بكثير من التقدير والاعتزاز، أكتب هذه الكلمة الموجزة في حق الأستاذ المتألق محمد الناصري، المؤسس لمدرسة جغرافية مغربية تعتز بعطائه وجهوده في الميدان الجغرافي منذ سنوات طويلة؛ فقد تناولت اهتماماته حقولا جغرافية متداخلة، سواء تعلق الأمر بالمجال الحضري المديني أو مجال الأرياف، إلى علاقة المدينة بالأرياف إلى غيرها من الموضوعات التي شغلت فكره وقلمه، فجنَّد نفسه من أجل ذلك للبحث الميداني الصعب ليبلور أخيرا وباقتناع نظريته لإيجاد سكن مناسب للسكان يحفظ كرامتهم وشموخهم. لقد كانت أغلب أبحاثه ودراساته تصب في المجال الترابي والإنساني بأبعادهما المتعددة اقتصاديا واجتماعيا وعمرانيا كمنطلق للتنمية والتطور، إنها اهتمامات وانشغالات باحث عشق البحث في هذا الميدان فأخلص له بطواعية وحب ونكران ذات بعيدا عن الأضواء. إنني لن أجازف بالحديث عن تخصص هذا العالم الجغرافي وهو يبحث في المجال وتطوره أو في سياسة المدن والأرياف؛ لكني سأتحدث عن هذا الأستاذ المعلمة من خلال ما أعرفه عنه وما لمسته عن قرب كباحث لا ينفك يتحدث عن انشغاله الجغرافي وعن أبحاثه وعن طلابه في جامعات مغربية وغيرها، خاصة وأن صدور كتابه الأخير "رغبات المدينة "، أنعش الحديث عن الأستاذ الناصري وسأتحدث عنه من خلال نقطتين: الأولى: العالم الباحث الأستاذ الناصري جغرافي محنّك، ذو كفاءة عالية في سبر أغوار الجغرافية كعِلْمٍ ومجال، باحث متمكن من أدوات البحث في ميدان تخصصه وفي غيره من ميادين التاريخ والطبيعة والبيئة. - باحث رصين، يستغرقه البحث سنوات ممتدة في الوطن أو خارجه، ينحت من صخر ما يريد تقديمه أو طرحه كتابة ونقاشا ومساجلة بتأن ورويّة واستيعاب. - رجل الميدان والحفر في جغرافية المدينة والبادية أو الريف، فهو لا يبدي رأيا ولا يخطُّ كلمة في أي موضوع تناوله فيما يتعلق بالمدن وأوضاعها والسكن وتجلياته والنمو الديموغرافي ومشاكله وما للسياسة العمرانية من أدوار في التغيير المنشود إلا بعد إعمال فكر نظري عميق وبحث ميداني دقيق، وكثيرا ما يشير إلى ذلك في أحاديثه ولقاءاته . - باحث متابع لأعمال طلابه وغيرهم، أكثر من ذلك يتعهدهم ويتابع منجزاتهم العلمية ويرشدهم ويمدُّ لهم يد المساعدة بكل ألوانها بتلقائية ومحبة، وهو بذلك من الأساتذة القلائل الذين يجدون المتعة في تتبّع أعمال طلابهم وتوجيههم، وقد لمست ذلك عن قرب. - قارئ كبير للأدب والتاريخ وغير ذلك، حدثني عن بعض أساتذة اللغة العربية والأدب العربي وعن قراءاته لمختارات من الروايات المغربية مبديا آراءه فيما تخطُّه يد المبدعين المغاربة ممن احتكَّ بهم أو عرفهم عن قرب. - يتأبط دائما محفظته وأوراقه وبعض المؤلفات التي يقرأها، يتابع الإصدارات والمنشورات الجغرافية والتاريخية والأدبية على اختلافها. - أستاذ شريحة كبيرة من الجغرافيين في كلية آداب الرباط أو في المعهد الوطني للبحث الزراعي أو في غيرهما من الجامعات. - محاضر في الجامعات المغربية والفرنسية وبعض الجامعات الأوروبية، ومشارك في الندوات التي تنظمها مراكز البحث في كليات مغربية ممتدة عبر أجزاء الوطن، ولعل آخرها كانت بكلية آداب تطوان 2018، أو في لقاءات جمعيات المجتمع المدني. النقطة الثانية: العالم الإنسان خصال كثيرة محبَّبة تطبع أخلاق علمائنا المغاربة وتشد إليهم الأنظار والاهتمام في المغرب وخارجه، ونعتز كباحثين مغاربة بهؤلاء العلماء ونفخر بهم، من تلكم الخصال ما تميز بها الأستاذ الناصري، فهو: عالم متواضع: قامة سامقة في التعامل مع الآخر، دماثة خلق وكريم خصال، يفتح بيته للباحثين برحابة صدر وجميل استقبال، وكلها خصال نبيلة تؤكد تواضعه ولين طباعه . رجل بشوش: يقبل على زائره أو على كل من أتيحت الفرصة للقائه ببهج وحبور، وعلى الباحث مشجعا على الدرس والبحث، ملبيا مقصده وإن لم يتفوّهْ به، يجالسه ويحاوره وكأنه نِدٌّ له. مُجالس ودود، ومحدث لا يشق له غبار، يفيدك في أي موضوع تودّ طرحه أو نقاشه بهدوء وروية، كلما جمعك به مجلس إلا وأتحفك بهدية نفيسة: كتاب أو مجلة أو ما يمتُّ إلى البحث بصلة.. يحسن الإنصات إلى محاوره، وهو أسلوب حضاري راق، فهو من الذين حباهم الله قدرة الإمساك بفنية على خيوط فن الحوار في أي ظرف كان. مسار الأستاذ محمد الناصري مسار مشرف للبحث العلمي بكتاباته وأبحاثه ومحاضراته ونقاشاته، يتحدث الباحثون على اختلاف مشاربهم عن سلوكه الحضاري الرفيع في التواصل معهم على الرغم من انشغالاته الكثيرة، نفتخر به عالما مرموقا وباحثا لامعا وأستاذا ناجحا، إنه باحث استثنائي على مستويات كثيرة، متعه الله بالصحة والعافية.