كتاب للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، وهو عبارة عن سيرة ذاتية والتي يصعب القول عنها إنها سيرة ذاتية محضة، خصوصا إذا استحضرنا الأبعاد الذاتية والثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية التي تؤطرها، أضف إلى ذلك، كونها سيرة ذاتية قد يتبادر إلى ذهن قارئها أنها سيرة غيرية، ومرد هذا الطرح الأخير؛ هو استعمال الكاتب للفظة "صاحبنا"، ومن ثم، قد يقول القارئ إنها سيرة غيرية. وتبعا لذلك، لا يمكن أن نسلم بكونها سيرة غيرية، على الأقل، في مرحلة أولى، وذلك، لما تضمنته هذه السيرة من معرفة عميقة وشاملة لحياة صاحب السيرة الذاتية، فلو كان أحد منا يزعم كتابة سيرة ذاتية لشخص ما، فإنه يصعب عليه أن يكون على معرفة شاملة بحياة هذا الشخص، وبحذافيرها وجزئياتها. لهذا فإن هذا الكتاب سيرة ذاتية للمفكر الكبير الجابري. لنبدأ بالعنوان أولا؛ إذ إن ما يلفت النظر، بصدق، هو لفظ الحفر، على اعتبار أن هذا الأخير، قد وظف في مجالات عديدة من البحث العلمي، فمثلا، في علاقتنا بالتراث الغربي، قد ظهر باحثون عديدون عرب يدعون إلى الحفر في التراث بمفاهيم علمية حديثة غربية، وإذا كانت هذه العملية قد أبانت عن جدارتها ونتائجها الإيجابية في البحث العلمي عند العرب من جهة، وإذا نحن استحضرنا ما قام به الباحث السيميائي الإيطالي " أمبرتو ايكو"؛ إذ قام بالحفر في مفاهيم لسانية- سيميائية كالعلامة والسنن مثلا، في كتابه السيميائية وفلسفة اللغة، من جهة ثانية، فإن فعل الحفر من حيث هو عملية صعبة، قد مكن المؤلف من الحفر في ذاكرته، متسلحا في ذلك، بمنظومة فكرية علمية، وبمجالات علمية: علم النفس المعرفي، وعلم النفس التربوي للطفل، وعلم الاجتماع، والأركيولوجيا إلى جانب علوم ومناهج أخرى. كل هذا، مكن المؤلف من العودة إلى ذاكرته والحفر فيها، فكانت بدايته من طفولته وكيف تمت نشأته بين أهله من أمه وأهله من أبيه، إلى جانب تدقيق المؤلف في الأحداث التاريخية والاجتماعية، وعلى نفسيته إبان هذه المرحلة. على أن عملية الحفر عند المؤلف لم تشمل ما هو ذاتي مرتبط بالطفولة وحسب، بل إنه تضمن أيضا الحديث عن فكيك، مسقط رأسه، من خلال حديثه عن ظروفه العائلية، وتقاليد وعادات مسقط رأسه في الزواج والطلاق، ونظم وسنن العيش بين السكان وظروفهم الاجتماعية وتطلعاتهم وآمانيهم. عموما، فإن المؤلف يقدم وصفا شاملا للذكرى ولمكانها وزمانها بشكل دقيق. لينتقل، بعد ذلك، للحديث عن بدايته الدراسية بالمسيد ( الجامع)، قبل أن ينتقل إلى استرسال دراسته في وجدة، ثم الدارالبيضاء ثم سوريا، وأخيرا الرباط. على أن حديثه حول هذه المرحلة الدراسية وكيف شكلت شخصيته، كان مصحوبا بكل الأحداث والمقارنات التي كان يعقدها المؤلف بين نظم مسقط رأسه، وكلّ ما رآه في وجدةوالبيضاءوسوريا. لتنتهي حفرياته بحديثه عن فصل خاص مستقل ( فصل فريد) عن ذكرى والدته، وظروف وفاتها