سبوتنيك الروسية تكشف عن شروط المغرب لعودة العلاقات مع إيران        اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد        الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عابد الجابري.. مفكك العقل العربي
نشر في المساء يوم 14 - 05 - 2010

من تلميذ حاصل على شهادة التعليم الابتدائي في فكيك، اضطر لممارسة مهنة الخياطة والتجارة في أحياء درب السلطان، ليعيل نفسه، إلى مترجم بجريدة «العلم»، ومن طالب بشعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس، إلى
أستاذ جامعي ومفكر عربي و مرشح لقيادة أكبر أحزاب المغرب في السبعينيات والثمانينيات (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية).. امتد مسار محمد عابد الجابري. مسار بدأه مناضلا بالمعنى الحقيقي للكلمة.. مناضلا في الحياة، منذ كان ينام رفقة رفاقه التلاميذ، في دكان للخياطة، كالسردين، وفق تعبيره، ليتقدم لامتحان الشهادة الإعدادية والثانوية بصفته طالبا حرا.. ومناضلا في العلم، عندما حصل على الرتبة الأولى على الصعيد الوطني في أول امتحان باكلوريا في مغرب الاستقلال، مع أن ترشحه كان حرا ولم يكن نظاميا، ليصبح علما من أعلام الفكر العربي و المغربي في كل الأزمنة.. ومناضلا في الساحة الإعلامية مع جريدة الاستقلال ضد بقايا الاستعمار، ثم جريدة «المحرر» وجريدة «الاتحاد الاشتراكي» دفاعا عن الدولة الديمقراطية.. ثم مناضلا في المجالات السياسية والثقافية والتربوية. أصبح اسم الرجل مفتاحا لفهم تاريخ المغرب الحديث، فاسمه مفتاح لفهم قضايا كالكتلة التاريخية والحركة الوطنية واليسار المغربي و الصحافة الحزبية والدولة الوطنية وقضية التعليم و الوعي القومي والعقل العربي بكل مكوناته...
كان مغربيا أكثر منه اتحاديا. وكان مفكرا أكثر منه رجل سياسة. وكان كاتبا أكثر منه ممارسا للصحافة. غير أن شهرته في المشرق العربي والعالم فاقت قامته العالية في المغرب، والتي لم تنحن أمام عاصفة ولم تتأثر بأي عارض. لولا أن الطبيعة التي تحداها بعقله وقلمه ضغطت بشراسة المرض لوقف دقات قلبه عن النبض في غفلة من إنجاز مشاريع فكرية، كان يأمل في تسطيرها باليد التي أمسكت عن حمل الكتاب والقلم ومصافحة الناس الطيبين.
إنه الراحل محمد عابد الجابري، الذي عرف أكثر بنقده للعقل العربي، بالرغم من أنه سخر جزءا كبيرا من حياته في نقد الفكر السياسي، من موقعه كفاعل في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقا، قبل أن يضع مسافة بينه وبين الممارسات الحزبية، فقد كان صريحا في كلامه وصادقا في مواقعه، لكنه حافظ على علاقات منفتحة قل أن تأتى لرجل فكر وسياسة من طرازه. ذلك أنه فتح عينيه في فكيك عند تخوم الصحراء الشرقية، ولم يشأ أن يغمضها في غير الدفاع عن الصحراء الأخرى الأقرب إلى عقله وقلبه في جنوب المملكة.
الراحل محمد عابد الجابري، الذي وصف بأنه فيلسوف العقل العربي، عاش مع ابن خلدون وأتعبه ابن رشد، وغاص في التراث العربي والإسلامي وفكك بنياته عبر قراءات عصرية. لكنه خلد إلى النصوص القرآنية ينهل منها ويستنبط الحكمة. وقد كان أول من أسس للدروس الفلسفية في الجامعة المغربية. ويتذكر طلاب الباكالوريا في نهاية ستينيات القرن الماضي كيف أنه بسط الفلسفة وجعلها أقرب إلى استمالة العقول الناشئة، تماما كما رافقت دروسه طلاب الجامعات وهم يشدون الرحال إلى حقول الفكر والتراث وفضاءات التنوير.
