هذه الأيام تتوالى الدعوات تباعا على جماعة العدل والإحسان، من جهات متعددة، لفتح باب الحوار مع النظام في المغرب، فبعد دعوة توفيق بوعشرين رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم، التي أطلقها في مقال له في بداية شهر يوليوز الماضي بعنوان "العدل والإحسان والسلطة في حاجة إلى الحوار"، تأتي دعوة الشيخ محمد الفيزازي الثانية في -أقل من شهرين- بعد رسالة أولى عنونها:"رسالة من محمد الفزازي إلى جماعة العدل والإحسان". وبغض النظر عن الدوافع الحقيقية للأطراف الداعية إلى الحوار، والتي تتراوح بين دافع الروح الدينية والوطنية العالية والقناعة الديمقراطية والخوف على مصالح البلاد، التي قد تحرك البعض من أجل الدعوة إلى فتح حوار وطني حقيقي، لتجنيب البلاد الاحتقان، هذا إن أحسنا الظن، وبين الدافع المخزني، الذي يجعل دعوات الحوار المتكررة بالونات اختبار يطلقها النظام عبر وكلائه وعرابيه وسماسرته، بمختلف صفاتهم الثقافية والدينية والسياسية، لجس نبض الجماعة ومعرفة مدى استعدادها للاندماج في لعبة التجاذبات الحالية، قبل التورط في حوار مباشر أو مفاوضات مع جماعة يعتبر المخزن مجرد الحوار المباشر معها توقيعا مجانيا لشهادة اعتراف رسمي بها، وربما تأتي اتصالات السفارة الأمريكية مع أطر العدل والإحسان وقيامها بدور العراب في هذا السياق، كما أنه ليس مصادفة أن يطلق الشيخ الفزازي هذه الدعوة بعد زيارة المسؤول الأمريكي له قبل أيام، وقد تكون علاقة جماعة العدل والإحسان والنظام المتوترة من بين القضايا التي طرحت للنقاش في لقاء طنجة. ودون التوقف كثيرا عند الخلفيات السياسية لهذه الدعوات، التي تحمل في طياتها شبه اتهام للجماعة بأنها توصد كل أبواب الحوار، وتعطي الانطباع للقارئ العادي أيضا أن هذه الجماعة تحترف المعارضة ولا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، فالسؤال المطروح الآن هل أغلقت العدل والإحسان باب الحوار يوما في وجه الأطراف السياسية والدعوية والإعلامية وحتى المخزنية يوما؟ وهل كانت مسؤولة عن فشل أي حوار جمعها مع الأطراف المخالفة؟ وهل يمكن اعتبار دعوات الحوار التي يطلقها المخزن مع معارضيه حوارا أم دعوات مشروطة للإذعان؟ ويمكن رصد الإجابة على هذه الأسئلة من خلال مستويين : المستوى المبدئي: متمثلا في المرجعية الفكرية للجماعة، فكل وثائق الجماعة وأدبياتها بدون استثناء بدء من رسالة "الإسلام أو الطوفان" الشهيرة، ومرورا بما يسمى بسلسلة الكتب الحوارية للشيخ ياسين، وصولا إلى وثيقة "جميعا من أجل الخلاص" الصادرة عن دائرتها السياسية، تؤكد أنها تقبل الحوار مع الآخر، وتؤمن بالاختلاف وتدعوا إلى تظافر الجهود من أجل بناء مغرب يسع المغاربة جميعا على مختلف انتماءاتهم ومشاربهم، وتقبل بآليات الديمقراطية لحل الخلافات وتدبير التناقضات السياسية والفكرية. المستوى العملي: وذلك من خلال الوقائع السياسية والتجارب العملية منذ التأسيس وحتى الآن، والتي ورغم قلة الوثائق التاريخية، فالمؤكد من خلال ما أتيح للباحثين من الإطلاع عليه، فالجماعة حاولت وقبل تأسيسها فتح قنوات للحوار المباشر مع النظام من خلال رسالة "الإسلام آو الطوفان" التي وإن اتخذت شكل النصيحة الدينية التقليدية في شكلها وأسلوبها، فقد اقترحت على هرم الدولة آنذاك ممثلا في الحسن الثاني مجموعة من الإصلاحات السياسية على أرضية الإسلام ، ثم تلت ذلك