هل حقا ستكسب المؤسسات الإسلامية بالغرب الرهان؟ وأي دور سيلعبه نموذج التدين المغربي في هذه المعادلة؟ يفرض هذا الموضوع إلحاحيته وراهنيته، ويستفز، بلا شك، العقول النيرة لمناقشات أكاديمية تستجلي خباياه. ابتداء أود التأكيد على أن الدراسات في هذا المجال تؤكد أن الإسلام كدين يعرف انتشارا كاسحا عابرا للأوطان Transnational Islam، ولا أحد يجرؤ على إنكار دور الثقافة الرقمية في هذا الزحف، التي بالرغم من أنها متاحة بنفس الحجم لكل الأديان، مسيحية، يهودية أو غيرها، يظل الإسلام أكثر الأديان انتشاراً. ويؤكد الباحث Thomas Csordas على أن من أسباب انتشار بعض الأديان أفضل من بعضها طبيعة الدين نفسه، حيث تكون لهذا الدين "ممارسة محمولة" Portable Practice و"رسالة قابلة للانتقال" Transmissible Message وفي تقديري الشخصي، فالسبب يعود- إذا استثنينا سوء تسويقنا مؤسساتيا لهذه الرسالة الخالدة- إلى الوعد بالتمكين، كما يدل على ذلك الخطاب القدري المبثوث بين ثنايا آيات القرآن وأحاديث السنة النبوية، وإلى هذه الكاريزما وتلكم الجاذبية التي يتمتع بهما الإسلام كدين، بما يرشحه ليكون البديل الحقيقي لحيرة الإنسان المعاصر. إلا أنه حتى لا نظل مستأسرين بالخطاب القدري الذي وعد الله فيه هذا الدين بالتمكين والنصر، فنخلد بذلك إلى الكسل ونركن إلى واقع العدمية، أود أن ألفت الأنظار إلى أن ثمة خطابا شرعيا يأمرنا بأن نكون السواعد الحقيقية، التي تحمل أمانة التبليغ والشهود الحضاري لهذا الدين، تمسكا بأهدابه، واعتقاداً به، وتجديدا لخطابه. وبتعبير السوسيولوجي Alain Touraine، ينبغي أن يتحول كل واحد منا إلى ما يسميه "الذات الفاعلة"، ويمكن أن نسميه من منظور إسلامي "الذات الفاعلة المسلمة"، وهي التي تحمل أمانة الإسلام حتى لو غابت المؤسسة التي تمثله، كما هو الحال في البلدان التي نعيش فيها نحو المسلمين كأقليات في أوروبا وأمريكا. من ثنائية "الإسلام والغرب" إلى ثنائية "الإسلام بالغرب" أدى تواجد المسلمين المكثف بالغرب إلى التحول من الحديث عن ثنائية "الإسلام والغرب" إلى الحديث عن ثنائية جديدة هي "الإسلام بالغرب"، حيث لم يعد الإسلام يقترن بالمغرب أو بالمشرق كدين مستورد، وإنما كجزء من المكونات الهوياتية للمجتمعات الغربية يخضع لعملية إعادة تفكير باستمرار Rethinking Islam، حيث يفرض استقرار الإسلام بين غير المسلمين إلى تغيير فهمهم له. وفي السياق نفسه، يؤكد الباحث في شؤون الإسلام والغرب Olivier Roy أن الثنائية الجديدة "الإسلام بالغرب" أسفرت عن تحول المهاجرين من اتجاه "مسلمي الدياسبورا" إلى اتجاه جديد عبارة عن مسلمين منتمين إلى "مذهبية إسلامية عالمية منفصلة عن التقاليد الثقافية والخطاب السياسي لدول المنشأ". وقد أدى هذا، حسب الباحث نفسه، إلى نموذجين للتدين: إسلام "الأصولية الجديدة"، وإسلام "الإنسانية الليبرالية"، وكلاهما كان تجلياً ل"بحث مستمر عن هوية مفقودة"، وطنية كانت أم دينية. وهذان الاتجاهان، حسب الباحث نفسه، يأخذان ثلاثة أشكال: الاندماج الاستيعابي، الذوبان في المجتمع والتقوقع والانعزال. وعموما، فالباحث يتحدث عن اتجاه جديد تلخصه العبارة التالية لصاحبها إدوارد سعيد: Traveling Islam becomes Travel within Islam، ومعناها أن فهم المسلمين للإسلام، على