اشتعلت نار الثورات داخل وطننا العربي. وقد حققت أكثر من انتصار بأقل التكاليف إلى أغلاها. ولكنها حررت تونس ومصر وليبيا أو تكاد. وما زالت اخريات تدور رحاها على جبهات اليمن وسورية وسواهما. ويبدو أن اللائحة ما زالت طويلة. ولكن يبدو أيضا أن عزم الشباب مصمم على متابعة ثورته حتى يأتي على آخر معاقل حكم الاستبداد والقمع، فيحاكم آخر فرعون في صحبة آخر قارون وآخر هامان. والواقع أن منهم من قضا حكمه وفقد سلطته وسلطانه، ومنهم من يحارب ويقتل شعبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. ولكل طاغوت أجل. ولكل أجل ثورة وثوار. فمنذ بداية أجل هذه الثورات الحالية المباركة، ومنذ رفع شعارها "إسقاط الفساد" إلى شعارها "إسقاط النظام" وأنا أتساءل عن الموروث الاجتماعي والثقافي الذي سهّل نشوب هذه المظاهرات، ورفع تلك الشعارات، وأمد الشباب والشيب بروح تلك العصيانات، وكذا عن المعطيات التاريخية والمفاهيم الدينية والموروثات الفقهية التي سهلت لهذا العربي الخانع أن يخلع عنه لباس الظلم الذي أثقل كاهله لقرون طويلة. فمع اختلاف وجهات النظر الكثيرة، إلى أن الإطار العام والمشترك الذي ضم جميع أطياف الشعب مع اختلاف مِلَلِهم ونحلهم هو هذا التفاعل الموضوعي وتجسيده على أرض الواقع. أول شيء يمكن تسجيله هو أن هذا الجيل الجديد كان له موقفا مغايرا لسابقيه من الأجيال. كانت كل الجبهات الوطنية السابقة يكبلها الخوف الذي ظل يخيم على النفوس إلى درجة الشّلل. ولكنها، في صمتها، قدمت أفكارا اضطرمت حولها الصراعات في الفكر العربي الحديث، فساهمت في التأسيس لجهود فكرية جديدة وحرة. فإن صح هذا التحليل، يمكن أن أزعم بقيام جبهة فِكرانية[i] جديدة لا بد أن يُكتب لها التواصل حتى تخرج من ضيق الأفق إلى سعة ثورة ثقافية، تكتب النجاح لهذه الثورة السياسية، التي بدأت باقتلاع أباطرة الاستبداد بالرأي ومصادري الحريات، والتي دفع ثمنها بأرواحهم أبطالها رحمه الله عليهم جميعا. في يوم الجمعة 16 شتنبر 2011 للميلاد، استمعت لشيخ الأزهر السيد أحمد الطيب، على القناة الفضائية المصرية وقد تكلم عن مكتسبات الأمة وما لها من مقومات بشرية وثروات طائلة ومن قيم أخلاقية مستمدة من عقيدتنا، عقيدة التوحيد، وما إلى ذلك من كلام جميل يثلج الصدر. تابع شيخ الأزهر يقول كلاما فحواه سيخلّده له التاريخ: "إن أكثر ما يموّه الشعوب هم العلماء الخانعون، وأنا كنت واحدا منهم". تأثرت كثيرا من هذه المحاسبة القوية، ومن هذا النقد الذاتي القاسي، الذي قلّما نسمعه من علمائنا وفقهائنا ووعاظنا، حتى أنه كان السبب المباشر والمحرك في كتابة هذه المقالة المتواضعة. وفي الواقع إن يقيني زاد بأن عالمنا العربي والإسلامي داخل فعلا على عهد جديد. وزاد إيماني أكثر أن الحرية نعمة من أعظم النعم. إن كلام شيخ الأزهر له دلالاته العميقة. وقد نستحضر فيها تلك "الإخطبوطات" الثقافية التي "ابتلعناها" ونحن ننصت إلى رجال الدين في عالمنا العربي والإسلامي. كان المساكين وما زالوا يجهدون أنفسهم محاولين التوفيق (حتى لا أقول التلفيق) بين استبداد الحكام وبين استضعاف شعوبهم؛ بين الثراء الفاحش لطغمة فاسدة وبين مستنقع الفقر الذي ترزح فيه فئة كبيرة من أبناء شعوبنا. تركوا نصرة الحق والعدل، وذهبوا إلى تأويلات دينية مغرقة، غطوا بها على حقائق تاريخية مرعبة حتى يحافظوا على منابرهم كما يحافظ السلاطين على سلطانهم، وإن اختلفت الوسائل والوسائط. ومن ثمة اتجهوا ووجهوا أمتهم نحو قِبلةٍ غير القبلة التي يزحف نحوها التاريخ ويؤول إليها الجهد التراكمي الرائع للإنسان. فوهموا وأوهموا سواهم، بسباحتهم ضد التيار، فنسوا وأنسوا أن الأمانة التي عرضها الله على الإنسان قد ضيعوها وأضاعوها على الإنسان العربي والمسلم الذي أصبح لا يفرق بين المطلق الإلهي وبين التراث الإسلامي النسبي الذي هو فكر إنساني ونتاج بشري لا أقل ولا أكثر. والحاصل إننا نحن اليوم نحاول أن ننطلق من زاوية جديدة في الرؤية. فمن حيث هذا المكان الذي نتواجد فيه، ويتواجد فيه كل منا، نفهم بأن ما يواجهنا من مشاكل معاصرة، لم يعد يصلح لحلها كل ما ورثناه، وكل ما كُرّس في عقولنا من أفكار مبثوثة من تراثنا أو بعضه على الأقل، لسبب بسيط هو أن واقعنا غير واقعهم، وأن مشاكلنا غير مشاكلهم حتى نتوقع أن يضعوا لها حلولا مناسبة وناجعة كما وضعوا لواقعهم ومشاكله حلولا مناسبة وناجعة. هذه الثورات هي ثورة على الظلم والاستبداد، وهي في نفس الوقت أراها ثورة على مفهوم "طاعة ولي الأمر" الذي جعل حكامنا قَدَرَنا وانتهى الأمر. فأصبح الحاكم هو صاحب الرأي الذي لا رأي بعده ولا قبله، حتى اختفت بذور كل معارضة ممكنة وحقيقية وفاعلة. وفي الواقع إنّ كل ما كان يُخيل إلينا أنها معارضة تسعى ظهر أنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفّاه حسابه. وفي لجة هذا السراب الخادع غاب أي وجود حقيقي لأي فكر فعال، وحلّ محله فكر سلطوي حُنطت فيه العقول، ولُجمت فيه الألسن، وكُبّلت فيه الأيدي، وأسرجت فيه الظهور. هذا الفكر المنحدر إلينا من تراثنا، الذي كان فيه الحاكم، وإلى حدود فجر هذه الثورات المباركة، هو عقل الأمة الوحيد والأوحد يبدو أنه قد ولى وانتهى. ولا بد له من ذلك حسب سنة التاريخ، حتى نعيش عقيدتنا الحقة، عقيدة التوحيد. إن مثال طاعة الخليفة عمر رضي الله عنه، أمير الحرية والعدالة، الذي كان يأمر أصحابه وولاته ومستشاريه وعامة الأمة بتقويمه إذا ما رأوا في سلوكه اعوجاجا عن الحق وعن العدل وعن تحقيق العدالة، ليس هو مثال طاعة هذه الديكتاتوريات المؤلهة التي يكاد لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وفي حقيقة الأمر إذا لم يكن الضعف كامن في صميم تراثنا وفي بنيته الداخلية، فعلى الأقل هو كامن في تعاملنا معه وقراءتنا