وموقفه الحالي من تلك الوفاة، إلى جانب ما أججته من نيران في نفسيته، من جهة، والنصوص التي كتبها المؤلف في مراحل مختلفة من تكوينه الفكري، تطرق فيها للحديث عن تجربته في الحب، وعن تجربته في الزواج، وفي التساؤل حول الله، ما جمعه في: المرأة، الله، المستقبل. ونحن نقرأ هذه السيرة الذاتية، كنا متشوقين للتعرف على المؤلف، كمفكر، إلا أن هذا كان شبه غائب، رغم ما تضمنته تلك النصوص من تفكير وتفلسف، خصوصا حول وجود الله...إلخ، إلا أنها كانت عبارة عن أسئلة كان قد تناولها أصحاب الفرق الكلامية، من معتزلة واشاعرة و...إلخ. من خلال قراءتنا لهذه السطور، يبدو جليا أن المؤلف تمتع بذاكرة قوية، لها قدرة على الحفظ من جهة، وعلى التذكر واستدعاء الماضي بكل جزئياته من جهة ثانية. وتبعا لذلك، يمكن القول إن المؤلف كان محملا بعدة معرفية ثقافية كبيرة، وهو يحفر في ذاكرته، ولعل هذا ما صرح به في الحوار الذي أجرته معه بعض الجرائد، كما هو موجود في آخر الكتاب. ومن ثم، نسوق ملاحظاتنا التالية حول ما سجلناه، أثناء قراءتنا لهذه السيرة الذاتية: - إن قارئ هذا المؤلف يخلص من قراءته، وهو محمل بعدة ثقافية حول الجنوب الشرقي عامة، وفجيج على وجه الخصوص؛ إذ إننا، ونحن نقرأ السيرة، استحضرنا كلّ ما يتميز به مسقط رأسنا؛ من نظم وتقاليد وعادات لا تختلف عما ذكره المؤلف في الشيء الكثير، ما جعلنا نستشف، حقا، أن المؤلف قد أرخ لسيرته الذاتية، ولمسقط رأسه، ولمدن الجنوب الشرقي عامة. - إن المؤلف وهو يحلل أسماء قصور مدينة فكيكك وأماكنها، كأنه، والحال تلك، باحث يمارس بحثه في العلمية المكانية، من خلال ما قدمه من دلالات لأسماء الأماكن، وما ترتبط به من دلالات ثقافية داخل العقل الجمعي للمنطقة. فالحديث عن أسماء الأماكن، لا يمكن أن ينطلق من خارج المنظومة الفكرية والثقافية والتاريخية لسكان المنطقة التي تحمل ذلك الاسم، ومن ثم، فإن المؤلف قد ولد ونشأ وترعرع في المنطقة، وهذا ما مكنه من معرفة دلالة الاسم، وما يمثله في منظور سكان المنطقة. هذا، إلى جانب العلمية الإسمية؛ تلك التي تبحث في أسماء الأعلام، وفي سبب التسمية وأبعادها التاريخية والفكرية. وهذا، ما نجده عند المؤلف، خلال حديثه عن بعض أسماء الأشخاص بالأمازيغية، وما تخضع لها من تغييرات وتحويلات من أجل التخفيف في النطق، وغايات أخرى. - إن من لم يقرأ هذه السيرة الذاتية، لا يمكنه أن يبحث عن المسار الفكري للمؤلف، في كتبه الفكرية حول العقل العربي عامة، ولا أن يفهم مساره السياسي، رغم أن هذا الأخير لم يتم الحديث عنه، بشكل شامل وواضح، ليفهم القارئ الجابري السياسي من خلال سيرته الذاتية. - إن هذه السيرة الذاتية، تعد تأريخا لتاريخ المغرب في عهد الحماية، وإبان الاستقلال وبعد الحصول على الاستقلال، ذلك، يعزى لما تحدث عنه المؤلف من شخصيات كبيرة في الحركة الوطنية، وكيف كانت البدايات الأولى للسير نحو