الرغم من اختلاف أعراقهم وقومياتهم، يتعرض لتحولات نتيجة هجرتهم وانتقالهم، لا سيما التحولات التي تحدث في ظل العولمة والتفاعلات عبر المحلية (وليس فقط عبر القومية)، إذ العوامل التي تحيط بظاهرة الهجرة المسلمة تؤثر على نمط معايشة المهاجرين لإسلامهم ومراجعتهم له في إطار "الدياسبورا"، على اعتبار أن هذه الهجرة جزء من التحولات الاجتماعية الثقافية العالمية، التي يتسم بها النظام العالمي. ترى ما حجم دور المؤسسات الإسلامية بالغرب في مراجعة الإسلام؟ مأسسة العمل الإسلامي بالغرب.. المعيقات والتحديات تحت عنوان ظاهرة "أسلمة الغرب" و"إعادة الأسلمة" يجعل السوسيولوجي الهولندي Oussama Cherribi إضفاء الطابع المؤسساتي على الإسلام من أبرز تجليات الأسلمة بالغرب، من خلال تزايد عدد المساجد، المراكز، المدارس، المؤسسات الإسلامية، الشبكات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وكذا ظهور القادة الدينيين في شكل أئمة يتحدثون باسم المسلمين في القضايا الدينية والاجتماعية. وأضيف إلى ذلك مجالس الإفتاء في أوروبا وأمريكا، غير أنه طالما أبان الوجود المسلم بالغرب عن وجه غير مشرف في البناء والأداء المؤسساتي، بعيدا عن أي رؤى استراتيجية، وتنظيم محكم، وتخطيط منهجي للمستقبل. ولعل من بين الأدواء الفكرية والمعيقات المنهجية، التي تذكر في هذا السياق، أنه حتى إن تم تحري مبدأ الشورى في بناء السلطة داخل هذه المؤسسات، انتُهك مبدأ المشاورة في أدائه اليومي بها، وهكذا كان قاب قوسين أو أدنى أن يدّعي رئيس المؤسسة الإسلامية "التفويض الإلاهي" في بناء السلطة، كما تهاوى الكثير منها في داء "الشّخصنة"، إذ يصبح ذكر المؤسسة مقرونا باسم الشخصية النافذة فيها، الذي يعتبر المصدر الوحيد للقرار، كما أنه يتدخل في جميع لجانها وشؤونها، دون اعتبار لحرمة العمل المؤسسي ولا مراعاة للقواعد الدستورية والإجراءات الإدارية، فضلا عن الاختلافات المذهبية على مستوى مجلس الإفتاء الواحد بين سلفي وإسلامي...، والتي لا تجدي الوجود المسلم بالغرب في شيء. وغالبا ما ينبري لتسيير هذه المؤسسات من يملك شرط الأمانة (الورع والتقوى) دون أن يستوفي شرط القوة (الخبرة والعلم)، والعكس صحيح. "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (الآية 26 القصص)، وهكذا تكون المحصلة النهائية إما أن يتضخم لدى مؤسساتنا خلل في المنهج، وسوء اختيار الأدوات الكفيلة لفهم السياق، وتأطير الشباب تأطيرا دينيا ينسجم مع هذا السياق الغربي،(بما يقتضيه ذلك من تجديد الخطاب الديني، بدءا بمراجعة ونخل الموروث الفقهي وتخليصه من الأفكار المرهقة التي لم تعد مصدر إلهام، بل أصبحت معيقات أمام الاندماج الإيجابي)، وإما أن نفوز بمؤسسات تملك من أسباب القوة والدينامية ما يجعلها في تواصل دائم مع المحيط والسياق الغربي حولها، لكنها للأسف لا تحمل من رسالة الإسلام غير اسمها. وفي ظل خلل يظل يجثم بكلكله على مؤسساتنا الإسلامية بالغرب بين ثنائية "الماذا والكيف"، في ظل غياب "ذوات فاعلة مُسْلمة" تصنع الفعل التاريخي داخل هذه المؤسسات، وفي ظل غياب "بيداغوجيا فارقية" في إنتاج الخطاب الديني بالشكل الذي يراعي خصوصية كل فئة وجيل، سنظل نراهن على مؤسسات إسلامية بمثابة أشكال من غير روح، ونستبشر خيرا بنتائج أشبه