على امتداد أزيد من أربعة عقود من العطاء الذي لا يفتر، تعددت اهتمامات المفكر والفيلسوف ورجل التعليم والفاعل السياسي، وفي كل مرة كان يجد نفسه يلوذ إلى الاستغراب إزاء تداخل تجربته بين ما هو سياسي وما هو ثقافي وتربوي وفكري. لكنه يقر في معرض رصده لهذا التداخل ذي الأنماط التعددية: «لم أشعر في أي وقت بثقله (التداخل) على نفسي. كما أمارس الكتابة النظرية والبحث العلمي، أو أقوم بالتدريس أو بالتفكير في قضايا تربوية. فقد كنت أشعر في كثير من الحالات بأن هذه الحقول تتكامل ويعين بعضها بعضا على تمكيني من الفهم والاستيعاب».
عاش أزيد من سبعة عقود وغيبه الموت، وهو لا يزال يستبق طريقه نحو الفهم الذي جعله هدفا لا يرقى إلى إدراكه إلا المتواضعون في عالم المعرفة الذين ينتقلون من محطة إلى أخرى وكأنهم دائما في بداية الطريق.
ابن الصحراء
ظل الجابري يعتبر نفسه ابن الصحراء، وتحديدا المنطقة الشرقية، وروى أكثر من مرة كيف أنه فتح عينيه ورأى الاحتلال الفرنسي في الجزائر يقتطع أراضي مغربية ويضمها إلى مستعمراته السابقة. وحين يعود إلى طفولته المليئة بالأحداث يتذكر كيف كان الاستعمار الفرنسي عمد عام 1949 إلى إنزال العلم المغربي من بنايات في تيندوف «لإحلال العلم الفرنسي محله في مكتب حاكمها الفرنسي»، بل إنه يمضي مؤكدا أنه بعد قيام الثورة الجزائرية عام 1954 استمرت سلطات الاحتلال الفرنسي في اقتطاع أجزاء من التراب المغربي لضمها إلى الجزائر.
لم يكن ذلك يعني بالنسبة له أي شيء، «فقد كان الاتجاه شرقا أو غربا من مسقط رأسه فكيك لا يعني أكثر من التحرك داخل نفس البلد» ثم يضيف بأنه كان لعائلته ولسكان مسقط رأسه عموما ممتلكات موثقة في الشرق «من بشار إلى توات» أهم وأكثر مما كان لديهم في جهة الغرب. كما أن الحركة الوطنية في المنطقة كان لها ارتباط بجمعية علماء الجزائر وحزب الشعب الجزائري أكثر من ارتباطها بزعماء الحركة الوطنية في فاس والرباط.
غير أن صدمة الجابري الشاب ستكون كبيرة بعد مصادقة الحكومة الجزائرية على قرار، أجازته منظمة الوحدة الإفريقية في فبراير 1963 في أديس أبابا، ينص على أن الحدود التي تركها الاستعمار «هي المعترف بها»، مما دفع الحكومة المغربية، آنذاك، إلى تسجيل تحفظها على القرار الذي ستكون له تداعيات بعد ذلك، خصوصا حول قضية الصحراء، وقبلها في ملف رسم الحدود المشتركة بين المغرب والجزائر.
ويتحدث الجابري عن أن خلفيات وتطورات ملف الحدود الشرقية تؤكد أن الحكومة المؤقتة الجزائرية كانت قد صرحت بأن هذه القضية ستعرف حلها الأخوي بعد استقلال الجزائر، إلا أن ذلك التصريح «كان تأجيلا للقضية إلى أجل غير مسمى» وقد كان الأمر كذلك حيث انضاف ملف إغلاق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب.
قربه من الزعيم عبد الرحيم بوعبيد سيجعله من بين قلائل كانوا على اطلاع على التطورات السياسية التي سبقت استرجاع المغرب للأقاليم الصحراوية، وقد كشف يوما أن بوعبيد كان وراء اقتراح ناقشه والملك الراحل الحسن الثاني من أجل طلب استشارة محكمة العدل الدولية في لاهاي في الخلاف القائم بين المغرب وإسبانيا حول السيادة على الساقية الحمراء ووادي الذهب، والذي توج بالإقرار بوجود روابط بيعة وولاء بين سكان الصحراء وسلاطين المغرب.
