يطنب الحقوقيون كثيرا عندما يتحدثون عن حفظ حق الأجيال القادمة في ثروات البلاد. ولكن أية مصداقية تبقى لكل هذا "التكلف الحقوقي" حين لا تنتصر بعض الحركات الحقوقية لحق الجنين في الحياة. وبل حين تنضم إلى الفريق الذي لا يرى مانعا في تحرير الإجهاض. إنها التناقضات التي تنسف هذا الخطاب المروج " لفضيلة الإجهاض" من أساسه. وتحيله عبثيا دون جدوى ودون خلفية منطقية مؤسسة لمضامينه . الجلي إذن أن نمط الحياة الغربي هو من يصوغ لنا نحن الدول النامية حقوق الانسان بمفهومها الكوني. فكل ما ينتهي له تطور الحياة هناك يصبح حقا يجب أن توضع له ترسانته الحقوقية هنا أيضا. حتى أننا نرى أن حقوق الانسان قد حادت حتى عن العقل والمنطق وعن مفهوم الحداثة نفسها . إننا في المغرب وبقية دول العالم الإسلامي قد أصبحنا عاجزين عن الإسهام في النقاش المبلور لحقوق الإنسان كما سيتعارف عليها دوليا بعد ذلك. أصبحنا نتلقى و لا نلقن . نستورد المفاهيم ولا نصدرها. لأننا انهزمنا، وما عدنا ندلي بدلونا في الحضارة العالمية. بل وأدخلوا في روعنا أن هزيمتنا نابعة من "الجينوم" الحضاري لشعوبنا ولثقافتنا الدينية الإسلامية "المتزمتة". لذلك يقترحون لنا أن نستبدل "جيناتنا" الحضارية بأخرى غريبة عنا. إننا لن نتقدم بالتأكيد إلا من خلال انسجام تام مع سياقنا الحضاري. لا خيار لدينا غير ذلك لكي نتقدم. فهل رأيتم يوما ما شخصا ما نجح في أن يتخلص من جيناته؟ إننا نختلف عن الغرب في الكثير من الأسس و المقومات الحضارية . والموقف من الإجهاض هو إحدى هذه النقاط الخلافية الكبرى التي تميزنا وتحفظ هويتنا . فهلا ترون إذن أي موضوع خطير هو هذا الإجهاض العمدي؟. إنه ليس مجموعة فصول قانونية ينبغي ضخها في التشريع المغربي وكفى. بل هو يجرنا جرا إلى تذكر ينابيعنا الحضارية الأولى من جديد، إلى التساؤل عن من نحن؟ ومن نكون؟ عن هويتنا الحقيقية الخالية من الأصباغ و الرتوش المنفلتة من المناولات. إنه يجبرنا أن نتساءل عن دورنا وعن مفهومنا للحياة. وإذا كان من أحد يرتاب فيما نقول ، فلنحتكم إلى المبدإ الديمقراطي. أليس هو صلب النظرية العلمانية؟. ولنطلب إذن رأي الشعب في هذه القضية. إني أتساءل لماذا يركز المناصرون للإجهاض على المؤسسة التشريعية لتحريره وتقنينه. بينما أن قانونا كهذا يشكل انقلابا عميقا في ذهنية وثقافة المواطنين، ينبغي أن يسبر رأيهم وأن يستفتوا فيه. أليس الاستفتاء هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة؟ أليس الاستفتاء ملزما للجميع ؟ فلماذا لا يطالبون به، ويختصرون الطريق علينا، خصوصا وهم يعتقدون اعتقادا راسخا بأن تحرير الإجهاض مطلب شعبي ملح؟. المؤكد أنهم لن يركبوا أبدا هذه المغامرة. فهم يعرفون رأي الشعب مسبقا في مشاريعهم. فهو لن يتنكر ابدا لقيمه ومبادئه ومثله العليا حتى ولو ظهر لهم أو شبه لهم أنه قد حاد عنها في سلوكه. إنها أقلية تريد أن تملي خيارها على الأغلبية . أقلية تمثل دور الأغلبية. وتريد هذا القانون اليوم أو غدا في غفلة من الكل. فأحيانا تستطيع الأقليات بشدة صراخها أن تفرض