بالسراب. إن ما يلفت الانتباه، ونحن نناقش مأسسة العمل الإسلامي بالغرب في علاقته بالثقافة الرقمية، هو الصراع بين الأجيال، بين جيل الآباء الذي يحرص على فهم الإسلام، عن طريق صيانة وتعزيز العلاقة الثقافية، الدينية، الاجتماعية والوطنية بدول المنشأ، مما ينعكس على أولويات التدين لدى هذا الجيل، وبين جيل الأبناء والأحفاد، الذي ينخرط ضمن فهم عالمي للإسلام، حيث يرى في عنصري الثقافة والعرق هادمين لممارسة التدين الصحيح. إنه جيل من الشباب المعولم، يؤمن فيه الفرد بأنه جزء من مجتمع أكبر عابر للأوطان، وقائم على الإسلام، لكن بدون مجتمع وطني محدد كمجموعة مستهدفة. إن المؤسسات الإسلامية بالغرب تعتبر "ظاهرة سياقية"، يفترض في القائمين على تدبير الشأن الديني للوجود المسلم من خلالها، الإنصات إلى نبض هذا الوجود قصد إنتاج خطاب ديني يُعمَل فيه النص في علاقة مع هذا السياق، وهو ميدان يقتضي تخصصا شرعيا، فضلا عن التخصص في مجال الاجتماع السياسي، الاجتماع الحضاري والاجتماع الديني، وانفتاحا على التجارب الدينية المعتدلة، التي تقبل التعايش والاختلاف، والمتجذرة حضاريا، كما هو الشأن بالنسبة للنموذج المغربي. نموذج التدين المغربي المعتدل بين التجذر الحضاري العريق ومساعي التسويق العالمي Global Marketing مع نداءات دعمه وتقويته لمواكبة السياق الغربي إذا كان "النبوغ المغربي في الأدب العربي" أراد به مؤلفه عبد الله كنون أن يبين تفرد المغرب وتجاوزه التبعية والتلمذة للمشرق في ميدان الأدب العربي، إلى مرحلة من النبوغ والإبداع، فإننا نتحدث داخل إطار الممارسة التدينية بالمغرب عن نموذج مغربي للتدين، متفرد له مقوماته وخصوصياته التي تميزه عن نظيره المشرقي. ففي زمن يغلي فيه العالم بالاضطرابات والصراعات والطائفية، حيث المسلم يقتل المسلم وغير المسلم، أصبح التدين المغربي قبلة الهائمين يهرعون إليه من كل حدب وصوب من العالم، ويرسلون الأئمة إلى المغرب من أجل التكوين والتأهيل. نموذج التدين المغربي يقصد به مجموع الاختيارات التي تختارها الأمة في لحظة من اللحظات، وتتمسك بها في خضم الاختيارات الكثيرة وميولات التدين المتعددة، ونقصد بها المذهب المالكي فقها، والمذهب الأشعري عقيدة، والتصوف على منهج الجنيد السالك. والمتدبر لنموذج التدين المغربي يلاحظ الانتقال من تبعية الشرق إلى التفرد واستكمال المقومات الذاتية. وعموما يمكن أن نختصر خصائص هذا التدين بأنه في ظل العقيدة الأشعرية، التي يدين بها أهل المغرب، ينعم البلد بالأمان، إذ لا نجد اقتتالا طائفيا، ولا دماء تهرق، فكل الطوائف، من إباضية، صفرية، شيعة ومعتزلة، بعد أن وجدت بالمغرب عبر التاريخ، كان مصيرها الاندثار، لا سيما بعد الالتفاف على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية منهجا، وكلاهما لا يكفر الناس بذنوبهم، وهو ما فتح المجال واسعا لإشاعة قيم التسامح والتعايش بعيدا عن التكفير. الفقه المالكي، على غير غرار المذاهب الأخرى، واسع ورحب، يراعي مقاصد الشريعة، ويعتمد المصلحة المرسلة، وهي كل مصلحة ليس مشهودا لها بنص، ولكنها شيء مفوض فيه للأمة بشرط أن تدخل في التوجه العام للشريعة الإسلامية، وتنسجم مع مقاصدها حفظا لكلياتها الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض. يعتمد