وكتب محمد عابد الجابري عام 1976، داعيا إلى توسيع نطاق اللامركزية لتشمل الأقاليم الجنوبية، وفسر ذلك بأن «الصحراء كانت دائما وستظل دائما مغربية»، لكن هناك واقعا تاريخيا، جغرافيا واجتماعيا لا يمكن نكرانه، في إشارة إلى تداعيات وقوع تلك الأقاليم تحت السيطرة الاستعمارية عقودا طويلة، ليخلص في ذلك الوقت إلى إقامة نظام لا مركزي ديمقراطي.
ويعترف الجابري بأن هناك أخطاء «ارتكبت في حق الشباب الصحراوي الذي كان يدرس في الجامعات المغربية»، عزاها إلى الحقبة الاستبدادية التي كان فيها أوفقير وزيرا للداخلية، واستمرت بعد ذلك. لكنه يسجل في السياق ذاته أن هناك حقيقة تاريخية لا يمكن الجدال فيها، وهي أن «الشعب المغربي بقيادة الحسن الثاني ومشاركة فعالة من المعارضة في عهده قد استرجع صحراءه استرجاعا نهائيا، ليس فيه مكان لاحتمال الرجوع إلى الوراء».
من مكاتب جريدة «العلم» في ديور الجامع في الرباط، ستكون بداية انطلاق عمله في الصحافة، ولو أنه ظل أكثر ارتباطا ووفاء لمهنة التدريس، التي تدرج فيها من معلم في الأقسام التحضيرية إلى أستاذ في الثانوي، ثم إلى هرم شامخ في التعليم الجامعي. ذلك أنه قبل حدوث الانشقاق الكبير داخل حزب الاستقلال، والذي أدى إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في عام 1959، كان المهدي بن بركة يشرف على التوجيه السياسي لصحافة حزب الاستقلال، وقد وقع اختياره على الجابري ليعمل تحديدا في مجال الترجمة، خصوصا في أوقات فراغه في التدريس.
«مؤامرة 63»
لم تدم التجربة غير فترة قصيرة، حيث التحق بالعمل في جريدة «التحرير»، التي أصبحت ناطقة باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان يديرها في ذلك الوقت الفقيه محمد البصري، بينما تولى الوزير الأول الأسبق عبد الرحمن اليوسفي مهمة رئيس التحرير، فيما كان الجابري سكرتيرا للتحرير. وقد اتسمت تلك الفترة بأقصى درجات الاحتقان السياسي، واعتقل الجابري مثل أعداد كبيرة من الاتحاديين على خلفية ما عرف ب»مؤامرة 63» للإطاحة بالنظام، عندما كان الجنرال محمد أوفقير وزيرا للداخلية، إلا أن الجابري تم إطلاق سراحه بعد قضاء بضعة أشهر في الاعتقال.
