الجزيرة نموذجا كانَ جُلُّ الإعلام العربي ، وخاصة مؤسساته الرسمية في مجموع البلاد العربية،سادِراً في وهمه مطمئنا إلى طريقته التبسيطية في تناول الأخبار ونقل المعلومات.وفي كثير من الأحيان تتركز نشرات الأخبار حول أنشطة رأس الدولة.أما باقي الأخبار فيَمُرُّ عليها مقدم النشرة مرور الكرام.بل وصل الأمر ببعض القنوات إلى أن تركز حين استقبال هؤلاء الزعماء بعضهم لبعض على التفاصيل المملة التي لا تفيد المشاهد في شيء،بل تحرق أعصابه،من قبيل عناق المضيف وضيفه ... وربما تقبيله. بقي هذا الإعلام غارقا في سباته،مستكينا لأساليبه العتيقة، « نائما في عسله» .حيث أصبحت النشرات موضوع تنذرات ونكات ومهازل.وليس عجيباً أن ترى نفس الوجوه،ونفس الديكور والمشاهد،بل ونفس النبرة الصوتية وتقطيب الوجه والحواجب .تصوروا كم جنت قناة مزركشة باللون الأخضر والأصفر الباهت على الشعب الليبي قرابة نصف قرن .لا حديث إلا عن الكتاب الأخضر والأخ القائد والجماهيرية الاستثنائية في تاريخ البشرية، والكلمات السافلة التي تعرفونها ولا داعي لذكرها. لا أريد أن أرسم نفس الصورة النمطية للإعلام العربي المرئي،لأن التعميم في حد ذاته نوع من التضليل،ولأنني غير مطلع على جميع القنوات بتفصيل ،ولكن الإطار العام والحدود المرسومة سلفا هي نفسها تقريبا.ومع انفتاح الفضاء اكتشفنا كمّاً كبيرا من الغُثائية وخوردة من الفضائيات،لا تخجل من الترويج للرقص الهابط والغناء المبتذل والشعودة والتطرف وكثير من الأضاليل والأباطيل. هذا الإعلام ،هو الذي أطلق بعض المتتبعين على واحد من فرسانه في المغرب، لقب مسقط الطائرات.وهو نفسه لا يخجل من هكذا وصف. وفجأة ظهرت قناة الجزيرة ، لتصبح فعلاً لا قولاً ،علامة بارزة ومحطة فارقة بين مرحلتين متباينتين من تاريخ الإعلام المرئي في العالم العربي.لقد أصبحت هذه القناة،التي من المفترض أن تتابع تطور الأحداث، وتساعد على فهم ما يجري ويدور في مختلف بقاع العالم،أقول أصبحت في حدِّ ذاتها حدثا لا يُمكِنُ القفزُ عليه حين تناول موضوع الإعلام.بل أصبحت حدثا شبه يومي. الجزيرة حين تمدحها أطراف متناقضة لكن الجزيرة التي أسالت، إلى اليوم، مداداً كثيراً.ولم يتبيّن متابعوها ، موالين ومعارضين، على أي عقيدة يوالون هذه القناة أو يعارضونها لحد الآن.وأكيدٌ سيزداد الخلاف حِدّةً،وستزداد المواقف تباينا ،بعد ربيع الثورات العربية.فكثير من المحللين ،وخاصة المقربون من الأنظمة العربية المهددة بالثورات والانتفاضات الشعبية أو تلك التي أصبحت جزءاً من ماضي الشعوب،يرون في قناة الجزيرة طابورا خامسا ومُحَرضا للجماهير،ويكيلون لها كثيرا من التهم ليس أقلها الشعبوية والغوغائية وإذكاء الطائفية وتهديد أمن المجتمعات العربية. بالمقابل،هناك فريق آخر من المحللين والمراقبين،الذين لا يملون من الثناء على الجزيرة ونُصرتها للقضايا العادلة،وتَحلِّيها بالمِهنيّة والاحترافية والموضوعية واحترام الرأي والرأي الآخر، كما تُذَكِّرُ القناة نفسُها مشاهديها بذلك،على رأس كل ساعة تقريبا.