الفقه المالكي كذلك سد الذرائع، وما جرى عليه العمل بالمغرب، وهذا الأخير يشكل 300 مسألة في الفقه، وهي مما انفرد به المذهب المالكي المغربي دون نظيره في نسخته المشرقية، وهذا دلالة على أن الفقه المالكي يهتم بالواقع ويراعيه. لم يوجد مالكيا قط، ينتمي إلى طائفة من الطوائف، شيعية كانت أم إباضية أم صفرية أم معتزلية، كما كان الشأن بالنسبة لأتباع المذاهب الأخرى، وهذا كان صمام الأمان لمنع الاقتتال الطائفي. الخطاب الصوفي المغربي السني الأخلاقي، وفق مدرسة الجنيد السالك، يتسم بالبساطة والوضوح والطابع العملي والبعد عن التعقيد، ويعتمد التربية والتوجيه الأخلاقي لا الإغراق في الشطحات، ويخاطب فئات المجتمع على اختلاف طبقاته وتنوع توجهاته المعرفية، وينأى بنفسه عن أن يكون خطابا نخبويا، كما هو الشأن بالنسبة للتصوف المشرقي. حقا إن الممارسة التدينية، وفق النموذج المغربي للتدين، كما رأينا بعجالة، تتصف بالتفرد والتميز، واستطاعت أن تراكم لنفسها مقومات ذاتية عبر عملية التبيئة التي خضعت لها عبر سياقات تاريخية متعددة، مكنتها تبعا لذلك من التحرر من التلمذة للمشرق. هذا التميز يترجمه الأمن الروحي والمادي الذي نرفل فيه بالمغرب، بعيدا عما قد يدعيه البعض بأن النموذج المغربي للتدين يشكو التنميط لاستفراده بالقرار الديني والفتوى دون غيره من الحركات والجماعات، التي تجعل من نفسها منافسا دينيا ومعارضا سياسيا. ونحن نتحدث عن تسويق النموذج المغربي للتدين إلى الغرب، يثور التأكيد على أن هذا النموذج سارت بذكره الركبان على الصعيدين الإفريقي والأوروبي، حيث كانت الدنمارك في بحر هذا الأسبوع -في شخص وزيرة الهجرة والاندماج- وقبلها فرنسا، بلجيكا وألمانيا.. صانعة الحدث بزيارتها مركز تكوين الأئمة بالرباط، وجلوسها مع القائمين مع الشأن الديني. وعموما، ونحن نتناول هذا الحديث، ينبغي أن نستحضر المعطيين التاليين: إن إلزامية اتباع النموذج المغربي للتدين داخل المغرب كانت مدفوعة بهاجس أمني وسياسي، وتزامن ذلك مع جملة من الإصلاحات، التي تمت مباشرتها في الحقل الديني عموما من أجل محاربة البناء العشوائي في الحقل الديني، وتضييق الخناق على حركات الإسلام السياسي، والحركات الجهادية (لا سيما بعد الأحداث الإرهابية 2003، 2007 و2011). يرتبط تسويق النموذج المغربي بالمتغيرات الدولية، التي ألزمت الدولة بالانخراط في استراتيجية عالمية أطلق عليها الحرب على الإرهاب. لذلك سيراد للنموذج المغربي للتدين التسويق لنموذج إسلام منفتح، متسامح، يؤمن بالتعايش مع الاختلاف. وباستحضار هذين المعطيين، فضلا عما ذكرنا من مقومات أصيلة ينفرد بها على سبيل التميز، أزعم أنه يحق للنموذج المغربي للتدين أن يترشح عن جدارة لخوض غمار المنافسة مع فاعلين دينيين بالغرب لإرساء خطاب ديني في مستوى تطلعات الغرب وسكانه المسلمين، وهم: فقه الأقليات المسلمة (مجالس الإفتاء بأوروبا وأمريكا)، الإسلام الأوروبي في نسخته الإسلامية (طارق رمضان) أو العلمانية (بسام تيبي)، وهذا لا يعفينا كباحثين من إدلاء الملاحظات والأسئلة التالية: ما هي المسافة بين نموذج التدين المغربي وبين "الإسلام الجديد"، الذي تفرضه ظروف الهجرة، كما تحدث عن ذلك إدوارد سعيد نقلا عن أوليفيا غوي؟ ما هو الجديد الذي يمكن أن يستدرك به نموذج التدين المغربي على فقه الأقليات أو الإسلام الأوروبي (الإسلاموي المنزع (طارق رمضان))، (العلماني المنزع (بسام التيبي))، (الانعزالي المنزع (حزب التحرير))؟ هل الوجود الدائم والمستمر للمسلمين بالغرب يحتاج فقط إلى فتاوى جزئية، أم يحتاج إلى خطاب ديني متكامل؟ ما هو الطرح الفكري والخطاب الديني للنموذج المغربي للتدين داخل الغرب؟ وإذا تحدثنا عن خطاب بيني (بين المسلمين)، فمن الذي يستهدفه خطاب النموذج المغربي للتدين، علما أن المسلمين ليسوا كتلة متجانسة، فهناك: 1- مسلمو الجيل الأول من العمال، الذين يحسبون على نموذج تدين مستورد من دول المنشأ Diasporic Islam، ويلحق بهم من استقدموا بعدهم عن طريق سلسلة الهجرة Immigration Chain، أو عن طريق التجمع العائلي family reunion، لا سيما من ذوي التحصيل الدراسي الضعيف أو المنعدم، وهذا الإسلام إما أن يكون عفويا متوارثا، أو رسميا.. وفي هذا الإطار يمكن أن نميز بين إسلام مغربي، وإسلام تركي، وآخر باكستاني...الخ، والذي غالبا ما يستعين بأئمة من خارج البلد للحفاظ على الهوية الإسلامية والوطنية من أخطار كل لقاء ثقافي Cultural Meeting، وهذا الإسلام يسميه أستاذي سابقا الباحث "في تاريخ الإسلام وقضاياه بالغرب" بجامعة كوبنهاغن Jørgen B. Simonsen "الإسلام الدفاعي "Defensive Islam" 2- مسلمو الجيلين الثاني والثالث، وهؤلاء يثورون على نمط تدين آبائهم، ويرفضون كل خطاب ديني بخصوصيات ثقافية، قومية أو وطنية مستوردة، وهذا النوع من الإسلام ينطبق عليه نسبيا وصف Jørgen B.Simonsen ب"الإسلام الهجومي" Offensive islam، من حيث إن هذا الجيل، على غير غرار آبائه وربما أجداده، اقتنع بأنه جزء من المجتمعات الغربية، لا يخاف من الاندماج فيها اندماجا إيجابيا، حيث تتم إعادة صياغة هويته، حسب ما يفرضه السياق الغربي الذي ولد وتربى فيه، فترى أحدهم، مثلا، يقول أنا أوروبي بالمواطنة، ولكن مسلم دينًا، مغربي ودنماركي، الجنسية، أمازيغي، عربي، وإفريقي الذاكرة، وإنساني عالمي بمبادئه. وهذا جعل بعض الباحثين يطلق عليه Universalist Islam، وتحت هذا الصنف نميز بين ثلاثة اتجاهات أساسية لتواجد المسلمين بالغرب، تتفق مع بعضها البعض في نقطة واحدة، هي رفض وتطهير تدينهم من كل الروابط القومية، العرقية والوطنية. وهذه الاتجاهات هي: 1- الاندماج Integration الذي فصلنا الكلام فيه تحت وصف "الإسلام الهجومي"0 2- الذوبان دينيا ولغويا في قيم المجتمعات الغربية المتغلبة، والخضوع لتقاليد بوتقة الصهر Melting-Pot، حيث يتم الانسلاخ من الهوية الدينية، الثقافية والوطنية لصالح الهوية الجديدة المتغلبة. 3- الانعزال والتقوقع Segregation، ومثاله الجماعات الإسلامية مثل حزب التحرير، الذي يدعو إلى صيغة إسلام الجيتو/ Getto Islam، إسلام منعزل ومضاد لكل اندماج. هذا الحزب يجمع بين الوجود المادي بالغرب وبين هوية إسلامية عابرة للحدود الوطنية. وعلى ذكر حزب التحرير، يذكر كذلك التوحيديون والمهاجرون. إلا أن الحديث عن الإسلاميين في الغرب، كمستهدف بنموذج التدين المغربي، يستصحب الإدلاء بملاحظتين اثنتين: 1-أن الحركات الإسلامية لما نشأت في القرن العشرين، شكلت قطيعة مع التقاليد الإسلامية، ممثلة في مؤسسة العلماء، واليوم بعد أن أصبحت الإسلاموية في حد ذاتها تقليدا، تتم إعادة التفكير فيها وتفسيرها بالشكل الذي يتلاءم مع السياق الأوروبي العلماني، حيث تقبل بالمواطنة الأوروبية والمشاركة السياسية داخل مجتمعاتها. 