وكما أن علاقته مع الزعيم التاريخي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية ترسخت أكثر، من خلال أول لقاء في مكاتب جريدة «العلم»، يوم كان المهدي بن بركة يرأس المجلس الاستشاري الذي كان بمثابة برلمان، في انتظار إجراء أول انتخابات بعد إقرار دستور 1962 الذي عارضه الاتحاد الوطني، فإن الصدفة ستجعل محمد عابد الجابري يعاين خطة تغييب المهدي بن بركة من مكاتب جريدة «التحرير» في الدار البيضاء»م، تلقى قياديون في الاتحاد أنباء عن تعرض المهدي بن بركة للاختطاف يوم 29 أكتوبر 1965، وسارع الجابري إلى إجراء الاتصالات لتلمس الخيوط الرفيعة للقضية، التي شكلت أكبر صدمة للاتحاديين، وظل يتابع الموقف عن كثب إلى جانب رفاق المهدي، فقد اختلطت لدى الجابري أحاسيس الهاجس الصحفي والوطني والسياسي، ثم انبرى، بعد ذلك بسنوات، إلى الكتابة الرصينة في هذا الموضوع، عبر الإحاطة بجوانبه الدقيقة، في تسلسل يضع الوقائع والبلاغات الحزبية وردود الأفعال في سياق مسترسل، إلا أنه كان أكبر مدافع عن بن بركة في قضية التهمة التي وجهت إليه بالضلوع في قضية مقتل المقاوم حجاج، من خلال استعراض المعطيات التي كانت تحيط بالصراعات بين الأجنحة في تنظيم المغاربة وجيش التحرير، وستبقى شهادته مرجعية في هذا النطاق، إذ كان يريد تغليب منطق رصد الوقائع على استخلاص النتائج. وقد كان صريحا في بسط الوقائع الدالة على تأجيج ذلك الصراع، الذي خلص من ورائه إلى أن حجاج كان مطلوبا للاستفسار حول مواقف وتصريحات والتزامات، لولا أن السيف سبق العذل حين انطلقت رصاصة «طائشة» أسكتت حجاج قبل أن يقدم إفاداته.
معارك فكرية
لكن الجابري المولع بالفكر كتب عن مواقف المهدي بن بركة وحلل خطبه في سياق المرحلة التي صدرت فيها، حين أحاط بأنواع الصراعات الإيديولوجية وتداعيات الحرب الباردة والهجمة الإمبريالية على العالم الثالث، وراعى في غضون ذلك حياد الكاتب المفكر الذي يقيس الأشياء بمعيار فكري يبعد عن الولاءات السياسية.
سيخوض الجابري معاركه الفكرية والسياسية في بعدها الوطني من خلال كتاباته في جريدة «التحرير» ثم أسبوعية «الأهداف» التي أسسها أحمد الخراص، وكان الراحل مصطفى القرشاوي رئيس تحريرها. وكذلك من خلال منبر مجلة «أقلام»، ثم أسبوعية «المحرر» التي صدرت بعد إغلاق «التحرير»، إضافة إلى واجهات إعلامية كان له الدور البارز في تفعيل أدائها.
لكن دوره السياسي سيكون لافتا في الإعداد للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد، الذي أسفر عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي في خريف 1974، حيث ساهم في كتابة وصياغة التقرير الإديولوجي للحزب الذي أقر القطيعة مع فكرة التغيير من الخارج.
وانبرى في اتجاه يطبعه بعض الاعتدال والرهان على خيار التغيير من الداخل عبر المشاركة. وكان الجابري واحدا من الداعين إلى هذا التوجه، إلى جانب الراحل عبد الرحيم بوعبيد وقيادات أخرى، وانتخب للمرة الأولى في عضوية المكتب السياسي للحزب. غير أنه رفض الترشح لانتخابات 1977 لاعتبارات وجيهة، كانت تنطلق من الحرص على أداء دوره بعيدا عن تحمل أي مسؤولية نيابية أو أخرى وزارية.
ومن المفارقات أن مفكرا كبيرا آخر هو عبد الله العروي كان ترشح لتلك الانتخابات في دائرة في الدا رلبيضاء. لكن لم يحالفه الحظ في الفوز بها، في ضوء ما كان يطبع الاستشارات الانتخابية من إصرار على تزوير الإرادة.
ومن وقتها استنكف العروي عن خوض غمار أي معركة انتخابية، لكن الرجلين معا نزلا بثقلهما في معارك ارتدت طابعا وطنيا، خصوصا في الدفاع عن قضية الصحراء من منطلق الإقناع الفكري والتاريخي والقانوني الذي لا يرقى إليه أي التباس.
وبالرغم من أن عبد الله العروي لم يكن قياديا في الاتحاد الاشتراكي، فإن الجابري سيجد نفسه أقرب إلى خيار الرجل في الابتعاد عن الأضواء السياسية، حين أصر على تقديم استقالته والانشغال بالمسائل الفكرية.
