كثيرة هي المظاهر الاجتماعية التي أصبح الشارع المغربي مسرحا لها، فمن العنف اللفظي بين السائقين والراجلين وبعضهم ضد البعض، إلى العنف الجسدي، إلى التحرش، إلى الإيذاء العمدي، وغيرها من التصرفات المشينة التي تبقى إلى حد ما متحكما فيها مقارنة مع ما هو سائد في دول العالم. إلا أن ما يلفت النظر في السنين الأخيرة ظاهرة التسول بكل أنواعه، حتى أصبح البعض يخال بأن التسول فعل مباح بل وحق يحميه القانون، خاصة وأنه يمارس جهرا وعلانية وأمام أعين السلطات العمومية، حتى إنه لا توجد أي إشارة مرور خالية من ممتهني التسول، سواء كانوا مغاربة أو أجانب، ولاسيما من جنوب الصحراء والبعض القليل من دولة بالمشرق العربي أغرقتها الحرب الداخلية في مسابح الدماء. وإذا كنا قد نتفهم على مضض إقبال بعض المغاربة على التسول تارة تحت ذريعة الفقر، وتارة تحت ذريعة المرض، وأخرى تحت ذريعة انعدام الشغل، إلا أنه لا يمكن تفهم أن تصبح هذه الآفة دولية يمارسها الأجانب بكل الحاح، بل ووقاحة في بعض الأحيان يتبعها إحراج وتشنج، ولاسيما في الشوارع الكبرى للعاصمة الإدارية والعلمية وكذا مجموعة من المدن المغربية السياحية التي تروج لها الدولة عالميا من أجل استقطاب 10 ملايين سائح، باعتبار أن هذا الرقم كان رهان الوزراء الذين تعاقبوا على قطاع السياحة. وإذا كان هذا الرهان مازال قائما، بمعية تنظيم كأس العالم فيما يستقبل من السنوات، فإنه سيكون من العسير الدفاع عن ملف المغرب أمام ممثلي المنظمات العالمية المهتمة بالرياضة والسياحة، وهم يشاهدون بالعين المجردة كيف اكتسح المتسولون الشوارع والأزقة في جل المدن المغربية وكأننا دولة فقيرة جدا، بل إنه في بعض الأحيان يتخذون الأماكن العامة المفروض أنه خصصت لها اعتمادات مالية من ميزانيات الجماعات الترابية أو الميزانية العامة من أجل تشييدها وصيانتها حتى تكون مكانا آمنا تلج إليه الأسر عامة والأطفال خاصة من أجل الترفيه والاستجمام والثقافة والرياضة. ولنا أن نتساءل عن الطفل المغربي وهو يرى يوميا جحافل من الأطفال بكل الألوان والألسن والأعمار وهم يمتهنون التسول بصفة شخصية، أو عن طريق استغلالهم في هذا المجال من طرف راشدين يعطون صورة على أنهم أولياؤهم. والكل يرى في العاصمة الرباط، مثلا، أن كل هؤلاء المتسولين من مختلف الأجناس والديانات وبكل اللغات إنما يتخذون من مواقع إشارات المرور وأبواب المساجد مسرحا لامتهان التسول ولا يقتربون من الكنائس ولا من مفترق الطرق حيث تكون هناك انسيابية في المرور، بل أنكى من ذلك تخال بأن هناك من ينظم تدخلهم؛ بحيث يقومون بتغيير المواقع بالتراضي وقل ما تجد أن هناك شجارا بين هؤلاء حول المواقع مضمونة الدخل المريح. والملاحظ في الأشهر القليلة الفائتة أن ظاهرة التسول اتخذت في شوارع العاصمة الرباط مظهرا آخر يتمثل في العزف على آلات الموسيقى الكهربائية، والتفاف الشباب حول العازفين بالغناء معهم أغنية غربية أو الرقص والتراقص حول معزوفاتهم الموسيقية الأجنبية. ويحدث هذا ولا تطالبهم السلطات العمومية بأي ترخيص عن تجمعاتهم، بل ولا تفرقهم كما يقع بالنسبة للتجمعات الخطابية. وهذا كذلك ومنذ زمان في الأسواق الشعبية حيث يكثر المرددون للأهازيج الشعبية وحتى الأمداح النبوية... حقيقة أن الله تعالى أوجب الصدقات للفقراء بقوله: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله خبير بما تعملون"، إلا أن ما يلفت الانتباه أن نسبة غير قليلة من المتصدقين قد يتعاطفون مع الجنس اللطيف ويغدقون عليهن الدراهم المعدودة وغير المعدودة، عكس الجنس الخشين إلا من رحم ربي، بل وقد يتمادون في الإسراف متى كانت اللهجة المتداولة غير مغربية. وهذا ما تنبهت إليه بعض المتسولات المحليات ودفعهن إلى أخذ دروس التقوية في النطق الجيد باللهجات الشرقية، ولاسيما الشامية. إن ما يؤكد لنا أن