لم يتمكن الملل أو الفشل من التسلل إلى الفكر والعقل الإنساني والنيل منه في سعيه الدؤوب إلى البحث عن مواصفات "المدينة الفاضلة" انطلاقا من عصر فلاسفة اليونان إلى الفلاسفة المسلمين، مرورا بفلاسفة الأندلس ثم عصر الأنوار والنهضة، وصولا إلى العصر الحديث. فمازالت أسوار وجُدران "المدينة الفاضلة" هي حلم كل الإنسانية حيث يجد كل فرد إجابات على كل إنتظاراته في إطار يضمن احترام كينونة الآخر ومعتقداته وعاداته وخصوصياته، داخل مجتمعات متعددة الثقافات والديانات في إطار العيش المشترك؛ وهو بحث شاق بين ثُنائيات الخير والشر، والأبيض والأسود، والحرب والسلم، بين الممكن والمستحيل. وبين هذا وذاك، وفي إطار تراكمي تاريخي فلسفي وعقائدي أيضا، تبنى الفكر الإنساني مجموعة آليات تحمي هذا "البيت الإنساني الكبير" من كل زلزال قد يتخذ شكل حرب ونزاع مسلح، أو عنف وتعصب، أو تطرف سياسي وديني، أو تطهير عرقي وديني قد يهدم في أي لحظة هذا البيت الكبير على رؤوس ساكنيه من بني البشر. لا يمكننا حصر كل الأدبيات والإنتاجات الفكرية والفلسفية والإنسانية التي خدمت مفهوم العيش المشترك بإسهامات فكرية رائدة، ومن الضروري التذكير بأن العديد منهم قدم بالفعل حياته قُربانا لمفهوم العيش المشترك ولمفهوم السلم، إما اغتيالا أو قتلا أو تهجيرا واضطهادا أو نفيا أو سجنا؛ والتاريخ يُحدثنا عن العديد من هذه الشخصيات التي تنتمي لمختلف الديانات والمدارس الفكرية، والتي جعلت من الإنسان غايتها الأولى والأخيرة. يُحدثنا التاريخ أيضا عن محطات تاريخية التقطها العقل الإنساني بفطرته التي تدعو إلى التعايش والاستقرار والسلم، وجعلها لحظات للتأمل واستتباب السلم وللتفاوض والحوار الحضاري، بعيدا عن صخب السياسة والمصالح الاقتصادية، كالألعاب الأولمبية مند زمن اليونان والرومان، التي كانت ملتقيات للحوار والتنافس الشريف بعيدا عن النزاعات والصراعات كيفما كان مصدرها. أما في التاريخ الإسلامي وفي عز الحروب والنزاعات الدينية والعرقية، جعل المسلمون من الأشهر الحرم أوقاتا للهدنة والسلم والحوار أكثر من أي شيء آخر. وهو ما شكل إلى جانب أمثلة أخرى، كالجمعيات والمؤسسات التي لها امتدادات وعلاقات بالكنيسة التي جعلت من العمل الإنساني والخيري وسيلة لتخفيف وطأة الصدامات والمواجهات، طريقا ثالثا وسط العواصف ومقدمات لما يسمى اليوم بالديبلوماسية الدينية. عرفت الديبلوماسية الدينية مراحل انكماش وتطور ساهمت فيها الكثير من العوامل والظروف التاريخية، وكذا اختلاف توصيفات العديد من الأنظمة بين الدولة المؤمنة أو الدولة الملحدة أو الدولة العلمانية. مما جعل الهيئات والمؤسسات المُمثلة للديبلوماسية الدينية تخطو بحذر شديد فوق صفيح ساخن بتراكمات تاريخ صراع مرير بين الكنيسة والدولة مثلا، وأحيانا أخرى بين الكنيسة والمجتمع، لكن هذا لا يعني اختفاء الديبلوماسية الدينية من كل حياة الغربيين؛ فهي متواجدة ومتأصلة في أكثر من جانب وبأكثر من صورة. لقد هدفت الديبلوماسية الدينية في أكثر من لحظة تاريخية ومفصلية إلى إعطاء فرصة أخرى للسلام وهامش كبير للاستقرار، وهي بذلك تتموقع فوق كل الحسابات