يعتبر البوفسور أحمد بلحوس، الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم العالي بكلية الطب والصيدلة بالدارالبيضاء، أن اللجوء إلى التلويح بسنة بيضاء يرجع بالأساس إلى النقص المهول في عدد الأساتذة، مقابل صمت الحكومة وتسويفها، دون التدخل لإنقاذ الوضع. ويؤكد البروفيسور، الذي يشغل رئيسا للجمعية المغربية للطب الشرعي، أن هذا التخصص لازال يعيش على وقع الخصاص المهول؛ ذلك أن معظم جهات المملكة لا تتوفر على طبيب شرعي، ما يدفع المحاكم إلى اللجوء إلى أطباء الدارالبيضاء لحل القضايا المستعصية. وأوضح بلحوس، في حواره مع هسبريس، أن غياب أطباء شرعيين يؤثر على صورة المملكة الحقوقية لدى المنتظم الدولي؛ ذلك أن المقرر الأممي للتعذيب أعاب إجراء خبرات طبية من طرف أطباء غير متخصصين في الطب الشرعي. قررتم مقاطعة امتحانات الأسدس الثاني في شهر ماي المقبل..ما مرد ذلك؟ قرار المقاطعة الذي سيؤدي بنا إلى سنة بيضاء لا قدر الله يأتي لوجود نقص مهول وحاد في عدد الأساتذة بكلية الطب والصيدلة. فبلغة الأرقام، إذا تمت مقارنة عدد الأساتذة بين 2005 و2017 سنلاحظ تراجعه بنسبة 38 في المائة. وبدل تعويض الأساتذة الذين غادروا الكلية، نجد أن هناك تزايدا ملحوظا للطلبة الذين يلقون تكوينا على يد الأساتذة بنسب 92 في المائة. إذا هناك نقص في الأساتذة يقابله تزايد عدد الأطباء الذين يتلقون تكوينهم، وبالتالي أصبحت نسبة التكوين البيداغوجي مخيفة جدا، إذ انتقلنا من أستاذ يؤطر 6 طلبة إلى أستاذ لفائدة 20 طالبا سنة 2017؛ مع العلم أننا نتحدث عن التكوين في ميدان حساس، وهو صحة الموطن، والذي لا يسمح بالارتجال..لذا نحن ندق ناقوس الخطر على التكوين الطبي، لأن مستقبل صحة أبنائنا في خطر إذا لم يتم تدارك الأمر. ألا ترون أن المقاطعة ستضر بمصالح الطلبة؟ قضية نقص الأساتذة لا تهمنا نحن كأساتذة بدرجة أولى، فنحن تحملنا فقط مسؤوليتنا التاريخية أمام الله وأمام الطلبة والأطباء الذين نكوّنهم. نحن ندق ناقوس الخطر فقط؛ أما قضية النقص فهي قضية أولى للطلبة والأطباء المقيمين والداخليين وفي طور التخصص، وهي القضية الأولى للمرضى؛ بالتالي لدينا قناعة تامة بكون هذا الأمر سيتفهمه الطلبة والأطباء والمرضى، وستكون قضية الجميع. في ظل تهديدكم، كيف كان تفاعل الحكومة والقطاعات المعنية؟ دعني أقول لك إننا منذ ثلاث سنوات ونحن ندق ناقوس الخطر، لكن للأسف لا نلقى إلا التسويف؛ ففي البيان السابق طالبنا المسؤولين بفتح 70 منصبا للأساتذة المساعدين لتعويض النقص في سنة 2017، ومثله في سنة 2018، لكن الجواب الذي تلقيناه هو فتح مناصب لا تتعدى أصابع اليد في 2017. أما هذه السنة فلم يتم فتح أي منصب؛ وبالتالي أمام سياسة الأذن الصماء، وعدم استجابة المسؤولين، قررنا مقاطعة الامتحانات. بصفتك رئيسا للجمعية المغربية للطب الشرعي، كيف تقيمون هذه المصلحة محليا ووطنيا؟ الطب الشرعي، تخصص حيوي وعلم يقع بين الطب والقانون؛ فكلما احتاج القضاء دليلا يترتب على البينة الطبية يلجأ إلى الطب الشرعي. دور هذا الطب مهم في جميع حالات الإيذاء بمختلف الإصابات في الجرائم والوفيات مجهولة الهوية، وتحديد المسؤولية في ما إن كان هناك خطأ طبي، وتحديد الأهلية وتقييم الأضرار البدنية، وأي جريمة تتوقف على البينة الطبية يتم فيها اللجوء إليه. الآن، هناك خصاص، لكن يمكن تجاوزه إن كانت هناك إرادة؛ فهناك أطباء شرعيون خضعوا لتكوين بدوام كامل، وتطوير الطب الشرعي في البلاد يجب أن ينطلق بفتح مناصب شغل للأطباء المقيمين. السنة الماضية أحدث 12 منصبا، وهي خطوة مهمة جدا، لأن الاستمرار في هذه الوتيرة سيمكن من تجاوز الخصاص، وسيوفر أطباء شرعيين في مختلف الجهات، حتى لا يظل هناك حرج مقارنة مع دول الجوار، مثل الجزائر التي تتوفر على عدد أكبر منا.. أما من حيث الكيف فأطباء المغرب يشهد لهم بالكفاءة. من يتحمل مسؤولية هذا النقص الحاد إذا؟ حتى أوضح مسألة مهمة، فالمنظمة العالمية للصحة، في توصياتها، تؤكد أن الطب الشرعي عنوان دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان. ونحن كجمعية نطالب بتطوير هذا التخصص الحيوي، لأننا لا نقبل أن نرمي بريئا في السجن؛ وبالتالي لضمان عدالة القضاء يجب منح هذا التخصص مكانته عبر التحفيز المادي والمعنوي، ما يعني فتح مناصب شغل كي تظل له جاذبية وإقبال من طرف الأطباء. في لقاءات عدة، تحدثت عن وجود لوبيات تتلاعب بالموتى وتستغل الفراغ القانوني، نريد توضيحا أكثر.. أين قلت ذلك؟ في لقاء سابق لجمعيتكم.. دعني أقول لك إنه حين جاء المقرر الأممي مانديز لمعاينة حالات التعذيب، اطلع على التقارير الطبية المنجزة في مزاعم ادعاء التعذيب، واعتبر أنها كانت كلها باطلة، لأنها لم تنجز من طرف أطباء شرعيين، لذا لا نريد أن توضع بلادنا في هذا الحرج. فالقضاء يجب أن تكون له تقارير طبية منجزة من طرف أطباء شرعيين قبل إصدار حكمه، ولهذا نقول إن له دورا حيويا. وأقولها، هناك محاكم لازالت تصدر أحكاما بناء على تقارير طبية غير منجزة من طرف أطباء مؤهلين، وبالتالي لا يمكن أن نظلمهم، لأن الطبيب في تكوينه الأكاديمي لم يتلق مسائل تتعلق بالطب الشرعي، رغم أن المحكمة قد تلجأ إليه في مسألة تتعلق بينتها على الظاهر الطبي، دون أن يكون له تكوين في هذا المجال. لم تجبني بعد عن سؤال تلاعب لوبيات بالموتى واستغلال الفراغ القانوني.. إلى حد الساعة هناك مشروع قانون متعلق بتنظيم الطب الشرعي، وصدوره سيجيب عن مجموعة من الأمور والإشكالات، وفي غيابه هناك مشاكل بالنسبة للمحاكم؛ ذلك أنها أحيانا لا تجد الطبيب المؤهل، بالتالي فإن القاضي قد يصدر حكما بناء على تقرير طبي غير متخصص، ويمكن أن تكون هناك تبرئة مجرم أو إدانة بريء ورميه في السجن. قلتم إن سبع جهات بالمملكة لا تتوفر على طبيب شرعي..هل هذه الإحصائيات تغيرت أم لازال الوضع كما هو؟ نحن دائما نطمح إلى ما هو أحسن، وإن كانت هناك إرادة للنهوض بالطب الشرعي فيمكن تجاوز الأمر في خمس سنوات. جهات البلاد لا تحظى بتغطية، فجهات الصحراء لا تتوفر على طبيب شرعي، وكذا جهة الشرق. ونحن نؤكد أنه بفتح مناصب شغل سنتجاوز هذا الخصاص ونغطي الجهات التي لا تتوفر عليه والمراكز الاستشفائية الجامعية؛ لكن إن لم يتم ذلك، غادي نحشمو نقارنو ريوسنا مع الجزائر وتونس وغزة التي تتوفر على عدد أكبر من المغرب. كيف يتم التعامل مع القضايا بمحاكم الجهات الأخرى التي لا تتوفر على أطباء شرعيين؟ يمكن للمحكمة أن تلجأ لأي طبيب كيفما كان اختصاصه إن اضطرت لذلك، لكن العبرة بالمضمون وليس الشكل. نحن نؤكد أن الطبيب الذي ستلجأ إليه المحكمة يجب أن يكون مكونا في المجال الذي ستلجأ إليه فيه؛ لذا فإن المحاكم في بعض الجهات "تاتعدي"، وفي جهات أخرى تلجأ إلى استشارة المركز الاستشفائي الجامعي لحل بعض القضايا المستعصية. نحن لا نريد أن جثة من العيون أو طنجة يتم تشريحها في الدارالبيضاء. نريد أن تتوفر كل جهة على موارد بشرية كافية للقيام بمهمتها، لأن غياب ذلك يخلق مشاكل حتى للمحكمة. طيب، هل يحظى هذا التخصص بنفس المكانة مقارنة وباقي المجالات؟ الطب الشرعي به عدد من المتدخلين، المفروض أن يكون هناك تنسيق بينهم؛ والنهوض به يجب أن يكون من مهام رئاسة الحكومة ووزارة العدل ووزارة الصحة ووزارة حقوق الإنسان، وباقي الجهات المعنية. هناك تنسيق الآن، لكن المشكل يكمن في التمويل؛ وبالتالي فإن وزارة العدل التي تستفيد منه عبر القضاء ملزمة ببذل مجهود كبير في ذلك، لكنها إلى حد الساعة تستفيد من خدماته في كثير من الأحيان بالمجان. نحن نطالب بأن تتم مضاعفة الجهد في التنسيق بين هذه القطاعات، من أجل إطار وطني يجمع هؤلاء المتدخلين لفرز أطباء في المستوى، مع تحفيز مادي، إذ إن الأتعاب القضائية يجب أن تعاد مراجعتها؛ فلا يعقل أن قيمة التشريح الطبي بمائة درهم، والفحص الخارجي بثلاثين درهما، وفحص جثة متعفنة تحيط بها الديدان ب150 درهما. وأنا أتحدى أي شخص يقاوم هذه الروائح لمدة دقيقة، فما بالك بطبيب شرعي يجري تشريحه في مدة تصل إلى ثلاث ساعات. هذا التخصص يجب أن تمنح له مكانته، فالطب الشرعي هو الذي سيمنحنا صورة عن العدالة بالبلد، وصورة لدولة الحق والقانون..نحن لا نريد أن يأتي مانديز آخر ويعيب علينا التقارير التي ننجزها. في ظل هذا الوضع، ألا تتلقون كأساتذة وأطباء إغراءات من القطاع الخاص؟ الإغراءات حاضرة بقوة، مقابل الإكراهات الموجودة في القطاع العام، فأزيد من 300 طبيب اختصاصي استقالوا وغادروا صوب القطاع الخاص. نحن نؤكد أننا نؤدي ضريبة لفائدة البلد من أجل الحفاظ على الطب الشرعي، ورغم تلقينا إغراءات رفضنا ذلك حتى من بلدان الخليج، لأن البلد في حاجة إلينا. ما هي أبرز المطالب بخصوص مشروع قانون الطب الشرعي الذي لم ير النور بعد؟ نعم هناك مشروع منظم للطب الشرعي، لكن نحن كجمعية نريد أجرأته وأن يدخل حيز التنفيذ بعد سنوات من بقائه كمشروع قانون. بطبيعة الحال أي مشروع به نقائص، وقد قدمنا ملاحظات على رأسها التفرقة بين طب شرعي ينظمه القانون، وصفة الطبيب الشرعي، لأن أي طبيب كيفما كان تخصصه يمكن أن تلجأ إليه المحكمة لتنويرها. لنا ملاحظات، ووزارة العدل توصلت بها، ونتمنى أن تكون هناك قوانين تنظم الطب الشرعي لأن هناك فوضى، وهامش الخطأ كبير، ومن ثمة يمكن رمي بريء في السجن أو تبرئة متهم. كيف تقيمون قطاع الصحة في عهد الوزير السابق وحاليا؟ للأسف الشديد، ليست لنا سياسة صحية واضحة المعالم؛ وبالتالي كل وزير يقوم بما يقتنع به، لأننا لا نتوفر على ميثاق صحي يحكمنا. الولاية السابقة شهدت هجوما سلبيا، عبر فتح المجال أمام المتاجرة في المواطنين بقوة القانون، وخرجات الوزير السابق طردت أطباء من القطاع العام إلى الخاص، وهجرت كثيرا من الأساتذة صوب القطاع الخاص. نحن نؤكد أنه وجب الحفاظ على القطاعين معا، فكل قطاع يكمل الآخر، لأن الهدف هو تقديم خدمات في مستوى المغاربة. هناك خصاص مهول في القطاع، أضف إلى ذلك الهجرة نحو القطاع الخاص. ومستقبلا فإن المستشفيات العمومية ستفرغ من الأطباء؛ وبالتالي فإن الخدمات ستتدهور. لذا نريد من الوزير الجديد أن يعالج ما أفسده الوزير السابق وألا يكون نسخة له. كيف تقيمون الوضع داخل "ابن رشد"؟ عادة ما نتحدث عن خصاص في المناطق المهمشة، لكن الدارالبيضاء بدورها تعاني من الخصاص؛ فمركز استشفائي وحيد لا يكفي ساكنة المدينة؛ ذلك أن هذه المعلمة لا يمكنها تلبية حاجيات كل البيضاويين وسكان النواحي. ورغم كل ذلك، يمكن القول إن المركز الاستشفائي يبذل فيه مجهود كبير من طرف الموارد البشرية؛ فبلغة الأرقام هناك أكثر من 66 ألف حالة تلج إليه سنويا، مع أكثر من 32 ألف عملية جراحية؛ لكن للأسف الشديد فإن الدور المنوط به لن يتم في ظل الشروط الحالية، وعلى رأسها تراجع عدد الأساتذة. ما هي أهم خطواتكم المستقبلية كأطباء شرعيين؟ الجمعية ستنظم مؤتمرا في ماي المقبل، وهو مؤتمر تلامس مواضيعه قضايا الساعة واهتمامات الأطباء. وقد حظينا أيضا بشرف تنظيم المؤتمر الدولي الرابع والعشرين الذي تنظمه الجمعية المتوسطية الدولية للطب الشرعي، وهو شرف كبير لبلدنا.