له. ودرءا لأي شبهة فإنني أسارع إلى التنبيه والتنويه بأنني لا أدرج كتاب الله ضمن مجال هذا التراث العربي الإسلامي الذي هو في حاصل الأمر جهد بشري محض. ولكنني، وعلى العكس من ذلك، أطمع أن يُقرأ تراثنا، على ضوء كتاب الله، وعبر مفاهيمه الخالدة، وتحكيم منطقه المتين في كل معالجة هادفة. ولعل هذا الضياع في تحديد كمون الضعف بين بنية تراثنا وبين كمونه في عدم قدرتنا على قراءته قراءة تجديدية ومبدعة، هو ما أدى بنا إلى عدم العزم على قراءته قراءة نقدية ممنهجة وعلمية وتجديدية تفيدنا في تجاوز وترك ما يجب تجاوزه وتركه وفي إحياء وتطوير ما يجب إحياؤه وتطويره. فإذا كانت السلطة، فوق الأرض، مصدرها الإنسان، فنحن غاب عندنا الإيمان بقدرة الإنسان وإرادته الخَلاّقتين، حتى لأصبح كل شيء نعيش فيه ونعاني منه منزل من عند الله ولا رادّ لقضائه وقدره. فهذه حرياتنا قد صودرت قضاء وقدرا. وهذا حاكم جائر يفعل بنا الأفاعيل قضاء وقدرا. وهذه أرزاقنا قدّرت علينا قضاء وقدرا. والواقع إن إدراكنا لما هو حيّ وفعّال وإجابيّ من تراثنا، هو ما ينبغي أن نستثمره في عملية اللّحاق بالركب الحضاري. لأن القيمة أي قيمة هي نفسها عبر التاريخ الإنساني بصفة عامة، ولكن شكل التعامل معها واستثمارها وتنزيلها يختلف من واقع إلى واقع آخر، ومن زمن إلى زمن آخر، ومن أمة إلى أمة أخرى. فخذ على سبيل المثال قيمة الوقت. ففي الغرب يُتعامل معها بالدقيقة والثانية أحرى بالساعة، فيأجر العامل عليهم ويعاقب عليهم أيضا، ويتأكد المرء حيثما حل وارتحل أن فكرة "الوقت من مال أو من ذهب" فكرة حقيقية تكاد تتخلل إلى كل مؤسساته وشرايينه الاجتماعية. بينما نفس القيمة يتعامل معها في عالمنا العربي والإسلامي بشكل مختلف وقاتل حتى لَأَنّها تُذبح ذبحا بين صلاة وصلاة تليها. وقس على هذه القيمة أمثالها من القيم مثل: قيمة النظافة، وقيمة الإتقان في العمل، وقيمة الحرية، وقيمة العدل، وقيمة العلم، وقيمة الحوار، وقيمة الواجب، وقيمة الحق، ... ونحو ذلك. وإذا التفتنا من حولنا وتفحصنا واقعنا الاجتماعي وأحوالنا الثقافية والعلمية في كل الميادين فلن يستعصي علينا ملاحظة بأنها تعيش حالة من التردي لا نظير له حتى لقد أدى بنا ذلك إلى الإحساس باليأس والقنوط والضعف بل واستقر عندنا ما يمكن أن اسميه بالإحساس بالدونية لأننا علميا وعمليا دون الأمم الحضارية شئنا أم أبينا. غير أن مؤشر الدونية هذا، وكما وضح عالم النفس "أَدْلَرْ"، فله حسناته. ولعل إيجابيته تكمن في إمكان استثماره كمحرك أساس لاسترجاع الثقة بالنفس شريطة أن لا يتحول هذا الإحساس إلى عقدة خانقة وقاتلة. وهذا هو حالنا فعلا. فقد تولدت لدينا عقدة بالدونية قاتلة أمام الآخرين. فلا يصعب على المرء أن يرى علامتها مترجمة عند عامة الناس وخاصتهم. فحيثما وليت وجهك تجد فكرة "المقارنات" بين أنفسنا وبين الغربيين على جميع