المطالبة بالاستقلال، بالإضافة إلى الدور الرائد والفعال الذي مثلته منطقة فجيج في استقلال المغرب. - من بين ما يلفت الانتباه، أيضا، اللغة الأدبية التي كتبت بها السيرة، إذ إنها لغة رصينة واضحة، استطاعت نقل كلّ ما يود المؤلف نقله، باستثناء ما ورد في نصوصه التي كتبها في أوائل شبابه، إذ أشار إلى أن اللغة لم تستطع تفسير ونقل بعض مشاعره وإحساساته، هذا إلى جانب أن هذه السيرة الذاتية لم تطغ عليها الدارجة المغربية أثناء الكتابة، وهذا خلافا لما نجده في بعض السير الذاتية؛ كسيرة ليلى أبو زيد، على سبيل المثال لا الحصر. - لقد تميزت هذه السطور، من منظوري، بقدر كبير من الصدق والموضوعية، لا كما ذكر المؤلف نفسه، ولكن من خلال حديثه المنسجم والمتسق، منذ طفولته إلى بدايات شبابه. - كما أنها، السيرة الذاتية، تضمنت قدرا كبيرا من الجرأة في الحفر، فالكاتب وهو ينقل إلينا سيرته، قد نقلها بدون خوف ولا ضغط ثقافي وعرفي، وإنما تخلص من كلّ الضغوطات السياسية والعرفية. - في قلب هذه السيرة الذاتية، وردت مجموعة من الإشكالات الفلسفية والعلمية، وكلما أراد المؤلف تفسير حالة نفسية ما أو ثقافية، عاد إلى مجموعة من العلوم الحديثة؛ كعلم النفس المعرفي والتربوي عامة، والفرودي والبياجي خاصة. بالإضافة إلى استحضاره إلى الحفر الأركيولوجي في الثقافة، ولعل هذا ما مارسه المؤلف في سيرته هذه. - رغم قراءة هذه السيرة الذاتية، فإننا لم نستطع تبين إيديولوجية المؤلف، ولا الخلفيات السياسية التي صدر منها أثناء الكتابة. - أشار المؤلف في أحد الفصول الأولى أنه كاد أن ينسى لغته الأم(الأمازيغية) إن لم نقل إنه قد نساها كما ذكر، ولعل هذا ما كان مخالفا لابن خلدون، خصوصا أثناء حديثه عن اكتساب المرء للسان ثاني غير لسانه الأصل أو الأم؛ إذ أشار ابن خلدون إلى أن نسيان اللسان الأصل صعبٌ نوعا ما، وأن اكتساب لسان ثاني لا يقل صعوبة عن الأول، وهذا ما حدث للمؤلف، في بدايات مساره الدراسي، أثناء تعلمه للغة العربية، وللدارجة المغربي. تأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن هذه السيرة الذاتية قد استطاعت أن تعرفنا عن المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وأن تطلعنا عن الأشواط التي قطعها ليتشكل بعد ذلك وعيه الفكري والثقافي والسياسي؛ إذ رصدنا هذه الأسطر من ألفها إلى يائها، محللين مع المؤلف، متسائلين معه، دون أن نشعر بملل أو كلل من تتبع القراءة، ولعل هذا ما يدل عن قيمة هذه السيرة، الفكرية والتاريخية والاجتماعية، والثقافية، والحضارية. أخيرا، نؤثر الإشارة إلى أن ما قدمناه من ملاحظات، لا ينقص بالضرورة من قيمة الكتاب، وإنما قد يدل عن خطأ تأويلنا، وسوء فهمنا لبعض القضايا التي أثارها المؤلف، وكما ذكر هذا الأخير، في الحوار الموجود في آخر الكتاب، أن خطأ القارئ في التأويل لا يعود بالضرورة للمؤلف، بقدر ما يخص القارئ نفسه.