لطالما شكلت الحركات الاجتماعية أحد الآليات البارزة في إحداث التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي داخل المجتمعات، وذلك من خلال تظافر جهود الفعل الجماعي لهذه الحركات Collective Action من أجل إحداث التغيير المنشود. لهذا شكلت مشتلا فكريا وعلميا، نتج عنه العديد من المقاربات النظرية التي تظافرت من أجل تحليل مكنون هذه الحركات ودوافعها وتمظهرات مساراتها. فبعد أن انصبت الجهود النظرية الأولى في دراسة هذه الحركات حول السلوك الفردي ومتغيراته السيكولجية كالإحباط والحرمان، والظلم والعزلة. انتقل الاهتمام بعد موجة الاحتجاجات التي عرفتها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض البلدان الأوربية خلال عقد الستينات من القرن الماضي، إلى توظيف مفهوم الفرصة السياسية، ومفهوم تعبئة المصادر، وذلك بغية فهم أفضل للقيم والأفكار والبيئة التي تنشأ وتتفاعل معها هذه الحركات. بيد أنه مع مطلع الألفية الثالثة ومع التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها بلدان أوربا جراء تأثير العولمة، ستبرز نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة New Social Movement Theory، والتي تركز بالأساس على دراسة التفاعلات الاحتجاجية داخل المجتمعات الما بعد الصناعية، والتي أخذت شكل الحركات النسوية والحركات المدافعة عن البيئة وحقوق المثليين... وبالرغم من التطور الحاصل داخل الحركات الاجتماعية، والأشكال التي اتخذتها للتعبير عن فعلها الجماعي، يبقى القاسم المشترك داخل هذه الحركات أنها جعلت من الشارع والمجال العام فضاء لممارسة أشكالها الاحتجاجية وتعبيراتها النضالية. لكن مع التطور الذي عرفه العالم الافتراضي من خلال نمو استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، حيث يعرف عدد مشتركي الهاتف النقال ومستخدمي الأنترنيت عبر نظام "الأندرويد" تزايدا كبيرا، فحظيرة الهاتف المتنقل بالمغرب على سبيل المثال بلغت 42 مليون و50 ألف مشترك سنة 2017 حسب آخر الإحصائيات الصادرة عن الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، في الوقت الذي بلغ عدد مستخدمي الإنترنت المغاربة ب 18 مليونا ونصف مليون شخص حسب ذات الإحصائيات. وهو ما من شأنه أن يحدث تحولات ثقافية واجتماعية وسلوكية داخل الأفراد. ليس فقط على مستوى العلاقات الاجتماعية ولكن أيضا على مستوى تفاعل الفرد مع محيطه السياسي والاقتصادي. ومادامت أن الحركة الاجتماعية في تعبيرها الكلاسيكي هي فعل جمعي ميداني من خارج مؤسسات الدولة، فإن التطور الحاصل في وسائل التواصل الاجتماعي، حول هذا الفعل من ممارسة احتجاجية ميدانية، إلى فعل افتراضي يولد حركيته من خارج الميدان. فالفاعل الافتراضي صار فاعلا اجتماعيا، مؤطرا بقوانين وآليات وأساليب تتجاوز ما هو تقليدي. حيث أن الاحتجاج الإلكتروني هو احتجاج متفاعل ومتحرك يولد تأثيره باستغلال سرعة انتشار المعلومة وحيزها الواسع، وليست هنالك قدرة على ضبطه أو كبحه، فهو يفور فجأة ويخمد فجأة. وعقله الناظم متشابك، مرة يبدو بمظهر اجتماعي ومرة بمظهر سياسي ومرة بمظهر السخرية والاستعراضية. أما تأثيره فهو تأثير متباين حسب جرأة موضوعه، وقوة رساليته، ومدى الأثر المترتب عنه لدى شريحة واسعة من المجتمع، كما حصل مع حملة "خليه ينثن" ضد باعة السمك بتونس، أو حملة "خليه يصدي" ضد باعة السيارات بالجزائر أو الحملة الأخيرة بالمغرب الموجهة ضد بعض المواد الغذائية والتي جاءت تحت شعار "خليه يريب". وهي الحملات التي تدفعنا إلى التأمل في ظاهرة الاحتجاج الافتراضي وتأثيره على الاجتماعي، عبر التوقف عند ثلاث خصائص أساسية تم تسجيلها بهذا الصدد: أولا تغيير علاقة الدولة بالمجتمع عبر إعادة توزيع القوة، ثانيا: تغييب الوسائط التقليديون (أحزاب نقابات وأعيان..)، ثالثا: بروز اللاحركات الاجتماعية؛ فالفعل الجماعي في هذه الحالة لم يعد بالضرورة وليد المجال العام بمعناه الميداني، ولكن أضحى فعلا جماعيا بدينامية افتراضية. والمفارقة هنا تكمن في قدرة الافتراضي على إنتاج حالة إجماع على قيم ورموز سياسية، فقد استطاعت وسائل التواصل الحديثة أن تحول فعل الناس وإرادتهم إلى قوة فاعلة، ومصدر إلهام للفعل الجماعي بعيدا عن آليات الزعامة والتعبئة التقليدية وبعيدا عن أسلوب المواجهة مع السلطة السياسية، وهو مما يجعلها منفلتة من أدوات الرقابة والسيطرة. الأمر الذي يدفع إلى القول أن تنامي استخدام الأنترنيت والشبكات العنكبوتية، يساهم في ازدياد مستوى الوعي بما يجري داخل المجتمع، وهو ما يسهل من عملية التعبئة وسرعتها بخلاف الوسائل التقليدية. وبالتالي يساهم في إعادة تشكيل الفضاء العام بواسطة ما يسمى بالجماعات الافتراضية، بعيدا عن أعين الرقابة وبعيدا عن الزعامة الكارزمية. فبواسطة الشبكة العنكبوتية الكل يتحول إلى زعيم والكل يتحول إلى قائد موجه للرأي العام، ما تحتاجه هو قوة الرسالة ووضوحها ودرجة تأثيرها على المتتبعين. *باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري