ندوة دولية نوعية تلك التي نظمها "مجلس الجالية المغربية بالخارج" يومي 20 و21 يونيو 2009 بالدار البيضاء، وخُصصت لموضوع "الإسلام في أوروبا: أي نموذج"، من خلال دعوة خبراء وباحثين مغاربة وأجانب للتدارس في ملف أصبح يؤرق العديد من المسؤولين في الضفتين، المغربية/العربية والأوروبية/الغربية، حيث توزعت محاور الجلسات على أربع محطات، وجاءت كالتالي: "خريطة الإسلام في أوروبا: رصد ووصف"، "الإسلام الأوروبي وإشكالية المرجعية الفقهية"، "النموذج المغربي للتدين والسياق الأوروبي"، وأخيرا، "المرجعية والممارسات الدينية لدى النساء والشباب المسلمين في أوروبا". "" وتعليقا على أسباب نزول الندوة، أكد إدريس اليازمي، رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج أنه لابد من بلورة فقه خاص بالمسلمين في أوروبا انطلاقا من المذهب المالكي بالنظر إلى ما يتميز به هذا المذهب من مرونة وقدرة على التأقلم مع المحيطات المختلفة، مضيفا أن موضوع ندوة اليوم يأتي في هذا الإطار ليستكمل النقاش الذي ابتدأ مع المناظرة الأولى التي نظمت بفاس حول الإطار القانوني للإسلام في أوروبا اعتبارا لما تتميز به هذه المجتمعات من خصوصيات قانونية. ومن جهته، توقف عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج، عند نتائج استطلاع للرأي قام به معهد متخصص في ست دول أوروبية لفائدة مؤسسة مجلس الجالية، من المفترض أن يتيح توفير قاعدة للمعطيات لفهم التحولات الجذرية التي تعيشها الجالية المغربية في الخارج، مضيفا أنه سيتم التركيز على مساهمة البحث العلمي في حل مجموعة من الإشكالات المرتبطة بالقضية الدينية، وهذا عين ما توقفت عنده أغلب مداخلات الجلسات والموائد المستديرة التي عقدت طيلة نهاية الأسبوع الماضي. في تصدير نموذج "الإسلام المغربي" تفكيك هذا العنوان، كان محور الجلسة الأخيرة من أشغال الندوة، وترأسها رود بيترز (Ruud Peters)، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة أمستردام بهولندا، حيث أعطيت الكلمة بداية لعبد الحميد العلمي، أستاذ بجامعة القرويين بفاس ودار الحديث الحسنية ليحاضر في موضوع "خصوصيات الفكر الديني بالغرب الإسلامي"، ملاحظا أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار كون الإسلام كان خاتم الأديان، ومكلفا بنشر الرسالة الإلهية، فقد حظي المغرب الأقصى تحديدا بهذا الشرف لنشر الدين الإسلامي في المنطقة المغاربية بداية وفي أوروبا تأسيسا على لائحة من الخصوصيات التي ميّزت المذهب المالكي، وفي مقدمتها تشوف المغاربة إلى الجامع المذهبي وخيار مدرسة أهل البيت، ابتداء من زمن الدولة الإدريسية، وتحديدا إدريس الثاني الذي جعل من المذهب مذهبا رسميا للدولة. وبالنسبة للأسباب التي تفسر تشبث المغاربة بالمذهب المالكي، فقد عددها المحاضر في الضمانات التشريعية للعلاقة بين الراعي والرعية، حيث تعوّد المغاربة على مبايعة الأمير على السنة والكتاب والمذهب المالكي، إضافة إلى أن المذهب انفرد عن باقي المذاهب ببعض القواعد التشريعية، منها على الخصوص، الأخذ بعمل أهل المدينة، ومراعاة الخلاف. وفيما يتعلق بالخصوصية التشريعية (أو شخصية القانون بتعبير أدبيات المدارس الوضعية)، للمذهب المالكي، فمردها أنه يحترم كل الأديان والأعراف، وقد توقف المحاضر عن آثار للمذهب في مدونة نابليون الشهرية وفي التشريع الإسباني (بخصوص قضايا الأسرة والزواج) والتشريع الألماني وحتى في التلمود اليهودي، ولهذا، يضيف المحاضر، لا نستغرب أن نجد اجتهادات مالكية في قضايا حقوق الإنسان والمرأة والهجرة واللجوء السياسي، حتى أن الخليفة رشيد المأمون