غادرنا إلى دار البقاء الأب الروحي للأغنية المغربية العصرية، أستاذ الأجيال عبد النبي الجيراري، بعدما كابد كثيرا مع المرض و مع إهمال وتنكر من كانت له يد بيضاء في دخولهم و بروزهم في ميدان الغناء، سواء من خلال برنامجه التلفزيوني الشهير "مواهب" أو من خارج وقبل هذا البرنامج، توفي هذا الهرم الموسيقي وفي نفسه غصة تجاه من كانوا يتملقون ويتقربون إليه، حتى إذا ما اشتد عودهم ولوا ظهورهم له، وهي قصة رواها لي بمرارة، عندما زرته في بيته الوديع الكائن في حي أكدال بالرباط، ذات صبيحة يوم ربيعي من سنة 1994، وكنت بصدد إجراء حوار معه لفائدة جريدة "أخبار النجوم"...وكان استقباله لي يفيض بمشاعر رقيقة لفنان كان يتألم لأحوال الأغنية المغربية ولتنكر الجاحدين.. لم يكن استقبالا بالتمر و الحليب ولا بكعب لغزال ولغريبة، ولكنه كان استقبالا موسيقيا من الدرجة الرفيعة، استقبال بمعزوفة موسيقية على آلة البيانو التي كان يحتضنها بكل حنان والتي عزف بها مقدمة رائعة إسماعيل احمد " اذكريني" وكذا رائعة "أنت" لعبدالوهاب الدكالي، وهي التي مازالت تختزن ألحانا رائعة أغنت ريبيرتوار هذا الملحن الكبير كما أغنت الرصيد الغنائي للعديد من المطربين المغاربة... عزف بكل خشوع وهو مغمض العينين، وكنت حينها أشعر وكأنني بحضرة أحد كبار مايستروات عصره.. ولما أفرغ من العزف، لم يترك لي الفرصة للتوطئة للإستجواب الصحفي الذي كنت أود إجراءه معي، بل دخل في سرد ذكرياته الحلوة كما المرة مع نجوم للأغنية ساهم في تألقها بسماء الطرب المغربي كما العربي، فتذكر كيف كانت سميرة بنسعيد وهي طفلة تجلس فوق ركبتي " عموعبد النبي" إلى أن ولجت برنامج "مواهب" ولحن لها أولى أغنياتها.. وكيف أنه انتشل مطربا موهوبا من "باركينغ سيارات" بالرباط ليدخله عالم الغناء إلى أن صار مغنيا مشهورا، ولم يجشم نفسه حتى تفقد أحواله عبر الهاتف.. وتذكر الأستاذ كيف أن أحد قمم الغناء المغربي كان قد منعه الموسيقار أحمد البيضاوي من المشاركة في سهرة حضرها جلالة المغفور له الحسن الثاني، لا لشيء سوى لأنه كان لا يملك حتى بذلة سهرة، فتدخل هو شخصيا وجلب له بذلة حتى تسنت له المشاركة، وإذا به لم يعده في فترة مرضه إذاك ولا حتى سأل عنه...واسترسل أب الأجيال الفنية في سرد قصص كلها نكران لجميله وأياديه البيضاء التي حولت نكرات إلى نجوم وساهمت في إبراز العديد من المواهب ...ومع ذلك لم يشعر بالحقد في حق الجاحدين بل قال وقد ارتسمت على شفتية ابتسامة أبوية : " الله يسامح الجميع"... واليوم وقد غادرنا هذا الرجل العظيم إلى دار البقاء، لعل تلامذته يكرمون ذكراه ولو بعد فوات الأوان.