يتجدد الجدل السياسي حول سحب حكومة عباس الفاسي لقانون المالية 2012 من أمام البرلمان في آخر لحظة، وإذا كان موضوع السحب له أكثر من سبب موضوعي، فإن جل نقاشات الأحزاب السياسية والإعلام الوطني أبى أن يسَيِّسَ الموضوع بما لا يحتمل، حيث أرجعت ذلك إلى وجود خلافات سياسية عميقة في ائتلاف الأغلبية وهو ما نفاه الناطق الرسمي باسم الحكومة. في وقت قد تكون هناك أسباب أكثر من موضوعية يمكنها تفسير سحب القانون؛ ومنها وجود "ضائقة مالية" كان قد أعلن عنها وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الناصري سابقا. إنه على عكس ما توقع البنك الدولي وعدد من المؤسسات الدولية المانحة، فإن مؤشرات دالة تفيد بأن الاقتصاد المغربي سيعاني ركودا مجحفا خلال السنة المقبلة، وهو ما قد يفرغ الإصلاحات السياسية المعلن عنها من أي معنى، في ظل تفاقم ارتفاع كثلة الأجور الناتجة عن تجيش الإدارة العمومية بأفواج المعطلين، تفوق بكثير الحاجة إليهم. وإن كان المغرب لا يزال يعيش على وقع إخفاقه في خفض تكلفة الأجور عبر إعلان مشروع المغادرة الطوعية، فإنه وأمام احتجاجات الربيع العربي اضطر إلى إعادة إغراق الإدارة العمومية بجيوش من الموظفين، دون الحاجة، بل ومن دون أي تخطيط في تدبير توزيعهم. فضلا عن قرار حكومة عباس الفاسي الزيادة في الأجور ب 600 درهم لكل موظفي الدولة والجماعات المحلية، وهي تكلفة مادية هائلة تفوق بكثير إمكانيات الدولة المغربية في الوقت الراهن. إن التكلفة الاقتصادية لديموقراطية الربيع العربي وارتفاع حجم كثلة الأجور وما يتلوها من انعكاسات مؤثرة على الوضع الاقتصادي والمالي، دعا بوزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة خالد الناصري إلى الإعلان عن وجود ضائقة مالية. ولا يختلف اثنان بأن ما قامت به الدولة من زيادات في الأجور وتشغيل للعديد من المعطلين دون الحاجة إليهم، إنما هو ضريبة تجاوز عاصفة الثورات العربية، أو بالأحرى إنقاذ النظام السياسي الحاكم من تداعيات احتقان سياسي واقتصادي واجتماعي. ولم تكن هذه هي أوجه مصاريف الدولة، بل إن الدولة تتحمل جزء مهما من ضريبة توفير الأمن الاجتماعي، حيث يرصد المغرب إمكانيات مادية تفوق قدرة ميزانيته بكثير منها ما يناهز 48 مليار درهم (6 مليارات دولار) من اعتمادات الدعم الحكومي للمواد الأساسية، وهو مستوى غير مسبوق نظرا لارتفاع أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية، خصوصا النفطية منها. وقد تسبب ارتفاع الفاتورة النفطية التي تتحملها الحكومة المغربية إلى تفاقم عجز الميزان التجاري ب20% في الأشهر السبعة الأولى من 2011، حيث بلغ هذا العجز 13.7 مليار دولار حسب بيانات رسمية. إن تحاول الدولة إبداء سخائها الاضطراري، فإن ذلك سيكون على سياسة الأوراش الكبرى ومجموع الاقتصاد المغربي، فيما يتم تكريس النهج الريعي في تدبير سياسات البلاد العامة، دون البحث عن تغييرات جوهرية تهم كامل أوصال البنية المهلهلة، عبر قنوات الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل. والحق أن تدبير تراكم الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية الوطنية بهذه الطريقة لمن شأنه تعزيز التحديات التي قد يصعب استيعابها أمام ارتفاع مطالب العديد من القطاعات الفئوية، كشريحة الأطباء وأساتذة التعليم العالي، وكتاب الضبط، وغيرها. وقد بدت بوادر التأثير السلبي على الاقتصادي المغربي حتمية غداة تأكيد المندوبية السامية للتخطيط أن يكون للزيادة في رواتب موظفي الإدارات العمومية، وفي الحد الأدنى للأجور آثار سلبية على رصيد الميزانية والميزان التجاري ومجموع الاقتصاد المغربي، حيث ستنخفض نسبة النمو الاقتصادي إلى 0.27 في المائة سنة 2011. حيث حاء في توقع تقرير المندوبية السامية أن الأثر التراكمي للإجراء الحكومي سيؤدي إلى زيادة الاستيراد، مما سيفاقم عجز الميزان التجاري ب`0.46% سنة 2011. وأمام هذا الواقع المرتبك، سيعيش الاقتصاد المغربي على وقع انحصار مشاريع ما سمي مغربيا (الأوراش الكبرى)، دون أن تحقق الرفاه المنتظر في انتظار المزيد من الأوراش التي سيكون المغرب مضطرا لتوقيفها أو تعطيلها إلى أجل غير مسمى لنقص في السيولة المالية، ولتراجع الاستمارات الداخلية والخارجية. وما يؤكد هذه النتيجة تنظيم المغرب لحملة تسويق مشاريع اقتصادية في حاجة إلى إنجاز داخل المغرب لدى عدد من الدول الصديقة ولاسيما دول الخليج العربي ولدى فرنسا والجارة إسبانيا...