاق والثقة. إذن، نحن مسئولون جميعا في ليلة القدْر عن السنة المقبلة حسب قدْرنا ودرجاتنا في المجتمع؛ فلا أحد في حل عن المشكل، فبفلسفة ليلة القدْر نحل مشاكلنا ونحتكم إلى قدٙر الله الذي وضع القوانين التي إذا اتبعناها سنعيش "سلام ليلة القدْر" خلال السنة بأكملها، ف(اللهم الطف بنا في ما جرت به المقادير).