يكفي أن تتجول بين أزقة ودروب وفضاءات المدينة العتيقة لشفشاون، خاصة أحياء: العنصر، المدقة، الهوتة، السويقة، ريف الأندلس، شارع الحسن الأول وساحة وطاء الحمام، لتجد نبضا آخر يدق أبواب المدينة كل يوم، نبض حمله السياح الأسيويون من مختلف الأعمار والأصقاع، بمن فيهم من يمشي بخطوات مرتعشة، تحدوهم رغبة الاكتشاف والتطلّع وربط الصلات والعلائق مع الإنسان المغربي/الشفشاوني والتعرف على أبجدياته وثقافته. تعلو سحنات الأسيويين من كوريا الشمالية واليابان وغيرهم، وخاصة الصينيين الذين يشكلون الموجة الأكبر، الابتسامات وكلمات رقيقة وأحيانا بعض التحايا التي تجمع بين اليدين مع انحناءة الرأس وهم يسترقون النظر إلى الجميع ببريق أعينهم، ويبحثون عن الدهشة الأولى وحروف الجسر. يتجولون هناك وهناك بلباسهم المحتشم، أو ينحدرون ويصعدون في أعماق المدينة صوب سلالم الطريق أو على مشارف الأزقة، في جماعات منظمة أو فرادى، وكأنهم في سباق مع الزّمن، يقرؤون المعالم والزوايا والوجوه ويقتنصون الأمكنة والمشاهد، بل وحتى منتوجات وسلع البازارات، بمجاهر عدساتهم وكأنهم يمتهنون التفاصيل. وبين هذا وذاك تستوقفهم كثرة القطط التي تغفو في الظلال وفي والعتمات أو تتجوّل بحرّيتها المعهودة، والتي يعدّها البعض وجبات دسمة بمطاعمهم في الصين، وهي مُقتنصة بين حواجز الأقفاص. تغمر الصينيين محبة شاسعة لردم المسافة بين الفاصل الزمني والمكاني واللغة حيث صاروا متآلفين مع الكل، بل منهم من ارتبط بالمكان وفصوله واستثمر فيه بفتح مطعم يقدم وصفات وأكلات صينية للسياح الأسيويين أو مقهى متخصص في الشاي بالأعشاب بنكهات مختلفة، يبعث الدفء في العروق. ومنهم فتيات جاورْنَ أواصر المحبة مع بعض الأسر، واخترن شريك العمر والحياة من شفشاون. وما يثير في هذه الشعوب التي تفتخر بعاداتها وتقاليدها، ومنهم الصينيون دائما، بساطتهم وتواضعهم ورمزية ألوان الألبسة التي تحمل حرارة الأيام، في ارتباط وثيق بالمفاهيم الثقافية للشعوب، بحيث تبقى الألوان: الأسود والأحمر والأزرق والأخضر والأبيض والأصفر، ألوانا أساسية في الثقافة الصينية التقليدية؛ إذ تتوافق مع العناصر الخمسة: الماء، النار، الخشب، المعدن، والتراب أو الأرض، بل منهم من يغمر جسده بلباسه القومي الذي يصغي إلى حكمة الجذور وأنفاس الأجداد، ويمضي متفاخرا، مشيعا حوله سيلا من نظرات الاعجاب. وإذا كانت الطبيعة تحرس المناظر والألوان والتداعيات الحرة والمدينة بتماوجاتها وتنوعها الثقافي والبشري، وهي تعيد الصلة مع العالم ومع الأفق وتفتح امتدادات أخرى، فقد أضحى الصينيون الذين يبرمجون رحلاتهم إلى شفشاون، يعتبرونها صلة وصل بينهم وبين ذواتهم وما تشكّله من بعد معرفي، بعد أن صار هذا المكان الكوني جزءا من ذاكرتهم ونزهاتهم، بل وحقلا لمراعي القلوب؛ إذ هناك الكثيرون ممن جعلوه وجهتهم المفضلة لتمضية شهر العسل والإنصات إلى حنين العواطف والأحلام وصمت المدينة التي تلمع تحت ضوء الفصول. فهل تحافظ المدينة التي تغْوي الصينيين وغيرهم على ملامحها وتميزها ومضمونها الإنساني الذي يتطلع إليه الجميع، لتبقى في مِخيال سكانها وزائريها موطنا للرّوح، يسترجع عبره المكان هويته وعلاقته بذاته، حتى لا يتحوّل إلى مجرّد غابة يتآكل بفعل التشويه والهواجس الكثيرة وتُضطهد فيه المعالم، متمنين أن تصير المدينة مجدداً ضفّة تلتحف البياض الذي كان وتعبر الحدود والأزمان؟