ويُعتبر قتل بعض العاملين بهذه القناة في بعض بؤر التوتر،وخاصة بالعالم العربي،صكَّ حياد وضريبةَ دم، توظفهما الجزيرة للرفع من شعبيتها ومنح مواليها الحجج القاطعة على مهنيتها.فلا يموت إلا من كانت مبادئُه توجهه، وقيمُه ترسم له سبيل الحياد. يزداد الأمر التباسا،وتتباين وجهات النظر أيضا حول قناة الجزيرة،حين تتعرض للتقييم من قِبَلِ طرفين نقيضين.أو على الأقل لا يمكن التوفيق بين وجهات نظرهما في كثير من القضايا والأمور الأخرى .والغريب أن يُجْمِعَ هذان الطرفان على الإشادة بالجزيرة.أبرز مثال على ذلك هو ما صرحت به هيلاري كلنتون مؤخرا ،حيث قالت بإن قناة "الجزيرة" أصبح لها جمهور كبير ،ولم يفتها أن تثني على قدرة "الجزيرة" على تقديم "أخبار تلاحق الزمن" بينما كانت نظيراتها الأمريكية مثل "سي إن إن" و"إم إس إن بي سي" وفوكس نيوز" ترهق أسماع وأبصار مشاهديها ب "ملايين الإعلانات التجارية ومناظرات بين شخصيات عامة، ولا تقدم لنا نحن مادة إخبارية مفيدة..ناهيكم عن الأجانب". في نفس الوقت،فإن الجزيرة هي لسان حال الشيخ يوسف القرضاوي،وعبر هذه القناة يبث برامجه الحوارية ويصدر فتاواه ويوجه نداءاته سواء بصفته فقيها أو بصفته رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.ولعل فتواه بإهدار دم القدافي على الهواء مباشرة،ستبقى أشهر فتوى للشيخ،وستجر عليه طوفانا من الانتقادات،وطبعا على قناة الجزيرة.وأُذَكّرُ أن الإدارة الأمريكية في عهد بوش سربت تهديدات بقصف قناة الجزيرة، ومع ذلك تفتح الجزيرة الفضاء أمام مسؤولي هذه الإدارة وقادتها العسكريين كي يتحدثوا عن قصف العراق وأفغانستان وباكستان .وفي نفس النشرة قد تبث أشرطة لقادة (القاعدة) وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. أكيد أن المُروجين لفكر المؤامرة والأجندات الخفية لا يمكنهم التوفيق بين مثل هذه المواقف.وكل توفيق سيكون قفزا على الوقائع وجمعا بين المتناقضات. قناة يهدد بوش بقصفها،ومنها تمرر وزارة الدفاع الأمريكية بياناتها ، وتبث (القاعدة) عبر شاشتها أشرطَتَها ،وتمتدح وزيرة الخارجية الأمريكية السيدة هيلاري كلنتون أخبارها التي تلاحق الزمن.ويفتي الشيخ القرضاوي وينشر بياناته ويتلو أدعيته من خلالها ، وتظهر نساء متبرجات –وبلغة أخرى-سافرات في إشهاراتها ، كيف يمكن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من خط تحريرها ؟. لا بأس من ضرب أمثلة أخرى ليتوضح الأمر أو ليزداد الالتباس أكثر. فهي بقدر مناصرتها للقضية الفلسطينية واعتمادها مراسلين من فلسطين لا يخطئ المتتبع أن لغتهم،مهما نحت إلى الحياد،فإن مأساة الشعب الفلسطيني تغطي على هذا الحياد ،وتصطبغ تقارير المراسلين وملامحهم بغير قليل من الحزن.ولا عجب أنه إلى يوم الناس هذا، لم تؤخذ لقطة واحدة ل شيرين أبوعقلة ،المراسلة الفلسطينية المعروفة،وهي تبتسم، ولو مجرد ابتسامة يتيمة.ولذلك فالجزيرة متهمة من قبل الكيان الصهيوني بموالاتها للجانب الفلسطيني على حساب الموضوعية والمهنية.في نفس الموضوع، تتعرض الجزيرة لانتقادات حادة وسيل من الكتابات التي تُتْبِثُ ، بما لا يدع مجالا للشك ، أنها قناة التطبيع بامتياز وأنها كانت النافذة التي سمحت لكثير من وجوه الإجرام والقتل في هذا الكيان كي تلج كل بيت عربي يلتقط بث هذه القناة.