يعرض كتاب " المعارف السبعة الضرورية لتربية المستقبل" للمفكر الفرنسي الشهير إدغار موران ، والذي قامت بنشره منظمة اليونيسكو إسهاما منها في الحوار العالمي حول طريقة إعادة توجيه التربية نحو تنمية مستديمة، للمشاكل المركزية والأساسية التي ظلت منسية أو متجاهلة في التعليم. وكانت منظمة اليونيسكو قد طلبت من إدغار موران مدير ورئيس الوكالة الأروبية للثقافة، الذي خصص جزءا مهما من أبحاثه لمشاكل المعرفة، التعبير عن أفكاره حول تربية المستقبل في علاقتها ب"إصلاح الفكر" ، والتي يعتبرها ضرورية ومستعجلة. ويقدم هذا النص تركيبا يضم كل أفكار هذا المفكر الفرنسي حول التربية وذلك في سياق رؤيته ل"وحدة المعرفة". وفي هذا السياق يقترح الكتاب ، الذي نشرت ترجمته العربية دار توبقال المغربية باتفاق مع اليونيسكو، سبع معارف "أساسية" يتحتم على كل تربية للمستقبل أن تتناولها في كل مجتمع وفي كل ثقافة ، بدون أي استثناء، ولا إقصاء، وذلك بحسب القواعد والطرق الخاصة بكل مجتمع وبكل ثقافة. وتتمحور هذه المعارف السبعة الضرورية في "أنواع العمى المعرفي : الخطأ والوهم"، حيث يعتبر موران في هذا الفصل أن التربية التي تهدف إلى توصيل المعرفة تظل جاهلة بماهية المعرفة الإنسانية وبآلياتها وحدودها وصعوباتها ونزوعها الطبيعي إلى الخطأ والوهم.كما أنها لا تبذل أي مجهود لتعرف بماهية المعرفة. وبالنظر إلى أنه لا يمكن بتاتا اعتبار المعرفة أداة جاهزة بالإمكان استعمالها دون فحص طبيعتها ، يدعو موران بشكل ملح إلى معرفة المعرفة كسلاح في مواجهة الأخطار الدائمة للوقوع في الخطأ والوهم اللذين لا يتوقفان عن التشويش على العقل الإنساني، وكذا إدماج وتطوير دراسة الخصائص الدماغية والذهنية والثقافية للمعارف الإنسانية، إضافة لمساراتها وأنماطها وتدابيرها النفسية والثقافية المسؤولة، في أحد وجوهها، عن نزوعها إلى الخطأ والوهم. وتتمثل المعرفة الأساسية الثانية التي يتعين الأخذ بها في المستقبل في "مبادئ المعرفة الملائمة"، والتي تتعلق بضرورة بناء معرفة قادرة على تمثل المشاكل الشمولية والجوهرية في أفق دمج المعارف الجزئية والمحلية داخلها. ويرى موران أنه غالبا ما تؤدي هيمنة المعرفة المجزأة تبعا لاختلاف المعارف إلى العجز عن الربط بين الأجزاء والكليات، وانطلاقا من ذلك يؤكد أنه يتعين على مثل هذه المعرفة أن تترك المكان لمعرفة قادرة على تمثل مواضيعها داخل سياقاتها ومركباتها وإطاراتها، وتطوير القدرة الطبيعية للفكر البشري على موضعة معارفه داخل سياق وإطار محددين، وكذا تدريس المناهج التي تسمح بتمثل العلاقات والتفاعلات بين الأجزاء والكل داخل عالم مركب. أما المعرفة الثالثة الأساسية فتتمثل في "تعليم الشرط الإنساني"، ويعتبر موران في هذا الإطار أن "الإنسان هو ، في الوقت ذاته، كائن فيزيائي وبيولوجي ونفسي وثقافي واجتماعي وتاريخي. وهذه الوحدة المركبة للطبيعة الإنسانية هي ما يعبث بها التعليم في مختلف المواد الدراسية. وبفعل هذا التشتت، أصبح من المستحيل اليوم تعلم ما يعنيه الكائن الإنساني، هذا في الوقت الذي صار فيه من الملح جدا، بالنسبة لكل فرد، أينما كان، أن يعي الطابع المركب لهويته ولهويته المشتركة مع الآخرين". ومن هذا المنطلق يشدد موران على أنه يتعين على التعليم أن يجعل من الشرط الإنساني موضوعه الجوهري، ويبين كيف يمكن، انطلاقا مما توفره المعارف الحالية، الاعتراف بوحدة الإنسان وبطابعه المركب من خلال لم وتنظيم المعارف المشتتة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والأدب والفلسفة، ويوضح هذا الفصل كذلك التعالق القوي بين وحدة وتنوع كل ما هو إنساني. وتتعلق المعرفة الأساسية الرابعة ب" تعليم الهوية الأرضية" حيث يعتبر المصير الكوكبي البشري- وهو المصير الذي لم يكن أبدا كوكبيا مثلما هو عليه الآن- الغائب الأكبر عن التعليم. ومن هنا يجب أن تصبح المعرفة بمستجدات العصر الكوكبي والاعتراف بالهوية