إن ما يتغافل عنه عن عمد المنظرون لتحرير الإجهاض (ولو في حالات معينة) هو أن الوسط الطبي نفسه أخد يعترف الآن بالآثار المدمرة للإجهاض. ففي بحث أنجز بجامعة "مينوستا" حول عينة من النساء خضعن للإجهاض بين الأسبوع 8 و الأسبوع 12 للحمل (أي خلال الفصل الأول للحمل) ظهرت نتائج مذهلة وصادمة . حيث أن85% من النساء صرحن بأنهن قد استغربن ردة فعلهن النفسية عقب الإجهاض ولم يتوقعنها، في حين أن 65% منهن فكرن في الانتحار و 31% حاولنه فعلا و 81% اعترفن بتسرعهن في اتخاذ قرار الإجهاض إما بسبب ظروف قاهرة أو لعدم ممانعة الوسط الطبي وليونته وعدم تقديمه للمعلومات الكافية المشجعة لهن على الاحتفاظ بالجنين. أما 82% من المستجوبات فقد أقررن أنهن دفعن لذلك دفعا ولم تكن لهن فعلا حرية اتخاذ القرار تماما ، بينما قالت 81% منهن بأن خيال الطفل المجهض لا يفارقهن. ورأت 96% أيضا أن الإجهاض هو إعدام للحياة. بينما اعترفت 92% بأنهن يعانين الاكتئاب ويشعرن بتحقير الذات و أخيرا بينت الدراسة أن 46% من هؤلاء الأزواج قد انفصلوا بعد الإجهاض . إن ما يحاول إخفاءه المناصرون للإجهاض، هو أن هناك تغيرا جذريا في النظرة إليه في أوساط الأطباء والمعالجين النفسانيين. وأن تحريره في عدد من الدول لا يعني غلبة أو قناعة علمية بل غلبة و قناعة إيديلوجية وقيمية لتيار معين في المجتمع، يريد أن يوهمنا "أنه ينتصر لحقوق المرأة" على حساب حقوق الطفل الذي سيولد " وللحق في الاختيار والتصرف في الجسد" على الحق في "فرض القناعات و المعتقدات على الآخر"فالعلم الحديث يكشف من جانبه عن متلازمة جديدة اصطلح على تسميتها بمتلازمة ما بعد الإجهاض « SYNDROME POST AVORTEMENT ». فالإجهاض يعاش دائما على نحو آخر غير الذي يصوره أولئك المدافعون عن تقنينه. إنه ينبعث من رماده على شكل ذكريات مؤلمة مستبدة بعقل وشعور الإنسان أو على شكل كوابيس متكررة . كما يخلق انطباعا مستمرا لدى المرأة و زوجها بأن هذا الحادث سيتناسل وسيطفو مرة أخرى على سطح حياتهما. هذا بالإضافة إلى أن استحضاره يكون فوريا كلما تعرض المرء لأحداث شبيهة، مما يقلص التجاوب و التفاعل كثيرا مع المحيط الذي يعيش فيه. لكننا لا نريد أن نسترسل كثيرا في استنطاق هذه الأرقام دون أن يحيلنا ذلك إلى التساؤل عن المفهوم الذي يتقمصه القانون في عقول المناصرين للإجهاض . إنه يعني لديهم فقط الاستجابة و التطبيع مع الظواهر التي تتفشى لدى الناس من خلال تقنينها. أي الانهزام أمامها ببساطة . في حين أن رسالته كما نعتقدها نحن تتجلى في إضفاء الطابع الإلزامي على الحقوق التي تستمد مشروعيتها في الأصل من ماهيتيها ومن أخلاقيتها. أليس القانون كما ينبغي له أن يكون وسيلتنا الجبرية لإصلاح أحوال الناس ومحاربة كل الآفات و الامراض التي تنخر أوصال المجتمع؟. إذ ليس من طبع القانون الاستسلام أمام الأهواء و النزوات و الصراعات الجديدة " للحقوق" التي تتفتق عنها مخيلات من احتجزوا "الحداثة" وصاروا يحملونها عكس ما تبشر به من اتباع لجادة العقل والعلم والالتزام الذي ينبغي أن يكون رصينا ومسؤولا بالحرية و الكرامة البشرية. إن المشروعية لا تعني دائما الشرعية. لذلك فإن إدراج الإجهاض ضمن المنظومة القانونية لا يغير شيئا في طبيعته. لأن طبيعة الفعل منفصلة تماما عن قانونيته . لذلك فإني استغرب لماذا لم ينتبه هؤلاء المؤيدون للإجهاض إلى أن كل النساء اللائي يقدمن شهادتهن حول هذه الآفة يرفضن تعرية وجوههن. ليس خوفا من المجتمع أو وقوعا في أسر