السياسية، أو تحاول على الأقل أن تكون كذلك. كما هدفت الديبلوماسية الدينية إلى جر الأطراف المتناحرة أو المتحاربة إلى نقطة القواسم المشتركة وإلى المنطقة العازلة بين الممكن والمستحيل لفرض السلم والاستقرار كأمر يفرضه واقع الإنسان، مستعملة في ذلك "نفوذها الأدبي" وسلطتها الروحية والرمزية ومرجعاتها المذهبية والعقائدية، حتى لا يعلو صوت التناحر والرصاص على صوت الحوار والتفاوض. وتكفي إطلالة سريعة على بعض الاتفاقيات التي عقدها المسلمون مع غير المسلمين لفهم ماهية تلك المعاهدات وسر قوتها ورمزيها وريادتها، سواء من حيث طريقة ديباجتها أو مضمونها أو حدسها وتأثرها بمبادئ الشريعة الإسلامية. وهنا لا بد من التذكير بمعاهدة الرسول (ص) مع يهود المدينة ومعاهدته مع نصارى نجران ومع بني ضمرة وبني مذبح وقبائل جهينة، كما يسع الوقت لذكر "المعاهدة العمرية" بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ض) وأهل ايلياء من بيت المقدس. لقد تمت هذه الاتفاقيات بين المسلمين مع غير المسلمين بكل سلاسة وقوة، نظرا للطابع الديني للمجتمعات والدول العربية والإسلامية. وقد لاحظ العديد من العلماء أن "النفحة الدينية" التي اكتسبتها هذه الاتفاقيات كانت شرط وجودها وصحتها، ومنها مثلا أن هذه الاتفاقيات لا يجب أن تمس القانون الإنساني ومبادئ الشريعة الإسلامية، وأن تكون مبنية على تراضي الطرفين، وأخيرا أن تكون هذه الاتفاقيات بينة الأهداف واضحة المعالم وتحديدا لا تترك مجالا للشك أو التأويل. في حين عرفت الديبلوماسية الدينية بالغرب مسارا مختلفا متأثرا بكل التيارات الجديدة داخل الكنيسة الكاثوليكية، ونعني بها البروتستانت والأرثودوكس، كما تأثرت بتطور مفهوم "حيادية" الدولة عن المجال الديني، ونعني به العلمانية، أي فصل الدين عن مفاصل الدولة، وكذا احتفاظ الدولة بالمسافة نفسها بين جميع ديانات ومعتقدات مواطنيها. الشيء الذي جعل وتيرة الديبلوماسية الدينية بالغرب غير المسلم تعيش على نتائج التدافع الفكري و"القانوني" بالمفهوم الديني للكلمة، وما رافق ذلك من جدل حول مفهوم "حرية الكنسية" و "حرية المعتقد"، وهي الأحداث التي جعلت الديبلوماسية الدينية خاصة في الغرب تعمل على تطوير أدائها وتنويع وسائل تدخلها والتأثير في العديد من الأحداث التاريخية من خلال العديد من القنوات، كالجامعات الدينية الكاثوليكية ومعاهد وجامعة لتكوين سفراء الفاتيكان الذي يستقبل بدوره العديد من سفراء العالم... المجال لا يسعنا اليوم لجرد ما قامت به الديبلوماسية الدينية، خاصة الغربية، في تجنب الحروب وتوقيفها للاحتفال بأعياد الميلاد المعروفة بهدنة الميلاد وتبادل التهاني، وهو ما حدث بالفعل خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما اعتمدت على ميراث الشعوب الأوروبية من القيم الروحية والثقافية والتاريخية لتخفيف حدة التوتر أثناء الحرب الباردة، أو ما كان يُعرف آنذاك بصراع الشرق والغرب. وبعد سقوط حائط برلين، كانت الديبلوماسية الدينية كاملة الجاهزية للمساهمة في بناء مجتمعات تحت قيم الحرية والقيم الروحية وبناء علاقات جديدة بين الكنيسة والدولة مع احترام لحرية