تعتبر الديمقراطية من أفضل ما أبدعه العقل الإنساني في مجال الحكم وتدبير الاختلاف. وتم اقرار هذا النمط من الحكم في مجموعة كبيرة من دول العالم رغم اختلاف أنظمتها السياسية: برلمانية، رئاسية، شبه رئاسية، ملكية برلمانية بل حتى الأنظمة الديكتاتورية والشمولية.. كما أنها ساهمت في استقرار وازدهار دول كثيرة خاصة دول أوروبا التي كانت تعاني من ويلات الحروب والاستبداد على مر تاريخها. بيد أن هذا الإرث الإنساني لم يسلم من مظاهر الشيخوخة التي تفرض عليه تجاوزها من خلال تشبيب ذاته إن هو أراد تجاوز دورة ابن خلدون القاتلة ولو إلى حين. تتجلى هذه المظاهر بالخصوص في الأزمة التي باتت تعاني منها جل الأنظمة السياسية العالمية من خلال تركيز جزء كبير من السلطة الفعلية في يد مجموعات أو أفراد؛ لا تفرزهم بالضرورة صناديق الاقتراع (مجموعات الضغط، الاعلام، أفراد لهم نفود، مراكز التفكير...)، وهذا ما يؤثر أحيانا كثيرة على استقلالية المنتخبين وانحيازهم ضد إرادة الشعوب حتى في الدول المتقدمة. لعل في ولاية الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" خير مثال، حيت لم يستطيع طوال ولايتين رئاسيتين تنفيد وعده بإغلاق معتقل كونتانامو والأمثلة كثيرة لا يصعب ايجادها. نحاول من خلال هذا المقال المقتضب التذكير بأبرز محطات تطور الديمقراطية عبر التاريخ ابتداءً من شكلها اليوناني مرورا بالديمقراطية التمثيلية والعودة إلى منبعا لتنهل منه لعلها تتجاوز بعض مظاهر أزمتها. 1- ديمقراطية أثينا سنة 507 قبل الميلاد[1] قام زعيم الديمقراطيين "كليستين" بإصلاحات مست نظام الحكم الذي كان سائدا أنداك في أثينا، نذكر بالخصوص: -المساواة بين أفراد الشعب أمام القانون؛ - الحق في إبداء الرأي؛ - الحق في المشاركة في الجمعية العامة... كانت هذه الحزمة من الإصلاحات تهدف إلى إشراك الفرد في تسيير شؤونه بشكل مباشر وبالتالي أمكن الحديث عن الديمقراطية المباشرة في نسختها المبسطة. 2- الديمقراطية التمثيلية بعد الثورتين الأمريكية سنة 1775 والفرنسية سنة 1789 حاول زعماء الثوار السيطرة على السلطة المنهارة وذلك بتأسيس نظام يقوم على الحكم غير المباشر للشعب بواسطة ممثلين عنه من المتعلمين والمثقفين: كتاب ومحامون وملاك أراضي .. على اعتبار أن بقية الشعب لا تصلح للحكم وغير مؤهلة لذلك. وقد انتشر هذا النوع من الحكم في جل الدول وطفت إلى السطح كما أشرنا سابقا محدوديته في إشراك حقيقي للمواطنين من غير الالتفاف على رغباتهم أو توظيف أصواتهم للوصول إلى السلطة، وتزداد حدة هذه المشاكل كلما توجهنا نحو البلدان النامية لاعتبارات كثيرة منها ما هو تاريخي وثقافي وسياسي... 3- الديمقراطية التشاركية ظهرت في عقد 1960، وذلك للحد من سلبيات الديمقراطية التمثيلية كما أسلفنا وتهتم بإشراك المجتمع المدني والهيئات المهنية وغيرهما في اتخاذ القرارات ذات الاهتمام المشترك أو لها تأثير عام[2]. 4- العودة إلى المنبع الحديث عن مؤشرات العودة إلى الديمقراطية المباشرة – أو على الأقل تبني نظام مختلط - قد يطول قد يطول، لذلك سنركز فقط على بعض التجارب الرائدة. على أن العودة لا تعني بالضرورة تبني جل دول العالم، في إحدى مراحل تطورها السياسي، ألية من أليات الديمقراطية المباشرة؛ أحيانا كثيرة نقف أمام نماذج ناجحة في مجالات كثيرة رغم تفردها. كان الهدف الأساسي من هذه العودة الجزئية تجاوز ما أسميناه "أزمة الديمقراطية" وحددنا بعض مظاهرها، كما أنها تجعل الشعب يساهم مباشرة في التشريع إلى جانب ممثلين عنه. في سويسرا تم مند سنة 1848 اعتماد نظام ديمقراطي مختلط يتخذ مجموعة من آليات الديمقراطية المباشرة لمراقبة وتوجيه الهيئة المنتخبة نحو تبني قوانين تخدم مصلحة الشعب بالدرجة الأولى والحد من ديكتاتورية الهيئة المنتخبة. في الولاياتالمتحدةالأمريكية تم في بعض الولايات مند سنة 1970 إقرار مجموعة من الأليات لإشراك الشعب في بعض القرارات المهمة. في ايطاليا تم أيضا تم تبني هذا النظام سنة 1970 لمعالجة بعض القضايا التي تثير جدلا... كل هذه الدول حاولت المزاوجة بين ميزات الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية المباشرة؛ بنسب مختلف وبنجاحات متفاوتة، بأسلوب وآليات تخدم التطور الذي وصلت إليه الإنسانية في مختلف العلوم بشتى أنواعها، ولا زالت تعتبر تجارب محدودة على أهميتها ورغم نتائجها الجيدة خاصة في معالجة القضايا الكبرى التي تخلق جدلا واسعا قد يعصف ببلدان بأكملها. 5- أليات الديمقراطية المباشرة يتم الاعتماد بالأساس على أليتين رئيسيتين: -الاستفتاء الفيتو: يمكن الشعب من إلغاء قوانين تم إقرارها من غير رضاه (ربما بسب خطاء في التقدير، قوى الضغط، مراكز التفكير، الإعلام،...)، ولأجل هذه الغاية يجب جمع 50.000 توقيع في حالة سويسرا و قد يختلف هذا الأمر حسب كل دولة. -المبادرة الشعبية: تهدف إلى تقديم مشروع قانون لإقراره ويشترط في ذلك جمع 100.000 توقيع في سويسرا مثلا. هذه النماذج التي أشرنا لها بشكل سريع، وغيرها من التجارب التي لم نشر لها، تحتاج إلى دراسات وأبحاث وتحاليل عميقة لتفكيك بنيتها وفهم طبيعة مجتمعاتها مع استحضار أهمية العلوم ذات الصلة من تاريخ وعلم اجتماع وعلم النفس الاجتماعي وغيرهم، دون إغفال خصوصياتنا الثقافية والدينية وما إلى ذلك إن نحن أردنا الاستفادة منها. بعض المراجع [1]-Moses Finley, Démocratie antique et démocratie moderne, Payot, coll. « Petite bibliothèque », 2003. [2]-CALLON (Michel), LASCOUMES (Pierre), BARTHE (Yannick), 2001, Agir dans un monde incertain. Essai sur la démocratie technique.