العاجات و التقاليد " "وثقل " الحياة الدينية للمجتمع، كما يريدون إيهامنا، بل لأنهن بالخصوص يعرفن في قرارة أنفسهن لا أخلاقية ما خضعن له ويستوعبن جيدا أن تقنين الإجهاض لن يجعله مرغوبا. ولن يمنحهن الشجاعة أبدا لكي يمارسنه مستقبلا في واضحة النهار . واهم من يعتقد أن تقنين الإجهاض العمدي سيجعل النساء تقبلن عليه مرفوعات الرأس. فهذا لم يحدث بشكل سافر حتى في الدول الأكثر تحررا. فبالأحرى في الدول التي لها احترام لقيم العائلة و المجتمع. فسواء قنن الإجهاض العمدي أو لم يقنن لن تجاهر النساء بخضوعهن له ولن تتخلصن أبدا من عقدة الذنب المرافقة له. فمشاعر المرأة تتشكل وفقا لأخلاقية الخدمة الطبية لا وفقا لقانونيتها. ولذلك فإن محاولة الجهات المناصرة للإجهاض أن تفهم الناس أنها تناضل ضد الإجهاض السري هو محض مغالطة فقط. لأنها تعرف مسبقا أن من طبيعة الناس أن ينظروا بعين الريبة لكل ما هو سري. ويقدروا في المقابل ما يجري أمام الملأ في واضحة النهار . كأنما لو مورس الإجهاض في هاجرة النهار كان سيحظى بتقدير الناس . أبدا. فنحن نجزم بخلاف ذلك . إنهم ينسون أن كل إجهاض عمدي هو دائما إجهاض سري. هو سر يكتمه الطبيب والمرأة الحامل وكل الأطراف المعنية بينهم. فهل تشهر المرأة أنها قد أجهضت عمدا ويعودها الناس والأقارب كما هو الحال حين تخضع لعملية حصى المرارة أو تستأصل زائدة دودية. إنها لا تفعل ذلك لو خضعت لهذا الإجهاض على يد أشهر الأطباء وفي أرقى المصحات. فالإجهاض حتى إذا ما تم تقنينه فسيظل يمارس في سرية تامة . لأن إيمان الطبيب بشرعية وبأخلاقية ما ينجز هو ما يجعله يرفع عنه طابع السرية. إنهم والحالة هذه يريدون إيهامنا خطأ بأن الإجهاض إذا كان يمارس علنا ستنتفي منه تلك المضاعفات التي أفضنا في الحديث عنها وتفصيلها. إن الإجهاض العمدي كان وسيظل سريا ، فالفرق الوحيد سيتجلى فقط في الوسط الذي سينجز فيه هذا الإجهاض . هل هو وسط طبي آمن تتوفر فيه التجهيزات " والأطر" المدربة. أم على العكس من ذلك وسط غير آمن لا تتوفر فيه شروط السلامة ولا المهارات اللازمة أو كليهما. هل يعتقد المناصرون للإجهاض لحظة ما إنه إذا تم تحريره سيقوم أب في الغد الذي يلي هذا التحرير باصطحاب ابنته لأجل إجراء إجهاض؟. وهل يظنون أن فتاة تورطت في علاقة غير شرعية نجم عنها حمل غير مرغوب فيه ستجرؤ على أن تطلب من أخيها أو أحد أفراد عائلتها مرافقتها لنفس الغرض؟ إن حصول هذا يتطلب شعبا آخر. بل إنه يفرض قناعات أخرى لن تجد تربتها بيننا أبدا، بل ويستدعي انسلاخا حضاريا كاملا. كل ما قد يقع هو أنه سيصبح بإمكان أية فتاة أن تقصد عيادة الطبيب قصد الإجهاض دون علم من عائلتها. أي أننا سنؤسس لمجتمع جديد لايمت بصلة لهذا المجتمع الذي نود الآن تغييره. فهلا كنا نستفتيه إذن إن كان راغبا في أن يتغير على هذه الشاكلة وإلى هذا المحتوى أم هو غير راغب؟ يتقمص المناصرون للإجهاض العمدي دور "المدافعين" عن "الضحايا". ودور الرواد الذين يكسرون طوق الصمت والذين يطرقون أكثر المواضيع حساسية. وهم لأجل ذلك يريدون ممارسة ضغط معنوي من خلال أسلوب الإثارة، ومن خلال عرض نماذج مأساوية لنساء لم يتح لهن الإجهاض. فيتحدثون لنا مثلا عن حالة واحدة لامرأة تخلت عن 3 توائم ليستدروا الدموع. ويتطرقون للظروف الاجتماعية لهؤلاء النساء اللائي وجدن أنفسهن من غير معيل أو اللائي فكرن في الانتحار... الخ. وينتهون إلى إفهامنا أن الحل كان يكمن في الإباحة القانونية للإجهاض. أي تعميم الآفة على الكل. أليست هذه سطحية في التفكير ما بعدها سطحية؟. فعوض أن يغوصوا في عمق الإشكالية ويبحثوا عن علاج الأسباب التي أدت إلى كل هاته الحالات من الحمول غير المرغوب فيها، يبحثون عن الحل السهل الذي يمكن أن يهتدي إليه حتى المخرفون، إنهم لا يقومون إلا بترك الحبل على الغارب دون أن يبحثوا عن الحلول الناجعة للمشاكل الحقيقية التي تقود نحو هذه الأوضاع. إنهم يركزون على إصلاح "النتائج" لا إصلاح الأسباب. لقد كان حريا بهم أن يسائلوا النظام التعليمي والتربوي و الاجتماعي و القيمي والأخلاقي للمجتمع . أن يدقوا جرس الإنذار بأن هناك خللا في منظوماتنا يتعين معالجته. وكنا نحن من جانبنا سنحمد لهم أنهم كانوا وراء هذا "التحذير" الحضاري . وكان عليهم أن يبحثوا أيضا إن كان المسجد والمدرسة و التلفزة و الأسرة و الشارع يلعبون إلى الآن دورهم الكامل في تربية وإعداد النشء الصالح للأمة. كان عليهم أن يفحصوا كذلك إن كان النظام الاقتصادي يحقق العدالة الاجتماعية ويدفع عن النساء غائلة الإملاق والتشرد و الضياع أم لا. فتلك هي العوامل الضرورية التي تمهد من وراء الستار لكل إشكاليات الحمل غير المرغوب فيه. إن مايستفزني فعلا في خطابات هؤلاء الذين يدعون لتقنين الإجهاض، مهما قرنوا دعوتهم تلك ببعض التحفظات. هو كيلهم بمكيالين في القضايا التي يتجندون لها. ففي " قضية أخرى" هي قضية إلغاء عقوبة الإعدام نهائيا من التشريع الجنائي الوطني نجدهم أيضا يصطفون بجانب الدعاة لإلغاء هذه العقوبة. بل قد يشكلون النواة الصلبة لهؤلاء الدعاة. أليس هناك مدعاة للعجب أكثر من هذا الأمر. أن يطالب المرء بالحياة لمجرمين عتاة حتى ولو كان الحكم بإعدامهم محاطا يكل ضمانات المحاكمة العادلة، وان يطالب بالموت لجنين بريء مسكين يقبع في رحم أمه؟ من الأولى بالحماية: أهو هذا الجنين الذي لا حول له ولا قوة؟ . أم ذاك المجرم الذي ارتكب أفظع الجرائم ؟. وحتى عندما تمت دسترة الحق في الحياة، فإن أغلب تحليلاتهم تذهب إلى كون هذه الدسترة تعني إيذانا بقرب إلغاء عقوبة الإعدام . لكنهم لا يرون فيها منعا نهائيا لأية محاولة لتحرير الإجهاض وحسما ما بعده حسم لكل نقاش حول هذا الموضوع ، فإذا كان هناك اختلاف حول الطبيعة البشرية للجنين في مراحله الأولى. فإن لا أحد ينكر أو يجادل في أن الحياة تنبجس بمجرد اتحاد الخلايا الجنسية للرجل و المرأة لحظة الإخصاب في تلك الساعات الأولى للحمل. ألن يستحق هذا الجنين أن "يناضلو" من أجل حياته على الأقل كما يناضلون ويقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل حياة المحكومين بالإعدام. كأن أولى بالعديد من الحقوقيين أن يكونوا في طليعة من يدافع عن حق الجنين في الحياة أفليسوا هم من تفننوا في ابتداع "جيل جديد" من الحقوق، حتى أننا الآن صرنا نتحدث عن الحقوق السياسية والاجتماعية و الاقتصادية والثقافية و اللغوية و البيئية فكيف عجزوا ؟ وكيف غفلوا عن تحميل كل هذه الحقوق الحق البسيط للجنين في الحياة؟.هذا الحق الذي لا يقبل المصادرة بأي وجه من الوجوه. هل ائتمروا به لأنه لا يملك أن يحتج ويرفع صوته بالصراخ؟. أم هل تناسوه لأنه فقط لا يتمثل لهم شاخصا أمامهم. وقد اعتادوا ألا ينتصروا ويتعبؤوا إلا لضغوط الماثلين لناظرهم . ألا يضحون و الحالة هذه بهذا الجنين رياء وتزلفا لهذا الانسان الذي حملته أمه وولدته بسلام. وعندما عاش وكبر ، طغى وتجبر فأراد أن يمنع هذا الحق على الآخرين القادمين إلى الدنيا و إلى الحياة. [email protected]