محاولة فتح حوار مع مكونات الحركة الإسلامية من تيارات السلفية وبقايا الشبيبة الإسلامية ورموز الإسلام التقليدي لكنها باءت بالفشل، بل إن الجماعة ذهبت أبعد من ذلك إلى دعوة اليسار الماركسي والديمقراطيين وكل السياسيين إلى مبادرة "يوم الحوار الوطني "، في وقت كانت التيارات السلفية التقليدية تعتبر مجرد الجلوس مع رموز اليسار جريمة كبرى، ومؤخرا يشهد كل من نسق مع شباب العدل والإحسان في كل مدن المغرب على مدى رحابة صدورهم وقبولهم بالاختلاف وقدرتهم على الاستماع والحوار والإقناع، وبالتالي يخلص كل متابع منصف -لا يدمن استهلاك الرواية الرسمية -إلى أنه ليس هناك ما يمنع العدل والإحسان لا مبدئيا ولا عمليا من فتح قنوات الحوار، فالحوار ضرورة قصوى في عرفها كما يقول ذ فتح الله أرسلان:" مهم جدا أن نتحاور، فتتقارب الأفكار في إطار من الاعتراف المتبادل، والاستماع الحقيقي، وفهم الآخر والإقرار بحقه في الاختلاف، واحترام الدين والعقل والعلم والمعرفة.لابد أن نتجاوز الخصام الذي أصبح موقفا مبدئيا، أو مقدمة بديهية، أو مسلمة منطقية لا تخضع للنقاش"*. لكن العدل و الإحسان وككل تنظيم يحترم نفسه ومبادئه وقواعده، فهي تضع شروطا لهذا الحوار، في زمان العهر السياسي هذا، حين صار الجلوس مع رموز المخزن على مائدة واحدة يعد مكسبا ومكرمة، وفرصة عمر يسيل لها لعاب الكثيرين، بل ويقيم أحدهم الدنيا ولا يقعدها حين لا يدعى إلى الركوع في مناسبة من المناسبات، الحوار في عرف الناس يقتضي وجود طرفين لهما نفس الحقوق وإن اختلفا، ويفترض في الطرفين حسن النية والثقة، لا التخوين والتشكيك، كما يفترض فيه أن الحجة والإقناع هي من يحسم، لا الزنازن والسجون والإكراه، لهذا يمكن السؤال هل يعرف النظام في المغرب -كسائر الأنظمة المتخلفة -مفهوم ومعنى الحوار؟ أم أن الحوار كما عبر بوعشرين وهو المثقف الديمقراطي للأسف :"كيف يعقل أن ينجح إدريس البصري، وزير الداخلية السابق، في جر إسلاميي العدالة والتنمية إلى حقل العمل الشرعي، ولا تستطيع الدولة اليوم إغراء العدل والإحسان بدخول خيمة عهد جديد ولو بالتدريج" فالحوار حتى في عرف ديمقراطيي المخزن ومثقفيه :جر وإغراء وإخضاع وتدجين بالتدريج، أو "فاتكم القطار" بتعبير عبد الله صالح. إن مضمون الحوار الذي تدعوا إليه السلطة في المغرب منذ الاستقلال وحتى الآن، ومع كافة الأطراف وإن اتخذ أشكالا وألوانا لم يبتعد أبدا عن منطق "العصا والجزرة"، فالدولة لم تتقدم يوما للشعب المغربي عموما بعرض ديمقراطي متكامل، خارج خطاب الطاعة، ومفردات الإذعان وتقبيل الأيدي والتبريك، والتأييد غير المشروط الذي وصم حياتنا السياسية، لهذا كانت الجماعة ومعها كثير من الشرفاء ترفض أن تكون ماكياجا يزين بشاعة الاستبداد المخزني، وأبت مرارا أن تساهم في تدجين الشعب وتطويعه ليقبل أن تنتهك حقوقه وتنتهب ثرواته، أي أن القضية أكبر من الحوار في حد ذاته، فنتائج الحوار أهم بدو شك، لهذا على الدولة ومن يسايرها في المغرب، أن لا تتعامل مع معارضة العدل والإحسان للنظام باعتبارها مسالة شخصية، فالقضية قضية شعب ضد نظام استبدادي، مهما حاولنا تجميل صورته، يظل استبداديا متسلطا جائرا بميزان الدين وقواعده، وبميزان الديمقراطية وأصولها. *الحوار الذي ندعو إليه: أهميته، منطلقه، أطرافه، أهدافه: مقال بقلم ذ فتح الله أرسلان منشور بتاريخ السبت 28 فبراير 2004 [email protected]