لعل الأقدار الإلهية قد رأفت بالراحل محمد عابد الجابري فرحل عن هذه الدنيا قبل أن يشهد كما شهدنا نحن اليوم أن فكرته العبقرية المعروفة ب"الكتلة التاريخية" قد دار عليها الزمان ومُسخت شر مسخ في هذا الزمن الرديء من التاريخ السياسي للمغرب. فقد كانت هذه الفكرة النابعة من حس وطني وفكري راق وليدة لحظة تاريخية أعقبت عقودا من الصراع وانسداد الأفق السياسي بعد حقبة مريرة مما صار يعرف ب"سنوات الرصاص". فتبينت الحاجة الملحة إلى إطار جامع يرمي إلى توحيد جهود كافة القوى الوطنية الحقيقية التي نبعت من رحم الشعب كسبيل وحيد للخروج من الوضع الذي لخصته عبارة الحسن الثاني آنذاك: السكتة القلبية. وعوض أن تتجه بلادنا والقوى السياسية الفاعلة فيها نحو توفير الشروط اللازمة من أجل تنزيل مقتضيات حلم "الكتلة التاريخية"، توج مسلسل المهازل التي نشهدها اليوم مباشرة بعد الاستفتاء على دستور يوليوز 2011 بإعلان تشكيل "مخلوق" جديد أطلق عليه "التحالف من أجل الديمقراطية". إن إيماننا بالتعددية والديموقراطية يمنعنا من الطعن في حق أي حزب في الوجود والعمل والتحالف مع من أراد، ولكننا في السياق المغربي الحالي وطبيعة المكونات التي يتشكل منها هذا "التحالف" تضعنا أمام صورة مضحكة – مبكية انقلبت فيها "كتلة" الجابري رحمه الله إلى صورة كاريكاتورية تقمص فيها اللاعبون – أو على الأصح العابثون – صورة ممثلي مكونات الشعب التي تحدث عنها الجابري في نظريته. فتقمص البعض دور الليبرالي الممثل" للقوى الاقتصادية الوطنية التي تشارك بنشاطها الصناعي والتجاري والزراعي والسياحي والمالي في خدمة اقتصاد البلاد" والثاني دور اليساري المنحدر من فصائل الحركة الوطنية وثالث لم تدركه عبقرية الجابري ممثلا في "اليسار الأخضر" – ضدا على تشي غيفارا الأحمر- . وحتى تكتمل هذه الكتلة ويعبر أصحابها عن "انفتاحهم " في سبيل "تجميع القوى الحية" بالبلاد وأن تجمّعهم يتجاوز حدود الإيديولوجيا ، فإن المكون الرابع لهذا التحالف ضم إليه مكونا إسلاميا يُدعى "النهضة والفضيلة"، وبهذا لن يزايد عليهم أحد بحكاية إقصاء "حزب ذو المرجعية الإسلامية". لقد كنت متشائما بحجم التردي في واقعنا السياسي منذ التدبير غير النزيه لعملية الاستفتاء على الدستور مرورا باستمرار مظاهر التسلط المعبر عنها خصوصا في محاكمة الصحفيين وتفاقم التجاوزات الحقوقية في حالات المتابعين في ملف ما يعرف ب"السلفية الجهادية" وغير ذلك، إلا أن إدراكي السياسي البسيط لم يقُدني إلى توقع تشكيل هذه "الكتلة" الغريبة وفي هذا الزمن العربي الثائر بالذات . واستحضرت وأنا أعاود مراجعة ما ذكره الراحل عابد الجابري بهذا الشأن أن الرجل كان يتحدث وفي مخيلته الخاصة صورا لتشابك الأيدي بين رموز من قامة عبد الرحمان اليوسفي وعبد الكريم الخطيب وبنسعيد آيت إدر وامحمد بوستة ... فإذا بنا اليوم بعد سنين طويلة، وفي عز الربيع العربي نعاين صورة سريالية، حيث يتصدر الساحة السياسية في البلاد–صدّق يا جابري أولا تصدق- "تحالف" عموده الفقري مشكل من المخزن والإدارة نفسيهما واللذين نظما أمرهما في شكل حزب سياسي اختارا له بين الأسماء "الأصالة والمعاصرة" وبجانبه قدماء الأحزاب الإدارية المروضة على العمل بآلات التحكم عن بعد وذات التجربة المكتسبة والتواجد في القرى والأرياف، أما الباقي فتجمعات حزبية صغيرة جدا قوامها شظايا متشظية من مخلفات معارك الانشقاق في صفوف اليسار. وحتى نبقى في سياق المقارنة العجيبة بين "كتلة" الجابري و"تحالف" السيد فؤاد عالي الهمة، يجب أن نستحضر مقومات