ورغم أن حزب الله يمتلك قناة لها صيتها، وهي قناة المنار،فإن الشيخ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، ما كان له أن يوصل خطاباته بالشكل المعروف،لولا بثها عبر قناة الجزيرة.ونفس الشيء بالنسبة لقادة حماس الذي ألِفَ المشاهِدُ وجوههم من خلال الجزيرة.وبسبب ذلك،تتعرض القناة لهجومات من قبل فتح و من قبل الكيان الصهيوني.وهو ما يؤكد أن قناة الجزيرة سيزداد التباين بشأنها وتختلف وجهات النظر حولها أكثر فأكثر. الجزيرة و الثورات العربية،أية علاقة ؟ إن الثورات العربية التي أصبحت أهم حدث في العالم منذ بداية هذه سنة 2011،غيرت كثيرا من القناعات والثوابت وأحدثت تحولات كبيرة على مستوى المنطقة العربية،كما عصفت بشعارات وأفرزت معادلات وقواعد لعبة جديدة .وأكيد أن هذه الثورات ،التي أصبحت مادة دسمة للإعلام العربي ، وخاصة القنوات الفضائية،سوف تُحدث رجاتٍ قوية ستؤثر بشكل كبير على هذا الإعلام نفسه، وتدخله بدوره مرحلة الثورة الإعلامية ،خاصة في شق البث الفضائي. إذا كان هذا التشخيص صادقا بالنسبة للإعلام العربي ككل،فماذا عن قناة الجزيرة التي تعتبر –لحد الآن-القناة الأكثر مشاهدة من طرف الجمهور العربي ؟ هل كانت سببا رئيسيا، من بين أسباب أخرى،في قيام هذه الثورات؟ أم فقط استثمرت هذه الأحداثَ وتدثرت بوشاح الثورة دون أن تثبت أنها أهلٌ لمثل هذا الشرف ؟ وهل كانت مهنية وموضوعية في تعاطيها مع الأحداث ؟ أم شابت تغطيتها مُيولات وأهواء تجاه هذا الطرف أو ذاك ؟ لماذا إذا هذه الحملات ضدها،وخاصة من طرف القدافي الذي وصل إلى حد وصفها بأوصاف غريبة عن لغة العوام فكيف بالزعماء وملوك الملوك ؟ وهل شعوب المنطقة مَدينة للجزيرة فعلا ،لأنها كانت سببا في سقوط أنظمة مستبدة ومتعفنة ؟ أم سيكون لزاما على الجزيرة أن تحفظ لهذه الشعوب جميلها، فمن دمائها وأشلائها وأجسادها المتفحمة،بَنَتِ الجزيرةُ صرحا جديدا لها بين باقي وسائل الإعلام الأخرى؟ هو جدال جديد ينضاف إلى ما سبق.وأكيد سوف يطول هذا الجدال.ولن تستقر الأطراف المتابعة للشأن الإعلامي على موقف واحد.إنه جدال يشبه،في بعض وجوهه،ما يثيره سؤال: أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة ؟.ولئن كان سؤال سبق الوجود محسوما فيما نحن بصدده،فإن حسم نوع العلاقة أو طبيعة التأثير والتأثر بين الجزيرة والثورات العربية أمر ينبغي أن يقدر بقدره دون إفراط أو تفريط.ويمكن تلخيص هذه العلاقة الجدلية في النقط الموالية. 1- القول بأن الجزيرة هي سبب نشوب الثورات في العالم العربي هو قول يشبه إلى حد بعيد الحديث عن المؤامرة والأجندة الخارجية،وما يمكن إدراجه في هذا القاموس المكررة مفرداته بصيغ مختلفة.لكنَّ نجاحَ هذه الثورات أسندته كثير من وسائل الإعلام وكان للجزيرة النصيب الأوفر،نظرا لإمكانياتها الكبيرة وكفاءة ومهنية مراسليها ونفس الشيء بالنسبة لثلة من المحللين الذين تستضيفهم في نشراتها الإخبارية، 2- إن سحب اعتماد بعض مراسلي القناة ،ووقف عملها بكثير من البلدان العربية، جعل الجزيرة تعتمد على المواطنين أنفسهم في نقل ما يجري ويدور تحت تلك الصفة التي يمكن أن تمنح لأي كان،أقصد صفة شاهد عيان.