تقدم جريدة هسبريس لقرائها الأوفياء، داخل المغرب وخارجه، كتاب "عبد الكريم الخطابي، التاريخ المحاصر" لمؤلفه الدكتور علي الإدريسي، في حلقات، خلال شهر رمضان الكريم. هذا الكتاب، الذي تنشره هسبريس بترخيص من مؤلفه الدكتور علي الإدريسي منجما على حلقات، لقي ترحابا واسعا من قبل القراء المغاربة ولا يزال، إلى درجة أن الطبعتين الأولى والثانية نفدتا من المكتبات والأكشاك؛ بالنظر إلى شجاعة المؤلف في عرض الأحداث، وجرأته في تحليل الوقائع بنزاهة وموضوعية. الكتاب من أوله إلى آخره اعتمد الوثائق النادرة في التأريخ للزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بأفق وطني يتسع لجميع المواطنين المغاربة، على عكس الطريقة التي "اعتاد عليها أولئك الذين حاولوا احتكار الوطنية وتأميم مستقبل المغرب، والتحكم في مصير أبنائه قرونا أخرى"، يضيف على الإدريسي في تقديم الكتاب. الحلقة السابعة حرب التحرير تطرد ليوطي من المغرب حل كل من ستيكَ وبيتان في مكان ليوطي عقب هزيمة البيبان وحد كورت. ومرة أخرى سيصدر الخطابي تعليماته بعدم دخول مدينتي تازة وفاس، ربما لاعتبارات نفسها التي لم يوافق على دخول مدينة مليلة قبل ذلك. اعتبر رحيل المارشال ليوطي عن المغرب بمثابة قرار أصدره عبد الكريم الخطابي بطرده من المغرب، على حد تعبير الكاتبة زكية داود في حلقة من حلقات برنامج " مغرب القرن العشرين" الذي عرضه التلفزيون المغربي خلال سنة 2004. ومن جهة أخرى استجابت الحكومة الفرنسية لطلب الماريشال بيتان برفع عدد القوات المسلحة الفرنسية في المغرب، العاملة في الجبهة الريفية. وقد كشف عن ذلك أنطوان بيني " A. Piney"، وزير خارجية فرنسا في تصريحاته أمام برلمان بلاده سنة 1955، أثناء أزمة خلع محمد الخامس ونفيه، مخاطبا نواب الجمعية الوطنية الفرنسية قائلا لهم: «لقد كلفتنا حرب الريف سنة 1926 استنفار 325000 جندي، بينما لم يكن يتوفر لعبد الكريم سوى 20000 رجل مسلح، وقد كان لدينا على خط النار: 32 فرقة عسكرية و44 سربا على رأسها 60 جنرالا بقيادة الماريشال بيتان، مع العلم أن هذا الجيش هو الذي خرج منتصرا من الحرب العظمى 1914- 1918، إضافة إلى دعمه من قبل أربعة أخماس من السكان المغاربة الذين قدموا 400000 جندي إضافي.» وهكذا أصبح عدد القوات الاستعمارية (الإسبانية والفرنسية) يتجاوز عدد سكان المنطقة التي كانت تجري فيها الحرب. فالسكان كانوا يتراوحون بين 725000 و760000، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه. في الوقت الذي كانت فيه القوات العسكرية الفرنسية المحاربة في المغرب قد بلغ تعدادها 725000 جندي وفقا لتصريح الوزير بيني، سالف الذكر. ووصل تعداد القوات الإسبانية إلى 360000 جندي ( 220000 على الجبهة الشرقية 140000 على الجبهة الغربية) . وهذا يعني أن المجموع الكلي للقوات المسخرة للحرب الريفية يتجاوز عدد السكان بحوالي 230000 جندي. ويكفي أن نشير إلى أن الإنزال في ساحل الحسيمة تطلب «136 طائرة معززة ب 6 قاذفات فرنسية وإمدادات أخرى بلغت 160 طائرة» ،أما المجاهدون فعددهم حسب التقديرات الفرنسية لم يكن يتجاوز 20000 مجاهد، وتقول تقديرات الماريشال بيتان أنهم كانوا يتراوحون بين 30000 و40000. وهو رقم مضخم من قبل الدوائر الاستعمارية لأغراض سياسية ودعائية، لأن الأرقام التي أدلى بها الخطابي أثناء مقامه في القاهرة لا تتجاوز 14000 مقاتل، نصف هذا العدد من المتطوعين. ورغم تفوق الجيش الاستعماري في عدده على السكان، وهو الشيء الذي لم يحدث في الحروب الاستعمارية المعروفة، فإن إرادة المجاهدين والتزامهم بعهدهم على حماية الدين والوطن والشرف، كانا أقوى وأصلب من الآلة الحربية الاستعمارية. " استنجاد " الاستعمار بأسلحة الدمار الشامل عند هذا الوضع لجأت القوتان الاستعماريتان إلى