ومن موقعه هذا، سيكون الجابري حاضرا في أهم الأحداث التي عرفتها البلاد، خصوصا في جانبها المتعلق بمحنة الصحافة في مواجهة القمع والرقابة والحجز المتوالي. ولعله كان أهم شاهد على هذه الفترة، إلى جانب زعامات اتحادية، غير أنه كان يميل إلى البحث العلمي والفكري الذي وهب له حياته ، منذ أن اختار الخوض في إسهامات الإشكاليات الفكرية والثقافية والتراثية.
وسيكون الجابري سباقا إلى بلورة فكرة النقد الذاتي من خلال صحوته في الإقرار بالأخطاء السياسية، داعيا إلى استيعاب الدروس من النكبات السياسية والإخفاقات الإديولوجية. فكان بذلك أول من مهد الطريق أمام حدوث تغيير كبير في أطروحات الاتحاد الاشتراكي وغيره من الفعاليات الحزبية.
الجابري وبوعبيد
سيظل ارتباط الجابري بزعيم الاتحاد الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بوعبيد قويا، وروي أنه أذعن مرات عدة لقراره برفض استقالة الجابري من المكتب السياسي، وقد حدث ذلك في أكتوبر 1978 ثم في أكتوبر 1980، ليعود في أبريل من العام الموالي إلى تقديم استقالته تحت شعار قرار لا رجعة فيه، لينصرف إلى العمل الثقافي والفكري، لكن دون قطع صلاته برفاق الطريق. والغريب أنه في ذلك العام نفسه، وجد نفسه متضامنا مع الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الذي أقصي لاعتبارات ما من الانضمام إلى أكاديمية المملكة المغربية، ورد بطريقة مهذبة على طلب انضمامه، كمفكر مغربي له إشعاع عربي ودولي، إلى الأكاديمية، وغلب منطق الاعتذار على موقف الرفض، فقد كان يرى أن موقعه في المعارضة أهم من الانجذاب إلى أي امتياز فكري أو مادي.
وربما لا يدرك كثيرون أن الرجل، الذي اعتذر بلباقة عن الانخراط في عضوية الأكاديمية المغربية، التي ضمت شخصيات بارزة أمثال رائد الفضاء أرمسترونغ، والعالم الباكستاني البارز إقبال، ووزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر وغيرهم، لم يجد بدا مع توالي الأيام من أن ينشر جزءا من مذكراته في «الشرق الأوسط» مقابل الحصول على تعويض، كما فعل في الكتابة في منابر إعلامية في الشرق العربي. فقد كان زاهدا وبسيطا لا يغريه شيء أكثر من الانزواء إلى عالم الكتب والأبحاث والدراسات التي ندر لها حياته بتفاني المفكر الذي يقيس الأشياء بميزان العقل.
أتعبه جسده ولم يتعبه العقل العربي، الذي كان يشرحه فلسفيا واجتماعيا وثقافيا بآليات معرفية لا تتوقف. ولعله لهذا السبب رفض جوائز وامتيازات عديدة، لأنه كان يرى في عمله الفكري المتواصل أفضل وسام يمكن للمرء أن يضعه على صدره، نياشين براقة في فتوحات المعرفة الإنسانية التي لا تنتهي. ولم يكن اعتذاره عن الترشح أو تسلم جوائز من قادة عرب مثل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أو الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي سوى الترجمة الملموسة لرفض ثقافة السلطة، فقد كان مهووسا بسلطة الثقافة التي تعتمد تنوير العقول وإفادة التراث والتطلع إلى العلم والمستقبل، وظل زاهدا في الانضمام إلى جوقات الموالين لثقافة السلطة.
قلق « التناوب»
غير أن الجابري، الذي كان موضع احترام من طرف الجميع، لم يخف قلقه حيال تجربة التناوب السياسي قبل بدايتها. فقد كان يرى أن المشكل ليس في الجهاز الحكومي الذي ستتولاه أحزاب «الكتلة الديمقراطية» في ضوء المشاورات التي انطلقت بوتيرة أكبر بعد انتخابات 1997، ولكنه يطال مقاعد المعارضة التي يجب أن تضمن قيام توازن سياسي، وقد كتب في هذا السياق، موضحا بأن ما يصفه ب «أحزاب الإدارة» في وضعيتها الراهنة «تقع خارج أي مشروع وطني، بالمعنى الذي يجعلها ضرورية للحكم»..