الموحدي، أصدر ظهيرا يسمح فيه للنازحين من الأندلس أن يستوطنوا الرباط، وأن يضمن لهم حقوقهم وأموالهم. الإسلام المُعولم والولاءات الوطنيةّ من جهته، حاضر محمد الطوزي (أستاذ العلوم السياسية والأنتربولوجيا بجامعة إيكس أونبروفانس بفرنسا) في موضوع "الإسلام المُعولم وإشكالية تعريف الولاءات الوطنيةّ، متوقفا بداية عند طبيعة العرض في المجال الديني بالمغرب، مذكرا أن الخطاب الرسمي أصبح يتحدث صراحة عن إعادة هيكل المجال الديني، حيث كان التركيز على مرجعية المذهب المالكي حجر الزاوية في مشروع إعادة هيكلة المجال الديني، بصفته المرجعية المعتمدة رسميا، حيث صدرت العديد من المؤلفات في هذا الصدد، لولا، يضيف الطوزي، منذ 1969، والمغرب يستورد أدبيات دينية مشرقية، كانت تغلب عليها المرجعية الوهابية، بما أثر على طبائع عروض دينية موازية للعرض الديني المغربي الرسمي، بما يفسر بروز العرض السلفي الرسمي، والذي يوجد للمفارقة في صلب العرض الذي توفره الدولة، بحكم وجود سلفيين في بعض المؤسسات العلمية، ولو أن المحاضر هنا يُفرق بين "السلفيين الرسميين"، وتابعين للدولة، و"سلفيين مستقلين"، سطع نجمهم على الخصوص إبان حرب الخليج الأولى، سنة 1990. وأمام هذه التطورات، يطرح محمد الطوزي سؤال نجاعة السياسة الدينية المغربية على المحك، ومعها السياسات الغربية في التعامل مع الجاليات الإسلامية، مشيرا إلى أن أبرز تداعيات وتجليات هذه السياسة، بروز أسئلة مقلقة حول موضوع الولاء الديني والسياسي لأفراد الجاليات العربية والإسلامية في القارة الأوروبية. وكان العرض الأخير مخصصا لموضوع "معالم متميزة من النموذج المغربي في التدين وفائدتها في السياق الأوروبيّ، وألقاه عبد الكريم عكيوي، أستاذ العلوم الإسلامية بجامعة ابن زهر بأكادير، حيث توقف المحاضر عند معالم مختارة من التفكير والنظر بخصوص المدرسة المغربية في التدين، مع التركيز على السياق الأوربي، بحكم أننا إزاء وضع جديد بفعل الحضور الصاعد لأبناء الجالية الإسلامية في القارة الأوروبية، وبحكم تبعات التنوع الشديد في المرجعيات الفقهية لدى هذه الأقلية. وقد عرّف عبد الكريم عكيوي "المرجعية الأوروبية الإسلامية في أوروبا" بأنها الإطار الفطري والقواعد المنهجية التي يتم على ضوئها تنزيل الأحكام الإسلامية على المسلم المقيم في أوروبا، وتستمد هذا الإطار من النصوص القرآنية والسنة النبوية، ليس باعتبارها نصوصا مغلقة، وإنما نصوصا تحتمل العموم والشمول، بما يفسر وجود مذاهب فقهية شتى، (من مالكية وأشعرية وحنبلية..)، بل، بما يفسر وجود مدارس في نفس المذهب. على أن ما هو مطلوب اليوم، برأي عبد الكريم عكيوي، صياغة مرجعية فقهية نابعة من الواقع الأوروبي، والذي يتميز بحضور قوي لمرجعية دولاتية علمانية، أي نحن إزاء علمانية صريحة للدولة التي تسهر على احترام التعدديات الدينية والثقافية. وفي معرض الترحال التاريخي مع النموذج الذي يُمكن أن يُحتذى به وإسقاط بعد ميزاته على الحالة الراهنة لمسلمي القارة الأوروبية، توقف المحاضر مليّا عند نموذج المهاجرين المسلمين إلى ديار الحبشة، بحكم أن الحبشة، آنذاك كانت بلدا نصرانيا ويحكمها ملك نصراني، مذكرا الحضور أن المهاجرين المسلمين أقاموا فيها بسبب الرضوخ لأصل عظيم في الحكم، وهو مبدأ العدالة. كما أكد المتدخل أن اعتبار السياق الأوروبي اليوم، ليس بِدعا في الدين، وإنما من صلب الدين، لأن المسلم الأوروبي مُطالب اليوم بأن يراعي السياق التاريخي (الزمني والمكاني) الذي يُقيم فيه، تأسيسا على مقولة شهيرة لأنس بن مالك مفادها أنه يجب "احترام السياق باختلاف الزمان