وخصوصيات المكونات التي تشكل كلا من التكتلين، إضافة إلى جذورهما السياسية وامتداداتهما الشعبية - لمن كان منها له امتداد-. واعتبارا لكون أصحاب "التحالف من أجل الديموقراطية" يعيشون بيننا اليوم ويدرك المغاربة منطلقاتهم وأجنداتهم السياسية، ومنهم من رفعت صورهم في تظاهرات 20 فبراير، فإنني أكتفي هنا بعرض مقتطف من كلام الراحل عابد الجابري، يبين فيه منطلقات وخصوصيات وأهداف مكونات الكتلة التاريخية التي يتبناها: "إن المطلوب هو قيام كتلة تاريخية تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك، في العمق ومن العمق، جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردد بين صفوف الشعب: المصلحة الموضوعية التي تعبر عنها شعارات الحرية والأصالة والديمقراطية والشورى والعدل وحقوق أهل الحل والعقد، وحقوق المستضعفين وحقوق الأقليات وحقوق الأغلبيات الخ. ذلك لأن الحق المهضوم في الواقع العربي الراهن هو حقوق كل من يقع خارج جماعة المحظوظين المستفيدين من غياب أصحاب الحق عن مراكز القرار والتنفيذ. إنه ... بدون قيام كتلة تاريخية من هذا النوع لا يمكن تدشين مرحلة تاريخية جديدة يضمن لها النمو والاستمرار والاستقرار"[1]. وبعيدا عن حالة الصدمة التي يمكن أن تصيب بعضنا من خلال مقارنته بين ما كان يصبو إليه مفكرون ومناضلون من القرن الماضي وبين ما آل إليه الوضع السياسي في بلادنا اليوم، فإن الحس الموضوعي يفرض علينا أن نستحضر جانبا من التقدم الذي تحقق في بعض المجالات خلال العقد الأخير؛ ومع ذلك فإن بلادنا مبتلاة بآفة النكسات التي تصيبها وتعود بها إلى الوراء عقودا أخرى كشأن من " نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا". وكأن من أقدارنا في المغرب أن نعيش باستمرار حالة الدّور بمفهوم المناطقة، أو ما يعبر عنه تبسيطا بالدائرة المفرغة. فبعدما حل العهد الجديد ولاحت فيه مبادرات معتبرة تتجه نحو التصالح مع الذات وتجاوز بعض من أنقاض العهد السابق من انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان وتحقق في أقل من أربع سنوات (99-2002) من المكاسب الحقوقية ما لا يمكن أن ينكره إلا مكابر؛ جاء من جاء ببليّة السادس عشر من ماي ، ليعود بعقارب ساعتنا المرتجفة إلى الوراء ، وحينها سبق ذلك مؤشرات تراجع على المستوى السياسي عندما تم في 2002 تعيين وزير أول من خارج البرلمان، كما سجلت تجاوزات خطيرة في مجال حقوق الإنسان. وبعدما جاد الله بالثورات العربية التي تعد حدثا تاريخيا كبيرا بمعيار المؤرخين وعلماء الاجتماع، وفعلت حركة 20 فبراير فعلها في جدار الدولة السميك، وجيء بدستور قبلت بالعمل تحت سقفه المتوسط أغلب القوى الوطنية، وظن الناس "أن المخزن قد مات" وأن الإدارة قد تابت وآبت... فإذا بآفة الانتكاس تعود للضرب بقوة من خلال التجاوزات الواضحة في مجال الحقوق والحريات –الصحافية منها بشكل خاص- ومن خلال التدبير التحكمي والمرتبك لملف الإعداد للانتخابات والإصرار على اقتفاء العادات القديمة في وضع قواعد "اللعبة" الانتخابية ابتداء من اللوائح الانتخابية العتيقة المطعون في دقتها وصحتها ومرورا بالقانون التنظيمي لمجلس النواب وانتهاء بإعداد تقطيع انتخابي مهووس بالحسابات الملمترية المحدَّدة أساسا بناء على حظوظ قوى المعارضة الحقيقية في كل دائرة على حدة. لذلك، نعتبر أن خطوة تشكيل هذا الكائن الجديد تحت إسم " التحالف من أجل الديمقراطية" يعد الحلقة الرئيسية في عقد متكامل من حلقات العبث السياسي التي لا يخفى على المواطن الحصيف والسياسي النزيه أن