بسيل من دموع، استقبلتنا "رحمة أرحاب" في شقتها في ضواحي العاصمة الجزائرية، وهي تروي محاولات الهجرة السرية التي قام بها "محمد" وهو أصغر أبنائها. نفذ محمد أول محاولة "حرقة" بمدينة عنابة 650 كم شرقي الجزائر، بتنسيقٍ مع مجموعة شبان من محافظات عديدة، لكن خلافات حادة مع منظمي الرحلة إلى جزيرة سردينيا الإيطالية، نسفت حلمه في الرسو على شواطئ الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. تتابع "رحمة" في لقاء مع DW أن ابنها بعد بضع أسابيع نسج علاقة أخرى مع شبكة تهريب المهاجرين الجزائريين بطريق البحر، وهذه المرة في ساحل "دلس" بمحافظة بومرداس القريبة من العاصمة و"حين حانت لحظة الإقلاع في إحدى ليالي خريف 2014 تعطل بهم محرك القارب فعاد ابني إلى الدار، وقد حمدت الله حين فاجأني بدخول البيت، وقد كنت أعرف تحركاته لأنه لم يشأ إخفاءها علي، مؤمنًا بأن ينال رضاي في كل خطواته". اقتنع محمد البالغ من العمر23 عامًا، أن باب البحر موصد بوجهه، ما جعله يغير التفكير بالهجرة عن طريق إيداع ملف لطلب التأشيرة إلى فرنسا وهي أقصر الطرق بالنسبة للجزائريين حسب القناعة الراسخة لديهم، ومن هناك يتحركون بحرية صوب كل بلدان الاتحاد الأوروبي، ولكن ردًّا من سفارة باريس بالرفض صدمه. آمن محمد بعد 3 سنوات أن الهجرة قدره المحتوم الذي ما إن يغير تفكيره حتى يقع فريسة لمجموعات المتاجرة بأحلام الشباب، كما تقول والدته رحمة، مضيفة أن محاولة ثالثة من مدينة "دلس" مرة أخرى، قد أخفت آثره منذ العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2017. تواصل رحمة وهي تمسك منديلا تكفكف به دموع الحرقة والاشتياق لفلذة كبدها: "بحثت عن أهالي بعض الشبان الذين أعرفهم لانحدارهم من بلدة أزفون بمحافظة تيزي وزو حيث ترعرعت هناك، قبل زواجي من والد محمد بالجزائر العاصمة". وناشدت "رحمة" السلطات الجزائرية مساعدتها في الكشف عن مصير ابنها ورفاقه. منصورة.. "كأني اسمع صوته في إحدى الضواحي الايطالية" بشقتها في بلدية البوني بمحافظة عنابة الشرقية، يندلع خلاف بين منصورة وزوجها عادل، حول توصيف واقعة اختفاء ابنهما "محمد البشير"، وعمره 23 عاما. في مقابلة مع DW تخطف الأم المكلومة من زوجها حبل الكلام وترفض تصريحه بأن "بشيشو" البشوش قد توفي غرقا في عرض البحر، قائلة : "يراودني إحساس عميق أنّ ولدي ما يزال على قيد الحياة وهو ينتظر بفارغ الصبر معانقتي.. كأني اسمع صوته الذي انقطع عني لسبع سنوات، في إحدى الضواحي الايطالية وذلك كلما زرت عمدا شواطئ المدينة". وكشفت "منصورة" أن ابنها في آخر أيامه بالبيت قد تغيرت طباعه مع حلول رمضان 2011، يسهر كثيرا مع رفاقه في الحي ثم يدخل لتناول السحور ويغادر بعدها إلى وجهات لم تكن معلومة، :وقد انتابني وقتها خوف من تحركات مشبوهة، لكني لم أتوقع يومًا أن "بشيشو" كان يخطط ل "الحرقة"، حتى عانقني ذات مساء رمضاني وأبلغني أنه على عزومة إفطار عند عمه"، وتتنهد "منصورة مطولا لتقول" أتذكر جيدا كيف نظر إليّ يوم كان آخر لقاء". يتدخل "عادل" والد بشير: لم يكن ابني بحاجة إلى الهجرة السرية، لم يكن ذا خصاصة، وأكثر من ذلك كنت أدخر له المال لإرساله إلى خاله المقيم بماليزيا، حين أدركت أن بشير اقتحم عالم الهجرة من بوابة ركوب قوارب الموت، وقد بلغني احتكاكه بمجموعات شبان معروفة لدى الشارع المحلي بتنظيمها رحلات هجرة سرية نحو إيطاليا. تصرح منصورة أن زوجها يخاف عليها من زيارة شاطئ "كاف فاطمة" بمحافظة سكيكدة 100 كم غربي عنابة، وهو المكان الذي هاجر منه بشير مع خمسة عشر آخرون . وتضيف أن عادل يسمح لها بزيارات دورية إلى شاطئ "سيدي سالم" المعروف بأنه بؤرة "حرقة" نحو جزيرة سردينيا خلال سنوات مضت، قبل أن تضيق قوات الأمن الجزائري ووحدات خفر السواحل الخناق على عصابات الحرقة. تروي منصورة بمرارة كيف أنها لا تنام وتضطر إلى الجلوس لساعات أمام البحر، وتتابع: "أحس أن هذا البحر لا يخذل شعوري، لا يمكن لبشير إلا أن ينجح في ركوب القارب، أرفض قطعا ربط اختفائه بالموت". تضيف: في 2012 أقمت حفلاً بعد تداول أنباء عن عثور القنصلية الجزائرية على بعض المهاجرين في سواحل إيطاليا، وقد طبلت منا وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية وقتها إعادة إيداع ملف متضمن لوثائق الهوية وبيان السيرة الذاتية لأبناء مفقودين خلال عامي 2011 و2012.