الأرضية إحدى المواضيع الجوهرية للتعليم إضافة إلى ضرورة تعليم تاريخ العصر الكوكبي الذي بدأ مع تواصل القارات فيما بينها إبان القرن السادس عشر ، مما ينبغي معه تبيان كيف أصبحت جميع مناطق المعمور متداخلة ومتضامنة فيما بينها دون إغفال أنواع الاضطهاد والهيمنة التي دمرت ولا زالت تدمر حتى الآن البشرية جمعاء. كما يلح موران في هذا الفصل على الطابع المركب للأزمة الكوكبية التي ميزت القرن العشرين لكي يبين كيف أن البشر يشتركون منذ الآن في نفس مشاكل الحياة والموت ويعيشون مصيرا مشتركا واحدا. وتتمثل المعرفة الخامسة الأساسية في "مواجهة اللايقينيات" ويرى موران في هذا الفصل أن العلوم قدمت لنا مجموعة من الحقائق اليقينية بقدر ما كشفت لنا، خلال القرن العشرين، عن عدد لا يحصى من اللايقينيات التي ظهرت في قلب العلوم الفيزيائية (الميكروفيزياء، الدينامية الحرارية، الكوسمولوجيا) وعلوم التطور البيولوجي والعلوم التاريخية. من هذا المنطلق يؤكد على ضرورة تعليم مبادئ الاستراتيجية التي تمكن من مواجهة المحتمل واللامتوقع واللايقيني، حسب المعلومات المحصل عليها أثناء القيام بفعل ما والعمل على تغيير مسار تطورها، وضرورة تعلم الإبحار في محيط اللايقينيات عبر أرخبيلات من اليقين. مضيفا انه "يجب أن يشكل التخلي عن التصورات الحتمية للتاريخ الإنساني (وهي التصورات التي تقول بإمكانية التنبؤ بالمستقبل) وفحص الأحداث والطوارئ الكبرى لقرننا التي كانت كلها غير متوقعة والطابع المجهول من الآن للمغامرة البشرية مدخلنا الأساس إلى ممارسة فضيلة توقع اللامتوقع لمواجهته بشكل أفضل. وعلى أولئك الذين جعلوا من التعليم مهمتهم في الحياة أن يكونوا في الخطوط الأمامية لمواجهة لا يقين عصرنا". وفي الفصل السادس المتعلق ب"تعليم الفهم" ، يعتبر موران أن الفهم يشكل في الوقت ذاته وسيلة التواصل الإنساني وغايته. والحال أن التربية على الفهم غائبة كليا عن مختلف أنواع تعليمنا.إن كوكبنا يتطلب أنواعا من الفهم المتبادل في جميع المستويات التربوية وكل المراحل العمرية، يقتضي تطور الفهم إصلاحا للعقليات. وهذا أحد الرهانات الكبرى للتربية في المستقبل. ويقول في هذا الصدد أن التفاهم بين البشر، بغض النظر عن كونهم أقرباء أو غرباء عن بعضهم البعض، أصبح أمرا حيويا لكي تتحرر العلاقات الإنسانية من الوضعية الوحشية التي يسبب فيها اللاتفاهم. ومن هنا ضرورة دراسة جذور وأنماط ونتائج اللاتفاهم (وليس فقط أعراضه). يجب ، بالفعل، التوجه إلى جذور العنصريات وكره الأجانب والاحتقار. وبإمكان مثل هذه الدراسة أن تشكل في نفس الوقت الأسس الأكثر ضمانة للتربية على السلام. ويرى موران في الفصل السابع المتعلق ب" أخلاق الجنس البشري"، أن التعليم يجب أن يفضي إلى "أنتروبو-أخلاقية" من خلال الأخذ بعين الاعتبار الطابع الثلاثي الأبعاد للشرط الانساني، أي كونه، في الوقت ذاته ، الفرد ↔ المجتمع ↔ النوع. بهذا المعنى ، تفترض أخلاق الفرد المجتمع مراقبة متبادلة للمجتمع من قبل الفرد وللفرد من قبل المجتمع، أي تفترض الديمقراطية. وتتطلب الأخلاق الفرد ↔ النوع، في القرن الواحد والعشرين، التضامن الكوكبي. ويدعو في هذا السياق إلى ضرورة ترسيخ الأخلاق في العقول عبر تعليم الوعي بكون الإنسان هو في الوقت ذاته فرد وجزء من مجتمع وجزء من نوع. "إن كل واحد منا يحمل داخله هذا الواقع الثلاثي الأبعاد. لذلك فأفضل تقدم يمكن أن يحققه البشر هو تطوير أنواع استقلالية الفرد والمساهمات الجماعية والوعي بالانتماء للنوع البشري". ويخلص موران إلى أنه من هنا تتضح الغايتان الأخلاقيتان السياسيتان الكبيرتان للألفية الجديدة: ألا وهما بناء علاقة المراقبة المتبادلة بين المجتمع والأفراد عن طريق الديمقراطية وتحقيق البشرية كجماعة كوكبية مما يحتم على التعليم المساهمة أيضا بترجمة هذا الوعي في إرادة تضع هدفا لها تحقيق المواطنة الأرضية. *صحفي وكالة المغرب العربي للأنباء.