مرت الحكومة، ممثلة في وزارة الداخلية، إلى السرعة القصوى لاحتواء الوضع المتوتر في جرادة، بعدما دخل احتجاج عمال "الساندريات" شهره الرابع دون أن يصل طرفا الأزمة إلى حل توافقي ينهي حالة الاحتقان السائدة في مدينة "الفحم". واستمر تدفق المحتجين إلى شوارع جرادة حتى بعد صدور بلاغ وزارة الداخلية التي أعلنت فيه "منع التظاهر غير القانوني بالشارع العام، والتعامل بكل حزم مع التصرفات والسلوكات غير المسؤولة"؛ إذ رفض المحتجون إخلاء الساحات رافعين الشعارات نفسها التي تطالب ببديل اقتصادي في الإقليم وإطلاق سراح النشطاء المعتقلين، فيما فضّل 4 عمال الاعتصام داخل "آبار استخراج الفحم"؛ ما يُنذر بأن الوضع في المدينة الواقعة شرق المملكة مقبل على المزيد من الاحتقان. وبالرغم من سياق طرحها الذي يتسم بالضبابية وعدم الوضوح، فإن عددا من المراقبين قدّروا أن خطة "لفتيت" لمنع التظاهر في شوارع جرادة قد تساهم في تأزيم الوضع أكثر، معتبرين أن وزير الداخلية يراهن على إضعاف حراك جرادة تماما كما فعل مع احتجاجات الحسيمة، التي فقدت بريقها بعد منع المسيرات ومحاصرة الساحات. مصير حراك الريف خالد البكاري، أستاذ جامعي محلل السياسي، قال في تصريح لهسبريس: "الدولة لم تغير من طبيعة تعاطيها مع الاحتجاجات الاجتماعية ذات الطبيعة المناطقية، ولو اختلفت طبيعة المطالب من منطقة إلى أخرى وأشكال التنظيم والخطاب والشعارات والرهانات. فبمقارنة خاطفة لانتقال الدولة من مرحلة إلى أخرى وتدرجها في كيفيات التعاطي مع كل من حراك الحسيمة/الريف، وحراك جرادة/الشرق الحدودي، نجد السيناريو نفسه يتكرر"، على حد تعبيره. وعما إذا كانت الدولة قد استفادت من حراك الحسيمة وما خلّفه من هدر للزمن السياسي، أورد المحلل السياسي ذاته أن "الحكومة لم تستفد من التجارب السابقة؛ ذلك أن نجاحها المؤقت في شل حراك ما عبر متوالية: الإنهاك ثم الالتفاف وصولا إلى القمع، لا يعني انتصارها، بل يعني تأجيلها لانبثاق حركات جديدة قد تكون أكثر جماهيرية وأكثر راديكالية ما دامت لم تقض على الأسباب الحقيقية للاحتقانات والاحتجاجات والانتفاضات"، بتعبيره. قواسم مشتركة "الحكومة أنها لم تنتبه أو تغض الطرف على حقيقة أنه رغم تشابه حراكي الريف وجرادة من حيث الأسباب المباشرة والشعارات وأشكال التنظيم، فثمة اختلاف لافت في مرجعية الحراكين من حيث الذاكرة، ذاكرة هوياتية مرتبطة بعلاقة الريف بالمركز، وذاكرة عمالية منجمية بجرادة"، يقول البكاري، قبل أن ينتقل في حديثه إلى الاختلاف بين الحراكين من حيث المجال في بعده الحدودي؛ "حدود الريف البحرية في اتجاه إسبانيا، وحدود جرادة/المغرب الشرقي البرية في اتجاه الجزائر، خصوصا إذا استحضرنا إمكانية تحول المغرب الشرقي إلى بؤرة احتجاج ثابتة"، بتعبير المحلل السياسي ذاته. ولم ينف البكاري انتقال الدولة إلى اعتماد المقاربة الأمنية لمعالجة الوضع في جرادة تماما كما حدث مع "حراك الريف"، وقال إن "بوادر هذه المقاربة بدأت تتضح عبر مؤشري بلاغ وزارة الداخلية واعتقال بعض النشطاء في ملف جنائي لا يخفى على أي متابع أن المستهدف منه هو الحراك نفسه لا ما ادعاه بلاغ النيابة العامة من عدم وجود علاقة سببية بين الموضوعين". تدخل الملك؟ مصطفى السحيمي، محلل سياسي أستاذ جامعي، قال في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية إن "حق التظاهر والاحتجاج في الشارع مكفول لكل مواطن وهو حق دستوري، ومن جهة أخرى على الدولة أيضا أن تفرض هيبتها وأن تحافظ على استتباب الأمن وضمان السير العادي للحياة العامة وحماية مصالح المواطنات والمواطنين"، وهو ما يجعلنا، بحسب المتحدث ذاته، "أمام وضعية حرجة تتطلب الكثير من التريث والحكمة، لأن سكان جرادة لم يعودوا قادرين على التحمل أكثر". وبخصوص ما إذا كان حراك جرادة يتجه إلى المزيد من الاحتقان، يرى السحيمي أن "الوضع الآن حرج ويصعب التنبؤ بالقادم، وإذا كان تدخل الملك في هذا الملف ضروريا فعليه أن يتدخل لأن ما وقع في الحسيمة هو نفسه الذي يقع في جرادة الآن ولو بوتيرة أقل"، على حد قوله. وعاد الأستاذ الجامعي إلى الزيارة التي قامت بها الحكومة إلى المنطقة لاحتواء الوضع والدفع بالنشطاء إلى القبول بحل توافقي يعيد المحتجين إلى بيوتهم، ليؤكد أن "هناك الآن أزمة ثقة ما بين المحتجين والحكومة التي لم تسعفها الزيارة الميدانية التي قامت بها"، موضحا أن "من معالم هذه الأزمة مواصلة الاحتجاجات ورفض الخطاب الرسمي الحكومي الذي يعتبرونه (المحتجون) فاقدا للمصداقية". "الحسيمة باتت تمثل أنموذجا لعدد من الحركات الاحتجاجية، ومن بينها حراك جرادة الذي ينطلق من مرجعيات إيديولوجية مختلفة ومن حساسيات يسيطر عليها رموز اليسار الراديكالي وجماعة العدل والإحسان، وهو ما يجعل خيار المواجهة هو المتحكم في نوازع المحتجين"، يخلص السحيمي في تصريحه لهسبريس. *صحافي متدرب