بيد أنه بتواضع المفكر الرصين، يقر على صعيد آخر بأن أحزاب «الكتلة الديمقراطية» بدورها «لا تستقطب ولا تستوعب جميع الطاقات والكفاءات والاتجاهات»، ثم يستدرك «ومع ذلك فلم يظهر بعد ما يخلفها أو ينافسها في مهمتها التاريخية كصاحبة مشروع وطني».
وتكمن أهمية هذا الطرح الذي ردده الراحل الجابري قبل أكثر من عقد في أنه صاغ للمرة الأولى صورة للتعايش السياسي الممكن، من منطلقات واقعية وعقلانية ومستقبلية. يقول في هذا الصدد، في معرض كلامه عن مهام الأجيال والنخب السياسية: «ثورة الملك والشعب تستقطب ثلاثة أجيال. لقد أعد لها الجيل الأول، فكان بمثابة الأطروحة، وتركها وراءه الجيل الثاني دون أن ينفصل عنها، فكان بمثابة انطباق»، ويضيف «أعتقد أن الوقت قد حان لرسم الاتجاه الذي سيتخذه الجيل الثالث، هل الارتفاع بها إلى مستوى الجدل الإيجابي؟ أم الإبقاء عليها في دوامة ما عبر عنه إدوار توب بالجدل السلبي. إنه سؤال المستقبل».
الجابري.. محنة المثقف داخل الحزب السياسي
كتب المفكر الراحل محمد عابد الجابري في كتابه «المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد»: «ليس هناك ما ينشر الشقاق واليأس في صفوف هذا النوع من «المعارضة الشعبية»أكثر من ضعف زعمائها وتراجعهم أمام اضطهاد الحاكم وتنكيله أو إغراءاته»، لكن الجابري، الذي كان يرى أن التراث العربي ما زال حاضرا بقوة في الوجدان المعاصر، لا بد أنه كان يستحضر تجربة المثقف العربي في المغرب وفي العالم العربي مع السلطة السياسية، بما فيها الحزب الذي يشكل هو أيضا سلطة معينة قد يذوب بداخلها المثقف. لقد عاش الجابري هذا التجاذب بين الثقافي والسياسي داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ظل مرتبطا به بشعرة معاوية أخلاقيا، لا يريد أن يغير الاتجاه لأنه كان يعتبر أن المثقف بلا أخلاق لا يستحق اسمه، ولا يريد أن يبقى لأن السياسي دائما يسعى إلى توظيف المثقف لأهدافه وأن يحوله إلى بوق.
ظل الجابري مرتبطا بحزب الاتحاد لأنه كان ينظر إليه بعقلية الماضي، وهو ابن التراث، على أنه حزب المهدي بن بركة والفقيه محمد البصري وعمر بن جلون. لكن خلافه الأكبر والأول مع الحزب سيظهر عام 1983 عندما انقسم الاتحاد الاشتراكي وخرج منه تيار آخر هو «تيار الرفاق الشهداء»، الذي كان يمثله عبد الرحمان بن عمرو، إذ اعترض الجابري على طريقة تدبير تلك الأزمة من قبل عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي، فجمد علاقته التنظيمية بالحزب منذ تلك الفترة، لكنه أبقى على مسافة معينة به، ولم يعد يحضر اجتماعات الحزب وبدأ يتغيب عن المحطات التنظيمية اللاحقة، كما لم يعد يؤطر أعضاء الحزب مثلما استمر يفعل مثقف آخر هو محمد جسوس مثلا. ولعل آخر حلقة في هذا الارتباط التاريخي بالحزب كانت مع تولي عبد الرحمان اليوسفي قيادة حكومة التناوب عام 1998، قبل عام من وفاة الراحل الحسن الثاني. كان الجابري متحمسا لعودة اليوسفي من مدينة كان الفرنسية للدخول في الحكومة وقيادة المرحلة السياسية في تلك الفترة، لذلك صفق لها على صفحات جريدة الحزب عندما كتب حلقات عن التناوب، معتبرا أنه خطوة سياسية وأنه الممكن المتاح. كانت تلك أول مرة يخرج فيها الجابري السياسي إلى العلن، بعد صمت استمر طيلة عقود، منذ اختار الابتعاد عن الحزب في بداية الثمانينيات بعدما لاحظ أن الاتحاد الاشتراكي بدأ يغير اتجاه السير ورأى أن التقرير الإيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي عام 1975، الذي قام بترجمته إلى اللغة العربية، بدأ يفقد قيمته التوجيهية لمواقف الحزب. منذ ذلك الوقت يبدو أن الجابري المثقف يئس من الجابري السياسي الذي كان بداخله، ورجع إلى التراث لكي يبحث عن المعادل الموضوعي لمحنة المثقف العربي مع سلطة الحزب والدولة، لكي يجدها في ابن حنبل وابن رشد.