2- لم تعد الإسلاموية منتوجا شرقيا ولا مغربيا، يقترن بالشرق الأوسط أو المغرب، وإنما أصبحنا اليوم نتحدث عن إسلاموية ولدت بالغرب Home-Grown Islamism، تستفيد من حالة التشظي والانقسام السريعين نتيجة المناخ المعولم، مما جعلها حركات إسلاموية لا سياقية Neo-Fundamentalism. تسويق النموذج المغربي للتدين بالغرب ومساعي الدعم والتقوية يحتاج النموذج المغربي للتدين، بعيدا عن ذهاني السهولة والاستحالة، وبفضل مقومات التميز والتفرد التي يمتلكها، إلى امتلاك مشروع فكري واجتهاد فقهي مقاصدي، يرقى إلى درجة الخطاب، عبر الاهتمام بالمراكز الفكرية والإفتائية، التي تعنى بتدبير الشأن الديني لمسلمي أوروبا، والموجودة بالساحة الأوروبية، تحاورا، انتقادا، استدراكا وتشاركا. كما يحتاج إلى معرفة دقيقة بأرخبيل العمران المسلم والإسلاموي على اختلاف طوائفه ومرجعياته ما ذكرنا منه وما لم نذكر. ونضيف إلى ذلك الاستعانة بمراكز بحث سيكولوجية وسوسيولوجية، تقيم دراسات إمبريقية وميدانية لرصد مدى التحسن في أوضاع المسلمين أو عكس ذلك، واعتماد نتائج فقه المآلات والترقب، فضلا عن الدراسات الإستراتيجية المستقبلية، وفضلا عن مراكز لتدريس النموذج المغربي للتدين بالعواصم الأوروبية تجمع بين الموروث والمعاصر بلمسة مبدعة تستجيب لمتطلبات السياق الأوروبي، كما تستعمل الثقافة الرقمية أسلوبا لها. يحتاج خطاب التدين على النموذج المغربي بالغرب إلى أن يتجاوز مواصفات الخطاب البيني (بين المسلمين فقط) بأن نعرف ما نريده لمسلمي أوروبا، ليستهدف الآخر بلغته ويناقش مدركاته عن مسلمي أوروبا، ويقترب من مناطق السياسات والإجراءات المحددة التي تستهدف المسلمين: كيف يفكر الأوروبيون؟ ماذا يخططون؟ ماذا ينفذون تجاه المسلمين؟ وماذا عن سياسات فرض الاندماج بالقوة وسياسات مكافحة الإرهاب وقوانين تقييد الهجرة؟ وكيف نقنع الحكومات الأوروبية بأن الإسلام لا يشكل خطراً على هويتها القومية؟.. إن كثيرا من مؤسساتنا الإسلامية في زمن الثقافة الرقمية ستظل حاضرة شكلا وغائبة مواكبةً، وهذا سيؤدي بدون محالة، حسب الباحث في شؤون الإسلام بالغرب Olivier Roy، إلى ميلاد تديّن جديد من رحم هذه العولمة والثقافة الرقمية، بنيته الأساسية هي "اللاسياق"، أي فضاء منفلت من أي تحديد أو حدود أو حتى تنميط ضمن خانات إيديولوجية. إسلام منزوع من سياقه الثقافي، ومنفصل عن الخطاب السياسي لدول المنشأ، ينزع فيه الشباب المعولَم، ذو التكوين الأكاديمي والتقني العالي، والذي يعيش حالة أزمة وبحث عن الهوية، إلى التطرّف، منخرطا في تيار "الراديكالية الجديدة" .Neo-Fundamentalism، هؤلاء الذين يوجهون سهام انتقاداتهم إلى المجتمعات الغربية العلمانية الليبرالية، وكذا إلى الدول والثقافات المسلمة/ الإسلامية التقليدية على حد سواء، التي تعتبر في نظرهم مرتدة عن الدين الصحيح، والتي يجب تنظيم عمليات إرهابية ضدها كتلك التي حدثت يوم 11 شتنبر ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية. فهل حان الوقت يا ترى لتصحيح المسار؟ *باحث مغربي، حاصل على درجة الماجستير من جامعة كوبنهاغن