، فدعوتُ جيراني إلى الحفل وأبلغتهم أن بشير على وشك العودة، ومنذ ذلك الحين والسؤال عنه لم يتوقف. مختارية- "معمر حيّ" مختارية الساكنة بمنطقة واد رهيو في محافظة غيليزان 250 كم غربي الجزائر، استرجعت أخيرا الأمل بعد اتصال هاتفي من أحد أقاربها في فرنسا، يكشف فيه صاحبه عن معرفة مكان ابنها "معمر سي العربي" في هنغاريا. تقول الخالة مختارية في حديث مع DW عربية " منذ ثلاث سنوات قطعت أمل العثور على ابني الذي سافر إلى تركيا سنة 2012، بعد حصوله على تأشيرة الدخول من سفارة أنقرةبالجزائر". وتوضح مختارية أن ابنها المقيم حاليا بإسبانيا قطع بلدانا أوروبية بعد ترتيبات أجراها مع 3 جزائريين ومغربي ينشطون بمجال تهريب الأشخاص بين تركيا واليونان، بواسطة قارب على متنه 200 مهاجر غير شرعي غالبيتهم من جنسيات أفريقية، وفور وصول القارب إلى معبر جبلي يوناني تم توقيفهم للتحقيق معهم ثم منحوا بطاقة إقامة يونانية لمدة شهر واحد. تنقل السيدة الخمسينيّة على لسان ابنها "معمر" أنه قضى عاما ونصف العام متنقلا بين ست دول أوربية لدخول إسبانيا، لكن مساعيه فشلت بسبب التعزيزات الأمنية لمواجهة قوافل المهاجرين السريين ببلاد الأندلس، واضطر الفتى الهارب إلى المكوث بدولة هنغاريا بعد عثوره على عمل في جنينة أحد الأثرياء، وهناك تعرف إلى تونسي كثير التردد على فرنسا، وقد تكفل بالبحث له عن أحد أقاربه في مدينة تولوز الفرنسية. ينزل "مولود" قريب "معمر" إليه في هنغاريا، ويخطط لتهريبه على متن شاحنة إلى فرنسا، مستغلا شبكة علاقاته بالمعابر الحدودية، ولحظة وصوله إلى الهدف هاتف والدته "مختارية" التي كانت آمنت لفترة أنه قضى نحبه وغادر الحياة. تضارب أرقام وتجاهل حكومي أنشأ محامون جزائريون شبكة حقوقية للدفاع عن "الحراقة" المفقودين، والتنسيق مع ذويهم وأهلهم بمختلف المحافظات، ومن خلال هذا الفضاء يجري التواصل مع هيئات دولية وبينها الأممالمتحدة. بمكتبه الحقوقي في مدينة عنابة، يوضح المحامي كسيلة زرقين لDW عربية أنه مكلف بملفات 200 مفقود من مجموع 400 ملف مسجل في المحافظة، ويؤكد أنه على وشك إيداع الملفات المكلف بها على مستوى الهجرة الى منظمة الأممالمتحدة. ويتهم كسيلة مسؤولي بلاده بالتقاعس عن حل أزمة "الحراقة" المفقودين، مضيفًا أن عائلات المهاجرين السرين فقدت الأمل جميعها في تدخل حكومي جزائري، خاصة بعد توقيع اتفاقيات دولية بين الجزائر ومجموعة دول 5+5، كاشفاً من جهة أخرى، أن شبكة المحامين أودعت شكوى ضد نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، بتهمة اختطاف مهاجرين جزائريين كانوا في طريقهم إلى إيطاليا عبر تونس. ويوضح أنه لا توجد إحصائيات رسمية ودقيقة لعدد المفقودين الجزائريين، بينما يقول الحقوقي هواري قدور رئيس رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان بالجزائر، أن هيئته جمعت أزيد من 3000 ملف يخص "الحراقة" الجزائريين منذ 2009. على المستوى القانوني للظاهرة يكشف زرقين أن القانون يجرم فيه كل من يتورط في الهجرة غير الشرعية من خلال المادة 303 مكرر 30 بقانون العقوبات الجزائري ، ويعاقب من تثبت بحقه تهمة تهريب البشر بالحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات وبغرامة تتراوح بين (2700 دولار) و (4500 دولار). * ينشر بموجب اتفاقية شراكة مع DW عربية