يمثل الجابري نموذج السلطة الثقافية داخل الحزب، على الأقل من الناحية الصورية، فكلما ابتعد عن الحزب كان هذا الأخير يخطب وده. وإلى وقت قريب كان الجابري هو الخيط الذي يربط الحزب بالنخبة الثقافية في المغرب، لذلك كان هناك حرص على أن يخرج الجابري على قرائه من خلال صفحات جريدة الحزب في كل شهر رمضان، عندما كانت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» تبيع نسخا تعد بالآلاف، قبل أن يدفع كتابه الجديد إلى المطبعة. كان الجابري يدعو إلى تأسيس كتلة تاريخية تجمع اليسار والإسلاميين معا، معتبرا أنها الحل الممكن في مرحلة الانسداد الذي يعيشه المغرب، لذلك لم يتحمس كثيرا لإنشاء «الكتلة الديمقراطية»التي تأسست في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وكانت تلك الدعوة لا تلقى تجاوبا داخل حزبه الذي ربما كان يرى فيها دعوة حالمة لمثقف يريد أن يغير لا أن يكسب. وعندما انهارت المنظمة الاشتراكية خرج الجابري ليكتب حلقات عن معنى اليمين واليسار اليوم، كأنه يريد أن يقول إن اليسار لم يعد ذا معنى اليوم، الأمر الذي كان يرى فيه البعض انقلابا من المفكر على تركة الحزب الإيديولوجية.
غير أن أكبر ظهور علني على المستوى السياسي للجابري داخل الاتحاد الاشتراكي ارتبط بظروف وفاة الصحفي محمد باهي، الذي كان مقيما في العاصمة الفرنسية، والذي كان ينشر كل أربعاء على صفحات الجريدة صفحة بعنوان «رسالة باريس». ففي يونيو 1997 خرج باهي غاضبا من اجتماع لهيئة تحرير الجريدة، بعدما كان قد كلفه اليوسفي برئاسة تحريرها، وتوجه إلى المطار لكي يعود إلى باريس، لكنه أصيب بجلطة دماغية نقل على إثرها إلى المستشفى حيث أسلم الروح. هذا الحادث دفع الجابري إلى توجيه رسالة شديدة اللهجة إلى المكتب السياسي للحزب، طالبا فيها فتح تحقيق في الأسباب التي كانت وراء موت باهي. وتشكلت اللجنة التي كان من بين أعضائها الراحل محمد الحبيب الفرقاني ومحمد الحبابي وفتح الله ولعلو وعبد الواحد الراضي، وعقدت اللجنة لقاءات مع كل الذين كانوا قريبين من باهي، لكن تقريرها ظل طي الكتمان ولم يفرج عنه، لأسباب ربطها قريبون من الموضوع بالتطاحن الذي كان حاصلا داخل الحزب وقتها، وهو يستعد للدخول إلى الحكومة، مما فجر الحسابات داخل الحزب بسبب«الغنيمة» التي تغلبت على«العقيدة»، بتعبير الجابري نفسه في «العقل السياسي العربي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.