المعتقد وعلمانية المؤسسات العمومية. ونرى من المفيد جدا أن نُثير في هذا المجال أولا دور "جمعية سانت ايجيديو"، ومقرها بروما الإيطالية، وهي بالمناسبة منظمة لها خلفية وامتداد كاثوليكيين تهدف إلى التوسط في مجال السلام في العديد من الدول المشتعلة من جراء نزاعات عرقية أو حدودية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وغيرها، كما لها أنشطة إنسانية عديدة في مجال الهجرة واللجوء، كالمشاركة في عمليات خاصة بترحيل لاجئين سوريين إلى ايطاليا بتنسيق مع الفاتيكان، ولها طريقة خاصة في تدبير النزاعات والصراعات كديبلوماسية بديلة. أما ثانيا، فسنخصصها لدور الديبلوماسية الدينية في تذويب خلافات دولية دامت أكثر من نصف قرن، وعلى رأسها قضية كوبا، حيث مباشرة بعد زيارة البابا فرانسيس إلى هافانا، عاصمة كوبا، في فبراير 2016، ستتبع ذلك مجموعة إجراءات واتصالات بين باراك أوباما، الرئيس الأمريكي، وراوول كاسترو، الرئيس الكوبي، أعادت الحياة إلى العلاقات الأمريكية الكوبية. الشيء نفسه سنلاحظه بعد مشاركة وفد رسمي من الفاتيكان لأول مرة في التاريخ في اجتماع يخص تنظيم الألعاب الأولمبية الشتوية التي أقيمت بكوريا الجنوبية في فبراير 2018، ستتبع ذلك مشاركة الكوريتين بفريق رياضي موحد في مجريات الألعاب الأولمبية الشتوية، ولقاء زعيمي البلدين كوريا الشمالية والجنوبية والإعلان عن نهاية صراع عمَّر أكثر من نصف قرن. وهنا تظهر الديبلوماسية الدينية وكأنها جاءت لتصلح أخطاء السياسة وتصور السياسيين، وأنها ديبلوماسية بديلة وجسر يعطي فرصة أكثر للحوار والتفاوض من أجل إحلال السلام. أما في المغرب، فقد عرفت الديبلوماسية الدينية قفزة نوعية كبيرة في عهد أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، تتماشى مع تطور دورها في تطوير آليات التفاوض والحوار ونبذ العنف والتعصب العرقي والديني. وهكذا عمل المغرب على إنشاء إطارات من شأنها أن تُساهم في إطار الديبلوماسية الدينية في تقريب وجهات النظر وتوحيد الرؤى، كمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، ورابطة علماء المغرب بالسينغال، وغيرها من امتدادات النموذج المغربي في التدين والوسطية، الذي يهدف إلى توحيد الشعوب ذات القيم الروحية والأخلاقية المشتركة. أما على صعيد العالم الإسلامي، فإن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) تسعى من خلال الديبلوماسية الإسلامية إلى خلق فضاء كبير للحوار ودعم جهود المجتمع الدولي من أجل نشر قيم الحوار والسلام، وهو ما جاء به ميثاقها (تدعيم التفاهم بين الشعوب في الدول الأعضاء وخارجها والمساهمة في إقرار السلم والأمن في العالم والنهوض بهذه المجالات وتطويرها في إطار المرجعية الحضارية للعالم الإسلامي وفي ضوء القيم والمثل الإنسانية الإسلامية). تجدر الإشارة في الختام إلى حدث تاريخي مهم عاش تفاصيله مسجد باريس بفرنسا الذي دشنه السلطان مولاي يوسف، حيث التجأ اليهود أيام حكومة فيشي التابعة للنظام النازي إلى المسجد هربا من بطش النازيين، ورفض القائمون على شؤون المسجد تسليم اليهود إلى حتفهم في مثال رائع للديبلوماسية الدينية.