حين تتم الإشارة للجزيرة،أول ما يتبادر إلى الذهن، القناة الإخبارية التي أصبحت أشهر من نار على علم كما يقال.والنقد،سواء كان مديحا مبالغا فيه أو ذما وتشويها ومعاداة،يتوجه بداية إلى الخط التحريري،في شقه الإخباري بالدرجة الأولى.وهي نظرة تنقصها الكثير من الموضوعية والحياد.فالجزيرة أصبحت "إمبراطورية إعلامية" بامتياز،لقد تجاوزت مستوى القناة الإخبارية التي تقتصر مهمتها على نقل الأحداث وتحليلها وإبداء مختلف وجهات النظر بخصوصها.لقد تنوعت خدمات الجزيرة،أصبحنا أمام "جزيرات" ،لكل جزيرة وظيفتها ومهامها وتخصصاتها ،فهناك الجزيرة الرياضية والجزيرة الوثائقية والجزيرة مباشر وجزيرة الأطفال والجزيرة الرياضية التي تتفرع بحد ذاتها لعدد من القنوات والجزيرة الناطقة باللغة الإنجليزية ... ولسنا ندري ما يقوله متتبعو هذه الأخيرة بالإنجليزية. هذه المقالة،للتوضيح ستتعمد المضي على طريق الخطأ نفسه الذي ارتكبه الناقدون من قبل،أي الاقتصار على قناة الجزيرة الإخبارية،وذلك لأن أهم ما يشغل الرأي العام العربي هذه الأيام،والرأي العام المغربي جزء منه،هو الحدث السياسي الأهم ،المتمثل في الثورات العربية.هذه الثورات ،بقدر ما خدمت قناة الجزيرة وجعلتها مصدر الأخبار الرئيسي،وهناك من ذهب لحد اعتبار تغطية الجزيرة سببا من أسباب هذه الثورات و وقودا إضافيا لتأجيجها ،فمع توالي الأيام بدأت تظهر بوادر ثورة من داخل القناة على خطها التحريري وتعاطيها مع مختلف الثورات.لكن لماذا التركيز فقط على أسلوب الجزيرة في تغطية الثورات؟ لماذا تسليط الضوء على الاستقالات خاصة في هذه الفترة الاستثنائية من تاريخ المنطقة العربية ؟ لنبدأ من البداية .. 1- خلية نحل ضجيجها يبلغ الآفاق مما روي عن طيب الذكر (وربما يرى عشاق الجزيرة غير ذلك)الرئيس المطاح به حسني مبارك أنه لما رأى بناية الجزيرة المتواضعة بالمقارنة مع كبريات المؤسسات الإعلامية المعروفة ،قال ما مضمونه : أكلُّ هذا الضجيج صادر عن خلية النحل هذه ؟ والحقيقة أن الثورة التي أحدثتها قناة الجزيرة في الإعلام العربي منذ تأسيسها في أواخر سنة 1996 ،وطريقتها في تنويع إشهاراتها ،والأصوات المتميزة التي طبعت مسيرتها إلى الآن،وما أدت إليه من نقاشات وصراعات واتهامات ... كلها عوامل توحي بأن تكون البناية ضخمة جدا وبمواصفات استثنائية.لكن الظاهر أن سيادة الرئيس رأى بناية بسيطة وأثرا كبيرا،فلم يستطع أن يجمع بخياله الرئاسي بين الأمرين.فماذا عساه يقول الآن لو سئل عن القناة نفسها ؟ ما هي وجهة نظره فيما يردده أنصاره بأن قناة الجزيرة كانت حاقدة على الرئيس وسياساته خاصة في علاقته بالفلسطينيين والإسرائيليين ؟ المؤكد،مهما يكن موقف المتتبع من قناة الجزيرة،أنها فعلا استطاعت أن تجعل صوتها عاليا مرتفعا بحيث يصل إلى أبعد بقاع العالم.وهو ما جعلها أيضا أقوى علامة تجارية عربية تنافس باقي العلامات التجارية التي لها صيت كبير على الصعيد العالمي.فلم يكن الرئيس مخطئا في توصيفه إذا،وربما لم يكن مصدقا أصلا.لأن الإعلام كان دائما صناعة غربية.وكانت القنوات ومحطات الإذاعة الغربية ،من قبيل ال BBC و CNN المصدر الرئيسي للأخبار في كل أنحاء العالم.فكيف يعقل أن تتبوأ قناة الجزيرة نفس المكانة العالمية وتنافس غيرها من القنوات والمؤسسات في الريادة والشهرة؟ أعتقد أن قناة الجزيرة الفضائية استفادت من عامل الزمن،وكونها الأولى من نوعها داخل البلاد العربية جعلها تشد الأنظار إليها بداية ،خاصة وقد استفادت من كوادر وطاقات بشرية مدربة جدا .فقد ( تزامن إنشاء الجزيرة تقريبًا مع إغلاق القسم العربي لتلفزيون هيئة الاذاعة البريطانية (المنشأة بالاشتراك مع السعودية) في نيسان/أبريل 1994، بعد سنتين من قيامها بسبب الرقابة التي طالبت بها المملكة العربية السعودية، فانضم للجزيرة العديد من العاملين في المحطة البريطانية. والجزيرة الآن جزء من شبكة الجزيرة) أنظر ويكبيديا. الخطاب الإعلامي الذي تبنته قناة الجزيرة،والذي تميز بجرعات زائدة في تناول كثير من القضايا العربية،كان سببا رئيسيا في توسع قاعدة جمهورها في مجموع الدول العربية.لقد تعود المواطن العربي على سماع نشرات إخبارية باردة جدا،ومكرورة جدا حد الملل.وفي مجملها تتركز حول الحاكم وحاشيته الضيقة. إن الصدمة التي أحدثها الخطاب الإعلامي لقناة الجزيرة في وعي المواطن العربي كانت كفيلة بجعله ينشد لهذه القناة،مادامت هي أول قناة تتبنى هذا الخطاب المتميز و المُباين لكل الخطابات الإعلامية السابقة.وإذا كان هناك من يتهم الجزيرة بتسطيح الوعي وتبني الشعبوية والديماغوجية على حساب معايير الإعلام المحايد والجاد.فإن هناك من يرى العكس،وينسب إلى الجزيرة الفضل في الارتفاع بمستوى وعي رجل الشارع العربي ناهيك عن النخب والمثقفين والإعلاميين.وطبعا لكل وجهة نظر أنصارها والمدافعون عنها بشتى الحجج.لكن المجمع عليه،أن تأثير قناة الجزيرة كان كبيرا،سواء في الاتجاه الإيجابي كما يقول المدافعون.أو في الاتجاه السلبي كما يتهمها الناقمون والمنتقدون. طبعا سيكون من قبيل التبسيط والاختزال المخل بالتحليل والنظرة الموضوعية،القول إن كل أسباب النجاح الذي حققته الجزيرة،أو لنقل الانتشار حتى نبقى على جانب الحياد مرده إلى قاعدة : خالف تعرف.فهناك قنوات مخالفة لما هو سائد إلى حد التطرف،ومع ذلك فإن نسبة مشاهدتها تبقى محدودة جدا إذا ما قورنت بقناة الجزيرة.أي أن هناك أسبابا حقيقية تقف وراء هذا الانتشار الكاسح.ربما يكون اعتماد القناة على بعض النجوم الإعلاميين سببا من بين هذه الأسباب،لكنه ليس الوحيد.وبناء عليه،فإن استقالة بعضهم،لن يكون لها تأثير كبير على جماهيريتها وسمعتها ومكانتها بين باقي القنوات،خاصة العربية منها. 2- المواطن العربي يفاجأ أن هناك " الرأي والرأي الآخر" إن من أخطر الأمراض التي أصابت الثقافة العربية زمنا طويلا،هو مرض الإجماع.ربما يتساوى العرب فقط مع الشعوب التي حكمتها أنظمة شمولية واستبدادية في القول، إلى درجة الإيمان عند بعضهم،بالإجماع.وإلى يومنا هذا مازال كثير من الفقهاء والمثقفين وصناع الرأي يرددون دون كلل ودون تفكير أيضا : أجمعت الأمة على كذا ... وأجمع العلماء على الأمر كذا.وأصبح كل من يسعى لكي يُكسب فكره ووجهة نظره شيئا من القداسة،يسارع إلى القول بأن ما يراه هو مما أجمعت عليه الأمة أو العلماء أو كبارهم على الأقل. هذه الآفة كان أثرها وبيلا يوم أصبحت السياسة ، ولن تكون السياسة إلا نتاجا للثقافة السائدة،تدار أيضا بمنطق الإجماع.فأصبح شخص الحاكم شبه مقدس إن لم يكن فعلا مقدسا.ومما زاد في طنبور الإجماع نغمة هو تلك البدعة التي جاءت بها النظم الثورية التي لم تكن تسمح للشعوب العربية أن تخرج عن قاعدة الإجماع ولو بنسبة واحد بالمائة. إن المفارقة التي عاشها طويلا عالمنا العربي هو الاختلاف بين النظم الثورية أو المارقة،والنظم التقليدية أو الرجعية حول كل شيء تقريبا وإجماعها الغريب على بدعة الإجماع.