استعمال سلاح الغازات السامة المحرمة دوليا، منذ معاهدة فرساي لسنة 1918. وأنواع الغازات التي استعملت في الريف هي: غاز اللوست أو الخردل. الفوسفور الأصفر. الإلكترون وهو مزيج من المغنيزيوم والألومنيوم، وهي غازات محرقة مثلها مثل الفسفور الأصفر. وقد وصف المهندس الألماني شتولتسبرغ "Stolzberg" سنة 1924، وكان قد أسهم بقسط كبير ومركزي في تطوير سلاح الغازات السامة الإسباني في كل من مصنعي مدريد ومليلة، خطورة وفداحة غاز اللوست بقوله: «إن واحدا على خمسمائة ( 1 / 500) من نقطة غاز اللوست تكفي لتوفير شروط تعفن اللسان الذي يؤدي إلى الموت.» وإن كان للإسبان اهتمام سابق بسلاح الغازات السامة إلا أن شغفهم الشديد بالحصول على هذا السلاح ظهر بقوة بعد هزيمة أنوال سنة 1921، على الرغم من توقيعها وفرنسا على معاهدة فرساي المشار إليها أعلاه. واتجهت إسبانيا نحو الألمان الذين كان لهم باع طويل في صناعة هذا السلاح الفتاك،«لكن الألمان كانوا يجدون صعوبة كبيرة في تلبية طلبهم، فمنشآت الغازات الحربية كانت مشلولة آنذاك، بل تم تفكيكها في الغالب من الأحيان»، بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. ولذلك يعتقد مؤلفا كتاب "حرب الغازات السامة بالمغرب" «أن فرنسا كانت هي التي زودت إسبانيا بالغاز» قبل هزيمة أنوال. أما بعد هذه الهزيمة، وعلى الرغم من وضعية الألمان، فإن إسبانيا سعت بكل ما أوتيت من حيلة إلى الاستفادة من خبرة مهندسيهم ومنشآتهم في موضوع الغازات السامة. وقد سجل شتولتسبرغ الذي أصبح المشرف الرئيس على تطوير سلاح الغازات الإسباني الملاحظة التالية في شهر يونيو 1923: «كان الإسبان يتوفرون على قنابل كبيرة من الكلوربكرين، وقد أكد الجنرال مارتنيس بأن تأثيرها على المورسكيين ( رجال القبائل الريفية) سيكون فعالا، وأنها ستلاحقهم في مخابئهم بالشعاب والمغارات حينما تشن الطائرات هجومها.» وبالفعل فقد سجل التاريخ العسكري الحديث أن إسبانيا وفرنسا، الموقعتين على معاهدة تحريم استعمال الغازات السامة في الحروب، أصبحتا أول دولتين في العالم تدشنان الحرب بالغازات الكيميائية عن طريق الجو بالطائرات، وبشكل ممنهج يرمي إلى «تلويث المنطقة تلويثا شاملا بالغازات» ، خاصة وأن المختصين في آثار هذه الغازات وتأثيرها أقنعوا القيادة الإسبانية أولا، ثم القيادة الفرنسية ثانيا، بأن «منطقة الريف ذات التضاريس الوعرة، [هي] أكثر ملاءمة لإستراتيجية التلويث، لأن مفعول الغازات السامة بالوهاد والوديان يدوم مدة أطول من تلك التي يستغرقها بقاءه بالأرض المنبسطة التي تبعدها الرياح عنها بسرعة.» وتتمثل نتائج استعمال الغازات الكيميائية بصفة خاصة في انخراط «المرضى المصابين بغاز اللوست في كآبة قاتلة وخمول تام، كما لو أن الأمر كان يتعلق بمرض تعفني خطير.» كلفة الحرب الاستعمارية ومن جملة هذه الأمراض التعفنية الخطيرة، التي نجمت عن استعمال الغازات السامة، مرض السرطان الذي ينتشر بكثرة في منطقة الريف مقارنة مع المناطق المغربية الأخرى، وفقا للإحصائيات المنجزة حديثا والمتداولة حول الموضوع بين الأطباء في المراكز الاستشفائية ومعاهد الأنكولوجيا. وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد هو أن الدولتين الاستعماريتين لا تزالان ترفضان الاعتراف باستعمالهما سلاح الغازات السامة (الدمار الشامل) المحرم قانونا، والممقوت أخلاقا، إلا أن تقارير الطيارين الألمان، المنشورة بعض فقراتها في كتاب " حرب الغازات السامة في المغرب"، وكذا الوثائق الأخرى التي تم الحصول عليها، لا تدع أي مجال للشك في أن الدولتين، استعملتا هذا السلاح. لكن إسبانيا استعملته بكثافة أكثر. وظهر في السنوات الأخيرة دراسة أكاديمية للمحامي الباحث مصطفى بنشريف كشف فيها عن الحيل الاستعمارية واستعمال الشفرات السرية في المراسلات بين الدول الاستعمارية كي لا تعرف خروقهم لمعاهدة فيرساي، وارتكابهم للجرائم ضد الإنسانية في شمال المغرب. وما يثير الاستغراب أكثر هو أن الدولة المغربية وأحزابها الممثلة في البرلمان لم تتجرأ إلى الآن من مطالبة الدول الاستعمارية على تقديم مجرد اعتذار على جرائمها في الريف والشمال. وهل يسمح لنا بطرح السؤال المتعلق بمعرفة أسباب ذلك؟ وبقي عدد القتلى، بسبب استعمال الغازات، سرا من أسرار الحرب الريفية كذلك. ولم تستطع الكتابات الأوروبية الكشف عنه، ولهذا تلتجئ إلى المقارنة مع حرب الحبشة، مثلا، التي استعملت فيها إيطاليا نفس السلاح، إلا أن باحثا مغربيا، عاش بجانب عبد الكريم في القاهرة، ذكر أن عدد الذين سقطوا شهداء بالغازات السامة في القرى والأسواق والوهاد وصل إلى 3000 قتيل. مما لاشك فيه أن هذه الحرب كلفت الدولتين الاستعماريتين ميزانية ضخمة. لكن إذا كانت مراجعنا عن ميزانية فرنسا الخاصة بحرب الريف لا تفيد بالشيء الكثير، زيادة على كون الخزينة الفرنسية كانت تتمول بخيرات مستعمراتها المنتشرة في مختلف القارات آنذاك، وفي مقدمتها خيرات" المغرب النافع" على حد تعبير ليوطي، فإن إسبانيا كانت على عكس ذلك تماما، بعد فقدها لآخر مستعمراتها في أمريكا اللاتينية وآسيا؛ بخروجها من كوبا سنة 1898، ومن الفلبين سنة 1899، ثم إن الجزء المغربي الذي منحته إياها المعاهدات الاستعمارية، لم يكن من الأجزاء الغنية مقارنة مع المغرب النافع. ومن ثم كانت نفقات إسبانيا على عسكرها بدون المقابل الذي كانت تنتظره، كما أشار إلى ذلك ديكتاتور إسبانيا بريمو دي ريفيرا في تصريحه الذي أوردنا بعض فقراته فيما تقدم. وينقل لنا المؤرخ الإسباني ميكل مارتين، عن الدليل العسكري الإسباني لسنة 1921، «أن الميزانية العسكرية تلتهم 51% من اعتمادات الدولة، وأن باب النفقات المخصصة للمغرب تضاعف ثلاث مرات ونصف المرة ما بين 1913 و1921، إذ ارتفع من 63.500.000 إلى أكثر من 211.000.000 بسيطة.» وتشير مصادر إسبانية إلى «أن ميزانية إسبانيا العسكرية تكلف الأمة 46.000.000 جنيه إسترليني كل عام.» وكانت تلك الخسارة في الأموال هينة أمام الخسارة في الأرواح التي تشير إليها الأرقام التالية بالنسبة للجانب الإسباني: - 65950 قتيل من الجنود الإسبانيين. - 157580 قتيل من المرتزقة والمجندين المحليين واللفيف الأجنبي. أما الجيش الفرنسي، فتشير الأرقام إلى أن خسارته كانت كالتالي: - 25360 قتيل من الجنود الفرنسيين. - 42870 قتيل من المرتزقة واللفيف الأجنبي ومجندي المستعمرات. ومن جهة أخرى حددت خسائر المجاهدين كالتالي: - 10250 شهيدا في ميادين المعارك. - 850 شهيدا في ميادين المعارك بالغازات السامة. - 2250 شهيدا بسبب القصف الجوي والبحري للأسواق والقرى. -2150 شهيدا بسبب القصف الجوي بالغازات السامة للأسواق والقرى. هذه هي الحصيلة المحتملة للخسائر في الأرواح والأموال، إلى أن تظهر أرقام أخرى، إن وجدت، التي نجمت عن هذه الحرب غير المسبوقة في تاريخ الاستعمار الأوروبي الحديث؛ الأمر الذي أدى بهذا الاستعمار، وبصفة خاصة إسبانيا، إلى الاستعانة بالغازات السامة من أجل أن ينتصر الاستعمار. «لكن المجد يبقى للريف» على حد تعبير أحد الصحافيين الأمريكيين. وفعلا فقد استلمت «إسبانيا 110 طن من غاز الإبيريت( اللوست) لاستعمالها في حرب الريف، فتم لها بذلك القضاء على التمرد الريفي.» ولا يزال موضوع استعمال الغازات السامة ضد المغاربة في حرب 1921- 1926 مسكوتا عنه، من قبل المنظمات الحقوقية والإنسانية، ولا نظن أن إسبانيا تفكر في تقديم الاعتذار للشعب المغربي عن تلويث البيئة وقصف القرى والأسواق بالغازات السامة المحرمة دوليا والممقوتة أخلاقيا والمرفوضة إنسانيا في كل زمان ومكان، مهما تتعدد مسوغات مجرمي الحرب.