اليد التي حبكته ورتبت حلقاته هي نفسها التي ظلت تعبث بالوضع السياسي بالبلاد منذ سنة 2003. وإذا كانت الأهداف الحقيقية لمشاريع العابثين في مجال السياسة غالبا ما تكمن بالضبط في الأمور التي يبادرون هم إلى نفيها، فإن حرص أغلب رؤساء الأحزاب المشكلة لهذا "التحالف" على نفي القول بأن حلفهم ليس موجها ضد حزب معين، يستبطن استهانة بذكاء المواطن ويعبر عن جرعة زائدة من الاستخفاف بحسه وذاكرته السياسيين. فمعطيات الواقع تؤكد بأن القوى التقليدية المتنفذة في صنع القرار السياسي في البلاد ظلت متوجسة من الصعود المتزايد لقوة حزب العدالة والتنمية. ومن البديهي أن هذا الحزب الذي أحرز المرتبة الأولى في آخر انتخابات تشريعية من حيث عدد الأصوات، وبوأته استطلاعات الرأي المختلفة في وسائلها المرتبة الأولى، ويحظى بقاعدة شعبية حقيقية، أن تُجند في وجهه التحالفات وتتداعى لمواجهته كل الجهات الحريصة على مواقعها وامتيازاتها ومصاحها في المجالين السياسي والاقتصادي. لقد تبين من خلال هذه الخطوة الغريبة التي أقدم عليها المستحكمون بالمشهد السياسي المغربي أن هؤلاء مصممون على الإمعان في ضرب مصداقية العمل السياسي و في دفع المغاربة إلى مزيد من العزوف السياسي، وهم يسخرون لهذا الأمر كافة الأدوات التي يمسكون بمفاتيحها، وفي مقدمتها الإعلام الرسمي الذي مايزال القائمون عليه مصرون على "احترام" كل قواعد الرداءة وتكرار نفس السمفونيات الرسمية المعتمدة منذ عقود. لذلك فقد خصص الإعلام الرسمي تغطية مستفيضة لحدث تشكيل هذا التحالف. وفي هذا السياق، فقد ذهلت عندما ساقني القدر إلى الاستماع ل"محلل" شاب من موظفي القناة الثانية وهو يتحدث عن هذا "الحدث" مؤكدا بأن تشكيل هذا "التحالف" يعد عنصرا دافعا نحو استرجاع ثقة المواطنين بالسياسة ودعم نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة !!! يبدو أن المطب الخطير الذي وقعت فيه القوى النافذة في الحكم اليوم ومن ورائها الحزب الإداري السلطوي هو أنهم اعتقدوا بكل بساطة - وربما بغباء - أن مجرد الحديث عما تم إنجازه بعد إقرار الدستور الجديد وما تضمنه نظريا من مكاسب نسبية للديموقراطية يُعطي الانطباع للمواطن المغربي بأن حلم التغيير الذي يرفعه الشارع العربي اليوم قد تحقق في المغرب، وأن بإمكانهم الآن أن يستكملوا مسيرة الإفساد التي بدؤوها في السنوات الأخيرة ، معتبرين أن المدة الزمنية القصيرة جدا - في نظرهم - التي يستغرقها الانحناء للعاصفة قد مرت "بسلام" وأن بإمكانهم الآن أن يفعلوا ما شاءوا بالبلاد والعباد. لهؤلاء نقول إنكم تجهلون قواعد التاريخ وسنن التغيير، فمن يتوهم من عرب اليوم أنه سيفلت من قدر موجة التغيير العاتية ويكون استثناء بين خلق الله فهو واهم. وفي المقابل يتحتم على البقية الباقية من الشرفاء داخل القوى الوطنية الحقيقية أن يقوموا بواجبهم في مواجهة هذا الانحطاط الجديد الذي تعيشه السياسة في بلادنا، وأن يتغلبوا على نزغات المصالح المادية والحسابات الضيقة والبحث عن صيغ مبتكرة لدعم وتجديد النفَس في حركة 20 فبراير لتستكمل بخطى ثابتة ومطالب واضحة لمسيرتها حتى تحقيق الإصلاح الحقيقي الذي وُجدت من أجله. ومن لم يبذل الوسع من أجل دعم القيم السامية للعمل السياسي من خلال النضال الديموقراطي الجريء وينحاز إلى كتلة المصالح الموضوعية للشعب، فلن يجد أمامه في قابل الأيام غير جرار يجره جراً ، وحينها لن يعدو أن يكون سوى قطعة من مجروراته. *** [1] محمد عابد الجابري، مجلة اليوم السابع الفلسطينية ، باريس- العدد 26 ، أكتوبر 1987