والمكان". ورُبَّ معترض أوروبي عن كون الحديث عن حاجة الأوروبيين للاقتداء بالنموذج الإسلامي المغربي، قد يُسبّب قلاقل للسلطات هناك، يضيف المحاضر، لولا أن هذا الأخير، ألحّ على أن العبرة تكمن في القواعد والأصول وليس في النتائج، وبكلمة، إنها قضية منهجية في التفكير والنظر بالدرجة الأولى. من مفاجآت الندوة كانت الجلسة ما قبل الأخيرة من أبرز مفاجآت الندوة، دون أن نُقزّم طبعا من ثقل الأسماء المتدخلة في باقي الجلسات، وعندما نتحدث مثلا، عن ثلاثة أسماء، من باب التذكير فقط. الباحثة جوسلين سيزاري (Jocelyne Cesari)، وهي باحثة رصينة، وأستاذة مشاركة الزائرة في الدراسات الإسلامية بجامعة هارفرد ومديرة برنامج "الإسلام والغرب" ومؤلفة أعمال قيّمة للغاية عن الإسلام والأقليات الإسلامية في الغرب، نذكر منها "أن تكون مسلما في فرنسا اليوم" أو "الإسلام في اختبار الغرب"، وهكذا الحال مع العديد من الأسماء المشاركة. وهناك أيضا الباحث الفرنسي الصوفي إريك يونس جوفروا (Eric Geoffroy)، والذي أوجز أزمة مسلمي اليوم بشكل عام في "عدم العودة للجوهر، مقابل الانتصار للقشور"، والذي امتلك الشجاعة العلمية لتذكير الحضور، بأن حوالي 75 في المائة من الإيرانيين، لا يصلون، ونحن نتحدث عما يسمى ب"الجمهورية الإسلامية". وأخيرا، وليس آخرا طبعا، الباحث المغربي خالد حاجي، الذي أحسن صنعا عندما أوجز أزمة مسلمي أوروبا عبر الاستشهاد بمثال دال عن مهاجر ينحدر من الهنود الحمر، وصل إلى مدينة "متحضرة" مقارنة مع موطنه الأصلي، وظل جاثما بأحد الأماكن، وعندما سئل عن سبب انتظاريته الطويلة، ردّ أنه ينتظر وصول روحه بعد وصول جسده! كما انتقد حاجي غياب فكر إسلامي عميق، مؤكدا أننا نمر بفراغ معرفي مهول، وأننا بعيدون عن الانخراط في فورة النقاشات الدائرة في الغرب بعد منعطف أحداث 11 شتنبر 2001، ومنها النقاشات الدائرة حول الهوية، مؤكدا أن الهوية الأوروبية اليوم لازالت قيد التشكل، وأننا في أمس الحاجة إلى جهد كبير للانخراط في هكذا نقاشات وتحديات. خصص موضوع الجلسة التي ترأسها باقتدار خالد حاجي، للحديث عن "المرجعية والممارسات لدى النساء والشباب المسلمين بأوروبا"، وتميزت بمشاركة كل من سارة سيلفسترري (Sara Silvestri) أستاذة باحثة بجامعة "سيتي يونفرسيتي" بلندن، في موضوع "تطلعات وإمكانيات المسلمات بأوروبا"، إريك جوفروا، نتالي كاكبو (Nathalie Kakpo)، عالمة اجتماع، ميلانو، وحاضرت في موضوع "المرجعيات والممارسات لدى النساء والشباب المسلمين بأوروبا: الحالة الفرنسية من منظور دولي"، نادية فاضل، عالمة اجتماع، فلورنسا، وحاضرت في موضوع "الواقع المعاش الديني وغير الديني للشباب من أصول مغاربية ببلجيكا: ممارسات وخطابات وهويات"، وأخيرا، إحدى أبرز مفاجآت الندوة، ختيمة بوراس، أستاذة جامعية بجامعة بوخوم الألمانية. وما يجمع بين مداخلات ختمية بوراس وسارة سيلفستري ونتالي كاكبو ونادية فاضل، أننا إزاء أسماء (نسائية) علمية شابة اشتغلن على مواضيع في الميدان، وليس عبر التنظير في المكاتب المكيفة أو الأبراج العاجية، بل إن مداخلة ختيمة مثلا، كانت مرفقة بكتاب صادر في موضوع الندوة باللغة الألمانية (علمنا بالمناسبة أننا سيُترجم للعربية بالمغرب) وبالجملة، يُحسب ل"مجلس الجالية المغربية بالخارج" شجاعة طرح مثل هذا الملف الشائك على طاولة النقاش و"الاشتباك"، حتى أن الباحث السوري هاشم صالح، أشار في دردشة مع بعض الحضور أن باقي الدول العربي مطالبة بتأسيس مجالس تشبه المجلس المغربي للجالية، إذا كانت معنية بالتصدي لمثل هذه الملفات والتحديات. نعتقد أنه كان مصيبا في ملاحظته.