رأيها على الجميع. فبإلحاحها تستغل اطمئنان الأغلبية وتقاعسها . إنها إحدى ثغرات الديمقراطية التي تجعل الأغلبية تعاني أحيانا من تسلط الأقليات : لكن المناصرين للإجهاض لا يسلكون مسلكا واحدا . حيث يعبدون ويأمنون طريقهم في اتجاه "قانونهم المأمول" بخطب ود بعض الفقهاء وعلماء الدين. ويستصدورون منهم فتاوى تذهب في اتجاه تبرير مقاصدهم كأن يستدعوهم لمؤتمراتهم لأجل استمزاج الرأي. ومع ذلك فإننا نعتقد أن الفتاوى لا تطلب هكذا، على مرأى ومسمع من كل الفاعلين في ندوات تنظمها هذه الجمعيات التي تدعو لتحرير الإجهاض ، حيث قد لا ينجو الفقيه من الضغط و"التدليس العلمي". ونظن كذلك أنها لا تطلب ذلك إلا من طينة معينة من الفقهاء اعتادوا الإثارة وأدمنوا البحث عن النجومية. والذين قد يسايرون بعض الأهواء فقط لكي لا يتهموا بالتحجر و المحافظة، وليبدوا فقهاء عصريين ومتحررين لا يقفون ضد "العلم". ولكن ما هكذا تورد الإبل. إذ يجب أن يعطي العلماء رأيهم في حياد واستقلال تام بعيدا عن صخب المؤتمرات و الندوات العلمية المتسرعة أحيانا. ويجب أن ينبثق هذا الاجتهاد عن المؤسسات المخول لها ذلك دون أن ننسى أننا نتقاطع الاجتهاد في مثل هذه المسألة مع كل دول العالم الإسلامي ، وأننا يجب أن لا " نجتهد" بمعزل عن ما يجري من نقاش وبحث مستفيض بالمجمعات الفقهية ودور الإفتاء الإسلامية الأخرى. فالقضية واحدة. و الحلول الفقهية ينبغي أن تكون موحدة وشاملة لكل العالم الإسلامي . فهذا فقط ما ينزع الشك والريبة من قلب المغربي المسلم. خصوصا مع انتشار ظاهرة الإفتاء على الهواء في القنوات العربية . إننا نتساءل لماذا لم تنفتح هذه الجمعيات بشكل رسمي على الهيئات المختصة في الإفتاء؟. ولماذا تستحضر دائما تجربة تونس؟. وكلنا يعرف تونس بورقيبة هذه وما آلت إليه اليوم . لكأنما يريدون لنا تونس مثالا يغنينا عن باقي العالم العربي الإسلامي. بينما الأجدى أن يتجه النقاش حول المسألة إلى تحصيل إجماع أو شبه إجماع للأمة الإسلامية كلها، لا أن تجتهد دولة واحدة كتونس نيابة عن الجميع. فبهذا فقط تطمئن القلوب. يحرص معسكر المدافعين عن "حق" تحرير الإجهاض بذكاء على ضم أطباء نساء وتوليد، إلى صفوفهم ليمنحوا الانطباع بأن هذه الفئة من الاطباء تناصرهم، مما يضفي في تقديرهم شرعية علمية على هذا المطلب بحكم التقدير الذي يحظى به الأطباء عادة نظرا لتجربتهم وتمرسهم ومعرفتهم بالدواخل الطبية للقضية. وبحكم معايشتهم "للمآسي" الناتجة عن غياب تشريع يبيح الإجهاض "ولو في بعض الحالات الخاصة. " إنهم يريدونهم كشهود ليستصدروا بهم القانون. ولكن خطافا واحدا أو آثنين لا يصنعان الربيع، فالأغلبية الساحقة من أطباء النساء و التوليد بما فيهم أولئك الذين يمارسونه لا يتبنون موقفا مدافعا عن الإجهاض، حتى عندما يكون النقاش يدور في البيت الداخلي ويكون محصورا في فئتهم ، بل إن من انخرط منهم في الاتجاه الآخر لا يجرؤ على أن يتحدث أمام زملائه عن محاسن " الإجهاض" إلا نادرا ، أو إلاعندما يكون في جمع لا يضم الأطباء. لأن كل الأطباء يستطيعون