كأن الحاكم العربي لا يهدأ له بال ولا يمكنه أن يحكم البلد إلا إذا فوضه كل الناس وكانوا على قلب وعقل رجل واحد هو قلب الحاكم الحديدي وعقله الاستثنائي !. إن بدعة التصويت لإعادة انتخاب الرئيس أو الموافقة على الدستور الذي يضعه الملك أو الأمير بنسبة 100 % جرت الويلات على عالمنا العربي وشدته إلى الخلف عقودا طويلة.لأن سنة الله في خلقه هي الاختلاف وتباين وجهات النظر،وبهذا يكون الإبداع والتجديد والتدافع.وفي القرآن الكريم نقرأ آية معبرة جدا تضرب بدعة الإجماع في أساسها،وهي قوله تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ،إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إن الاختلاف سنة كونية،في كبريات الأمور كالعقائد والأديان،وفي الأمور الصغيرة والثانوية كالآراء ووجهات النظر حول جميع المواضيع.وكل ما يقال عن الإجماع هو من ادعاءات الإيديولجيات القسرية ليس إلا.ولقد سعى الإعلام العربي في مجموع الأقطار العربية إلى تنميط وجهات النظر وتسطيح الوعي،فتم تكريس وجهة النظر الوحيدة،هي وجهة نظر النظام الحاكم.وهو ما جعل القطاع العريض من الجماهير العربية يتلقى الأخبار والمعلومات من مصدر واحد،هو إعلام الدولة بكل تلاوينه.خاصة قبل انفتاح الفضاء وثورة الأنترنيت. كان ظهور الجزيرة ،بشعارها المعروف ( الرأي والرأي الآخر ) صدمة قوية ومفاجأة كبرى للمواطن العربي،خاصة من يعتمد المحطات الإعلامية ( إذاعة وتلفزة ) مصدرا وحيدا للمعلومات والرأي والأخبار.أنا أستثني هنا النخبة التي تعودت على وجهات نظر أخرى مغايرة،إنما تركيزي على القطاع العريض من الشعوب العربية،خاصة تلك التي تكبلها آفة الأمية ولا تسمح لها بالاجتهاد بعيدا في البحث عن وجهة نظر مغايرة،بل تكتفي بالمادة المقدمة من طرف وسائل الإعلام الحكومية. شيئا فشيئا بدأ هذا المواطن يسمع الرأي والرأي المخالف.وأصبح يشاهد بعينيه اللتين في رأسيه من يطعن بصوت مرتفع في شرعية النظام الحاكم ويدلي بالحجج،وهو ما كان يعرض صاحبه إما للسجن أو القتل أو النفي.أي أن الإجماع أصبح مجرد حكاية سخيفة.إن هناك رأيا آخر له شرعيته وله قوته ومكانته.وهو ما كان بمثابة القطرة التي سيكون لها ما بعدها.وليس بعدها إلا سيول جارفة وأمطار طوفانية جرفت عروشا لطالما تغنى من جلسوا فوقها بالإجماع والوحدة ولا صوت يعلو فوق صوت معبود الجماهير.فهل تصمد الجزيرة أمام خلافاتها هي ؟ هل تقبل الرأي الآخر بين أروقتها أم تنسج خطها التحريري من جديد على شاكلة الأنظمة التي تنتقدها صباح مساء ؟ 3- الاستقالات هل هي نزيف أم ضخ لدماء جديدة؟ الاستقالة هي جزء من الأعراف الراسخة والثابتة في العمل السياسي والإعلامي ،وباقي الأنشطة الإنسانية الأخرى،في كثير من دول العالم،وخاصة الدول الغربية.ولذلك يتلقى الناس هناك نبأ كثير من الاستقالات كما يتلقون أنباء الرياضة والنشرات الجوية.لقد أصبح معروفا أن كل من لا يوفق في تحمل مسؤوليته أو تعترض سبيله صعوبات لا يستطيع تجاوزها،يختار أسهل طريق للحفاظ على صورته كما هي منطبعة في أذهان الكثير من الناس ،وهي الاستقالة. صحيح،قد تكون الاستقالة أحيانا بمثابة زلزال سياسي كما هو الشأن بالنسبة لبعض الرؤساء،ومع ذلك فهي ليست مستحيلة أو غير واردة بالمرة.