الألسن وفي جميع الميادين: هم فعلوا كذا وكذا ونحن لم نفعل شيئا؛ هم ساروا في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق ونحن ما زلنا محبوسين في مدننا؛ هم وصلوا إلى القمر وغزو الكون ونحن ما زلنا نتغنى بجمال القمر عند الكانون!! وهكذا... والحقيقة إن أمتنا تحمل كل مقومات النهوض، ولنا تاريخ يشهد على ذلك، وقيم تعيننا عليه. فحتى لا تصبح طاقاتنا معطلة كما هي عليه منذ قرون وإلى حدود الآن، يجب علينا القضاء على عقدة الدونية والعمل على الاستفادة من شقها الإيجابي كمحرك فعال في اللحاق بالركب بل وتجاوزه أيضا. ألسنا خير أمة أخرجت للناس؟؟. فأنّا لأمة أن تكون المثال والقدوة في الخيرية وللناس جميعا من موقع كموقعنا الحالي الذي لا نحسد عليه؟؟ لذلك فأنا أرى من زاويتي المتواضعة، أنه حتى يتم لنا هذا اللحاق ثم التجاوز، لا بد لنا من قبول الجديد وكل فكر جديد، والتعامل معه بدل محاربته ورفضه من غير قراءة ولا غربلة. فالخطابات العاطفية (حتى لا أقول الغوغائية) لن تفيدنا في شيء، بل هي تعمل على تكبيلنا وشل حركتنا حتى نستمر في تبعيتنا وتقليدنا وإمّعتنا وطفولتنا الفكرية وعقدنا النفسية بدل الوقوف على أرجلنا وتحمل مسؤوليتنا كأمة ليست كمثل باقي الأمم فقط، ولكنها خير أمة أخرجت للناس أيضا. وختاما، فكل هذا الكلام عن التراث والثورة، وكذا عن تلقائية هذه الأخيرة يؤخذ منه ويرد، إلا أنني أميل إلى أن هناك ما يشبه "ثورة صامتة" تلقائية تشكلت تدريجيا في الأعماق الصامتة على مفاهيم فكرية في الأساس حتى شقت طريقها إلى السطح السياسي وما زالت تشق باقي طرقها إلى باقي السطوح؟ وإلاّ كيف نفسر استعداد هذه الشعوب العربية الخانعة منذ قرون، فجأة، ومن غير إنذار سابق، لرسالة من حجم الثورة وعلى أعتى طواغيت العصر؟؟ فمن وجهة نظري هي ثورة ظاهرها سياسي، ولكن باطنها قد يجد بعض تفاسيره في ثورة صامتة على مفهوم "طاعة ولي الأمر"، وقد رأينا إحدى علامات هذا التفسير في بداية الانقسام الذي عرفه صفوف أكابر علمائنا ومفكرينا وفقهائنا وهم يختارون راضين أن يكونوا في جهة الثورة والثوار أو في جهة السلطة والسلطان. ولعلي لا أبالغ إذا زعمت أن هذا الجيل بدأ يركز نظره على جهة المستقبل أكثر مما يلتفت إلى جهة الماضي والتاريخ. فكأني به يشعر بقوة أن خيرية أمته توجد أمامها لا خلفها. فكأن التوحيد يوجد في الأمام وليس في الخلف أو على الأقل هذا التوحيد يستعمل وسائل الحاضر والمستقبل لغربلة التراث والماضي وليس العكس. وعلى ضوء هذا الزعم، ومن هذا المنظور، ألا يظن معي القارئ أن الوعي بهذه الثورات العربية الحالية هو العمود الفقري لها وشرط من أشراط نجاحها الكامل؟؟ ________________________________________ [i] مصطلح "فِكرانية" مصطلح نقتبسه من الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن كترجمة للمصطلح الفرنسي Idéologie