أن يفحموه بالآثار والمضاعفات الخطيرة للإجهاض صحيا ونفسيا ومجتمعيا. إن هؤلاء الأطباء يلجئون "للتخصص" في الإجهاض فقط لأنهم لم يستطيعوا تخصصا آخر. أو لأنهم يبحثون عن الربح السريع. وأحيانا لأنهم ينشدون "التفرد" والتميز متمثلين مقولة "خالف تعرف". وأظنني لا بأبوح بسر إن قلت أن أغلب الأطباء الذين ينجزون عمليات إجهاض في بداية مسارهم ينتهون كلهم مع مرور الوقت إلى الامتناع عن إجرائها، بسبب وخز الضمير و العذاب النفسي الذي تولده هذه الممارسة لديهم ووقوفهم عن كثب على همجيتها ووحشيتها ولا إنسانيتها وعلى مضاعفاتها الخطيرة ، فلماذا ننساق وراء ميول أطباء نعرف أنهم سيعزفون عنها غدا؟ لماذا لا نتأسى ولا نتبع الطبيب الذي سيكونه هذا الطبيب مستقبلا؟. ثم إن هؤلاء الأطباء لا يمكنهم أن يكونوا طرفا في القضية ثم يتصدون للفتوى فيها. فهم لا يدافعون عن هذا الإجهاض وتحريره أو تقنينه إلا لكي يتسرب البلل إلى الكل: أطباء، ومواطنين ومجتمعا، لكي يرتاحوا هم من الكابوس الذي يجثم فوق صدروهم. إن الإجهاض بسبب تشوه لدى الجنين يقتل حاسة البحث العلمي في الطبيب . فلو فكر الأطباء بهذه الطريقة لما تقدمنا أبدا في المجال الطبي: أن تنحي المشكلة بدلا من حلها أو بدلا من علاجها. فعجوز في الغابرين لم تدرس يوما الطب تستطيع أن تقترح حلا كهذا. أنهم يشبهون في هذا تلميذا صغيرا وضعوا له أسئلة صعبة للامتحان وعوض أن يعمل ذهنه للإجابة عنها، قام بتمزيق ورقة الأسئلة أصلا، ثم ادعى أنه قد نجح في الامتحان بما أن ورقة الأسئلة قد أعدمت ولم تعد موجودة. ليست كل التشوهات قاتلة . بل إن أغلبها قابل للعلاج . وبعضها يمكن علاجه داخل الرحم . وأمراض الجنين التي لا تزال مستعصية قد لا تكون كذلك غدا. فالعلم يتطور بسرعة مذهلة . ولذلك فإن الإجهاض العمدي بسبب بعض التشوهات يهدد مستقبل البحث العلمي لأمراض النساء وتطور طب الجنين . إن أية إيديولوجيا مهما بلغت صلافتها لا تستطيع كذلك أن تبرر عقليا وعلميا الإجهاض بدعوى "حرية المرأة في التصرف بجسدها". فهذه مغالطة أخرى . فالجنين وإن كان مرتبطا بأمه من ناحية النمو و التغذية، فإنه يعيش في شبه انفصال تام عنها. هو ضيف لديها فقط. بدليل أن فصيلته الدموية ليست دائما من نفس فصيلتها الدموية. فهل يختلف الجزء عن الكل؟. وبدليل أنه بإمكانها أيضا تأجير رحمها (علميا) لأطفال ليسوا من صلبها. إن الحمل هو عقد حياة بين الأم وجنينها، تلتزم فيه بإيوائه وتغذيته وولادته (وسنعود لهذا لاحقا). وأخيرا فإن بعض الأطباء الذين يناصرون الإجهاض قد نجدهم أيضا من مناصري الانجاب المدعوم طبيا. فمن جهة هم يسعون إلى الحياة سعيا، ولو بتكلف تقنيات معقدة وباهظة الثمن، ومن جهة أخرى هم يئدون الحياة وأدا حين لا يقاومون رغبة الإجهاض لدى الأم والأسر، إنهم يبدون كمن يسير في اتجاهين متنافرين أو كمن يجتهد في مجالين متناقضين. ولذلك يصح لنا ان نقول أن اجتهاد هؤلاء الأطباء لا يكون حيث تكون الأخلاق الطبية بل يجتهدون حيث يكون الربح . فلهم لكل حادث حديث ولهم لكل مقام مقال. [email protected]