وهو ما يدل فعلا على أن كثيرا من المسؤولين والإعلاميين والسياسيين هم من يملكون قرارهم بأيديهم،ولا يشعرون إلا برقابة الناخبين والمواطنين.فإذا أساؤوا التصرف في مسؤولياتهم بادروا إلى الاستقالة،وفي ذلك اعتذار وتكفير عن الخطأ. أما السائد عندنا فإن الرئيس أو الحاكم لا يستقيل ولا يخلي مكانه لغيره إلا ميتا أو مطاحا به.وهو نفس الموقف الذي يسير عليه باقي المسؤولين والإعلاميين والسياسيين من درجات أقل.فإذا حدث أن استقال أحدهم،فمعنى هذا أن زلزالا رهيبا أو تسونامي خطيرا أصاب المؤسسة . لقد استقال مذيعون ومراسلون وعاملون بقناة الجزيرة من قبل،ولم يكن لاستقالاتهم الصدى نفسه الذي سببته الاستقالات الأخيرة التي حدثت في غمرة الثورات العربية .وهو ما يعني أن سبب الاستقالة في حد ذاته أكبر من حجم الشخص المستقيل.هذا من جهة،ومن جهة أخرى فواضح أن الأطراف التي "تكيد" لقناة الجزيرة هي التي تضخم حجم الاستقالات وتسلط عليها كثيرا من الأضواء،بل أصبحت الاستقالة دليل قومية ووطنية وانخراط في صف الممانعة والمقاومة كما عبر عن ذلك بعض الإعلاميين السوريين والقوميين خاصة.وهو ما يعني مرة أخرى أن هناك خلطا فظيعا بين إملاءات الإيديولوجيا والواجب المهني والإعلامي على الخصوص. أعتقد أن تجربة قناة الجزيرة ورسوخ فكرة المؤسسة على حساب فكرة الفرد أو النجم ،واكتساب المحطة لشهرة تفوق أكثر نجومها شهرة ونجومية ..كلها عوامل لن تجعل الاستقالات الأخيرة ذات مفعول سلبي على القناة .ربما يكون هناك نقص أو فراغ لا يمكن ملؤه بسرعة،لكن المؤكد أن المؤسسة لن تتأثر كثيرا.وهو ما عبر عنه المدير العام السابق للقناة السيد وضاح خنفر في رسالة استقالته التي ختمها بقوله : (ولأن الجزيرة قوية بمنهجها، ثابتة بانتماء أبنائها، راسخة في مؤسستها، محروسة بوعي مشاهديها، لا تتغير بتغير موظف ولا مدير، ولأن ثمانية أعوام من العمل الإداري كافية لتقديم ما لدى القائد من عطاء، وأن مصلحة المؤسسات كما هي مصالح الدول، تحتاج إلى تداول وتعاقب، فتحا لرؤى جديدة، واستجلابا لأفكار مبدعة، فقد كنت قد تحدثت مع رئيس مجلس الإدارة منذ زمن عن رغبتي في أن أعتزل الإدارة عند انتهاء السنوات الثماني، وقد تفهم مشكورا رغبتي هذه، فها أنا ذا اليوم أمضي من موقعي إلى ميدان آخر جديد، أستلهم فيه روح الجزيرة ورؤيتها، وأنقل ما تحصل لي من تجربة وخبرة، مستمرا في الدفاع عن الإعلام الحر النزيه، منافحا عن أخلاق المهنة وميثاقها ). إن استقالة بعض الرموز الكبيرة ( غسان بن جدو ، لونة الشبل ، سامي كليب ... ) ربما يكون بمثابة نزيف له شيء من الآثار السلبية على القناة.لكن بالمقابل فهي فرصة لضخ دماء جديدة،وإتاحة الفرصة لأصوات أخرى كي تثبت حضورها،وتعبر عن مستواها الحقيقي. إن المطلوب هو الحفاظ على الخط التحريري المنبني على معايير المهنية والموضوعية والحياد فعلا.وأظن أن المشاهد العربي أصبحت لديه القدرة كي يميز بين الإعلام الجاد الذي يحمل فعلا رسالة إعلامية هادفة ،والإعلام الموجه الذي تحكمه أجندات خفية.ولذلك فلا خوف على هذا المشاهد من استقالة هنا أو هناك،أو حتى زلة هنا أو هناك. المواطن،وقد صقلته الثورات العربية وزادت من منسوب وعيه السياسي والإعلامي،أصبح هو الحكم.والإعلام مطالب أن يساير هذا الوعي ويحرص على موضوعيته وقيمه ... ومن استقال ،فذلك خبر كباقي الأخبار. [email protected]