فإذا كان بعض المراسلين الذين درسوا قواعد ومناهج العمل الصحفي ينسبون إلى عدم المهنية وتغييب الاحترافية،فما بالك بمواطنين عاديين لا صلة لهم بقواعد مهنة الصحافة ؟ 3-إن القهر وجدار الصمت الذي يفرضه الإعلام العمومي على المواطن العربي ،وغياب المهنية بشكل مفضوح وتكريس وجهة النظر الوحيدة متمثلة في وجهة نظر النظام الحاكم حتى لا نقول الدولة،ينضاف إلى كل هذا الأداء البئيس والمكرور... كلها عوامل تدفع المشاهد إلى متابعة الجزيرة التي ترسم صورة مغايرة لما هو سائد في الإعلام الرسمي،شكلا ومضمونا،مع إضفاء الكثير من المحسنات على اللغة والكثير من المؤثرات على الصوت والصورة، 4-إن الإعلام الرسمي أبان عن فضائحية عجيبة وعن تقديم الولاء للنظام بدل الأخذ بمعايير الإعلام النزيه ، وكانت مصالح الأشخاص المتنفذين فوق مصالح الوطن.وبعد سقوط نظام مبارك تبين أن سياسة البلطجة كانت سياسة عامة.وتبين أيضا أن المعول عليه هو تزييف الحقائق وتكميم الأفواه وشراء الذمم.فكان أن تعاطى هذا الإعلام مع الثورة بعدائية بغيضة،وشكك من قدرة شبابها على الصمود وأطلق في حقهم تهما وأوصافا قبيحة.بل سمح هذا الإعلام لمن يدعو بتفريق الشباب بالقوة بل من يدعو إلى حرقهم في ميدان التحرير.وطبعا،وجد هؤلاء الشباب في الجزيرة ملاذا،حيث سلطت كاميراتها على ميدان التحرير وباقي ميادين الثورة،وأعطت الكلمة لكل المواطنين كي يدلوا بآرائهم دون رقابة أو حسابات .ولا مقارنة بين إعلام يحترمك وآخر يستحمرك ! 5-لقد قالوا إن التاريخ يكتبه الأقوياء.وقد كانت الشعوب في ربيع الثورات العربية هي الأقوى.وكتبت كثيرا من فصول الثورة بلسان الجزيرة.فترسخ في ذهن المشاهد أن الثورة مرتبطة بهذه القناة وليس بعوامل أخرى. سقوط أنظمة الرعب والفساد له وقع خاص وطعم متميز على مر التاريخ.لكن مع ثورة الإعلام الحديثة وتتبع الفضائيات لتفاصيل الأحداث وبشكل متواصل،أضفى على هذا السقوط نكهة خاصة وجعله أكثر درامية.ومع ذلك يبقى هذا فقط هو الجزء الظاهر،لأن لحظة السقوط قد تنسينا كثيرا من الأهوال والمصائب التي سببتها هذه الأنظمة لشعوبها،سواء كان ذلك في أقبية السجون أو في ظلام المعتقلات وتحت الأرض أومن وراء الجدران.وطبعا ، لم تكن وسائل الإعلام هناك. آخر السطر.... وكان في الجزيرة مذيعة تسمى ليلى الشيخلي،عراقية الجنسية جهورية الصوت. ومن حسن حظها ، ومن حسن حظ شعب تونس،أنها أول من أعلنت خبر هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.فتأسست صفحات على الفايسبوك من نشطاء ليبيين يطالبون بأن تتولى تقديم الفترات الإخبارية على قناة الجزيرة التي تتضمن تغطية خاصة لثورة ليبيا، تفاؤلا واستعجالا بالخلاص من طاغية أحمق.ومن قبل طالب المصريون بأن تذيع ليلى الشيخلي خبر تنحي الرئيس حسني مبارك. السؤال : كم من ليلى شيخلي نحتاج كي نتخلص من كل هؤلاء الذين تعرفون ؟؟! [email protected]