، إلا أن المنتظر من الآلية الترويجية للاستثمار في المغرب قد لا تجد رجع صدى عند الأشقاء العرب والأصدقاء الأجانب نظرا للظروف السياسية والاقتصادية العالمية وتأثر الأسواق بمشكل الديون الأمريكية، وكذا نفس الأمر عند الجيران الإسبانيين لحدة الأزمة الاقتصادية في البلاد الإسبانية. وأمام هذا الوضع ستتراكم الكثير من المشاكل التمويلية للقضايا الوطنية الأساسية بما لا تستوعبه ميزانية المملكة، في وقت تلتهب فيه أسعار المحروقات والمواد الغذائية في الأسواق العالمية، فضلا عن انشغال الدولة بالإصلاحات السياسية دون الحاجيات الاقتصادية، إنه وضع لم يعد بالقدر اللازمة توفيره عبر المديونية، حيث سجل المغرب خلال حكومة عباس الفاسي الكثير من القروض التي تسلمها المغرب وكذا الهبات الأوروبية لكن من دون تأثيرات فعلية على أرض الواقع. إننا أمام مؤشرات تشير بأن الاقتصاد المغربي مرشح لمزيد من التدهور بفعل ارتفاع تكلفة التدبير اليومي في الصحراء بسبب ارتفاع المطالب الاجتماعية هناك، في وقت تصر فيه الجزائر على فرض ما تعتقد أنه حصار اقتصادي على المغرب بالإبقاء على الحدود مغلقة معه، حتى لا تمكنه من متنفس اقتصادي جديد، والعمل على إطالة أمد الصراع في الصحراء نحو مزيد من إنهاك المغرب اقتصاديا وحقوقيا إلى أن يقدم تنازلات مؤلمة في الصحراء. إن عملية المسح التي قام بها المجلس الأعلى للحسابات والتي شملت 125 مؤسسة عمومية توزعت على القطاعات البنكية والجماعات المحلية والمؤسسات المالية ومؤسسات التشغيل والقطاعات الإنشائية، ومنها: (منها بنك القرض العقاري والسياحي والقناة الثانية “دوزيم” والوكالة الوطنية للتشغيل والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركة استغلال الموانئ في المغرب ووكالة تقنين الاتصالات ووزارة الصحة والشركة الوطنية للتهيئة الجماعية وصندوق تحديث القطاعات العامة ومراكز الاستثمار وشركات التدبير المفوض في قطاع النظافة وشركات النقل...) كشفت عن حجم فساد تدبير المؤسسات العمومية، التي تحولت من مؤسسات داعمة للإنتاجية الوطنية كرهان لمخطط الإصلاح الإداري والمالي إلى مؤسسات تزيد من إنهاك ميزانية الدولة، والتي يبدو أنه لم يعد بمقدورها الاستجابة لكثير من المطالب والاحتياجات التي تفجرت غداة انطلاق الربيع العربي. وتنضاف نتائج تحقيق المجلس الأعلى للحسابات إلى سلسلة من تقاريره الماضية، إلا أنه لا يترتب عنها أي شيء يذكر، حتى بات يعتبره عدد من الفاعلين السياسيين المتهمين من قبله بالفساد في التدبير، أنه وثيقة للاستئناس، مما فقد جزء من هيبة الدولة وعزز الإفلات من العقاب في مقابل أصوات ظلت تطالب بحماية المال العام لكن دون أن تجد مطالبها آذانا صاغية. وتزداد متاعب الاقتصاد المغرب بعد تراجع حجم عائدات تحويلات مغاربة الخارجية، التي تمكن الدولة من استيعاب الكثير من المطالب على مستوى الاستثمار والأمن الاجتماعي، حيث أشارت دراسة إلى أن 70 % من هذه التحويلات موجهة لاستهلاك الأسر، أي أنها وسيلة بالغة الأهمية لمكافحة الفقر وأحد أفضل القنوات من أجل تمويل الميزان التجاري للمغرب. كل ذلك يكشف عن عمق الأزمة الاجتماعية التي بدت ملامح تبرز في خروج جحافل المعطلين للاعتصام والتعبير عن مطالب توظيفهم بأساليب ليست عادية، ومنها اقتحام المؤسسات العمومية وإغلاق الطرق واعتراض القطارات وإحراق الذات... وهو ما يكشف حجم الاحتقان الاجتماعي، فيه دلالة على حجم وحدة المطالب التي ينتظر من الدولة الاستجابة لها. وعلى الرغم من كل ذلك فإنه بإمكان الاقتصاد المغربي أن يتكيف على المستوى القريب مع كل التحديات التي تمت الإشارة إليها بفضل الدعم الذي سيحصل عنه من الدول الثمانية الكبرى الذي خصصه لدول الربيع العربية (مصر تونس المغرب والأردن)، وكذا بفعل المساعدات التي سيخصصها مجلس التعاون الخليجي للمغرب والأردن، إلا أن ذلك قد لا يكفي أمام تراكم الخصاص إلى الكثير من الموارد المالية لضمان الاستقرار الاقتصادي. وتذهب كل المؤشرات إلى أن المغرب سيكون مضطرا لقبول دعوة الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، وإن لم يبد إلى حدود الآن أي خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، حتى خطاب عرش 2011 خلا من أي إشارة إلى هذا الموضوع، وهو ما يعني أن المفاوضات لم تفض بعد لنتائج مرضية يتحمل المغرب من أجلها اختياره الاستراتيجي أي العمل على بناء الاتحاد المغاربي.