هناك شبكة منظمة تدير وتدبر عملية التسول في المدن الكبرى بالمغرب كون بعض النساء يبقين بالشارع رفقة الأطفال الذين في كنفهن حتى ساعات متأخرة من الليل دون أن يتحرش بهن أحد، ثم يأتي بعد ذلك من يؤمن لهن الطريق، بل ويصاحبهن بالمعروف إلى غاية المكان الذي يأويهن. وكثيرا ما قد تجد بعض النسوة وقد بدأنا عملهن كمتسولات مع شروق الشمس ويبقين في المكان نفسه حتى الغروب، تحت حرارة الشمس الحارقة ولسعات البرد القارس، وبعد ذلك يتحركن إلى مكانهن المعتاد بكل نظام وانتظام وقد وضعن ما جنين من غلة يومية في أكياس ومخابئ معدة لذلك، بعيدا عن أعين مفتشي الضرائب. وقد جاء على لسان أحد أعضاء مركز حقوق الإنسان بشمال المغرب، ل"الترا صوت"، أن "المهاجرين الأفارقة عمومًا منظمون ويحمون بعضهم البعض، أما المهاجرات من المشرق العربي، ونظرًا لقلة عددهن لا يستطعن ذلك، لهذا يتم استغلال عدد كبير منهن جنسيًا من طرف أشخاص منحرفين". إذن، الأمر لم يعد فقط إشكالية الهجرة السرية، وتحقق النية الاجرامية لاتخاذ المغرب كموطن عبور نحو القارة الأخرى، وإنما هناك ركن معنوي دائم للقيام بالفعل الجرمي متوقف على تحقق الركن المادي بتصيد الفرص، ولكن الخطورة تكمن في اقتران هذا الفعل المشين بالبغاء أحيانا والاتجار بالممنوعات، بل والتسبب في الأمراض المنقولة جنسيا. إن ظاهرة التسول بصيغتها الدولية انتشرت بشكل جلي في المدن المغربية حيث لا تجد أي فضاء عمومي إلا وقد استولت عليه مجموعات بمختلف الأولوان والأعمار، تطالب بنصيبها من ما تملك من نقود، حتى إن البعض منها أصبح قارا بملتقى الشوارع والطرق ومواقف السيارات، وكلما مررت من هناك إلا ويطالبك بصدقة، ولنا أن نتصور كم عدد المرات الذي يطالبك الشخص نفسه بالصدقة في النقطة نفسها يوميا، أكيد على الأقل مرتين، في الرواح والمجيء، ولنضرب هذا العدد بعدد الأماكن الذي تمر منها بصفة منتظمة يوميا؟ أكيد أن السلطات العمومية تراقب هذه الظاهرة وتخالها متحكما فيها، ولكن ليست كذلك بالنسبة للمواطن العادي، وخاصة النساء اللواتي قد يجدن حرجا في الوقوف بسياراتهن في أماكن إشارة الضوء ونوافذ السيارات مفتوحة، فيعملن على إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ اتقاء لكل تحرش مادي أو معنوي مفترض. صحيح أن التشريع الجنائي المغربي يعاقب على التسول والتشرد وخصص له الفصول من 326 إلى 333، غير أن العقوبة المخصصة للجاني، وهي الحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر، لا تطبق إلا إذا كانت لديه وسائل العيش أو كان بوسعه الحصول عليها بالعمل أو بأية وسيلة مشروعة، ولكنه تعود ممارسة التسول في أي مكان آخر. كما أنه يعاقب الأب أو الأم أو الوصي أو صاحب العمل، وعلى العموم كل من له سلطة على طفل أو من كان قائما برعايته، إذا سلم، ولو بدون مقابل، أطفاله أو اليتامى المكفولين أو الصغار المتعلمين الذين يقل سنهم عن 13 عاما إلى متشردين أو محترفي التسول، بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين. وهذه العقوبة كما نلاحظ عقوبة مخففة جدا يتعين على المشرع معالجتها بقسوة، ولا سيما إذا كان الضحية طفلا غير مميز. بل إن المشرع المغربي اعتبر استغلال الغير وإجباره على التسول بمثابة جنحة الاتجار بالبشر؛ إذ نص الفصل 1-448 من القانون رقم 27.14 المتعلق بمكافحة الاتجار بالبشر المكمل للقانون الجنائي، على أنه يقصد بالاتجار بالبشر تجنيد شخص أو استدراجه أو نقله أو تنقيله أو إيواؤه أو استقباله، أو الوساطة في ذلك، بواسطة التهديد بالقوة أو باستعمالها أو باستعمال مختلف أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو إساءة استعمال السلطة أو الوظيفة أو النفوذ أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة أو الهشاشة، أو بإعطاء أو بتلقي مبالغ مالية أو منافع أو مزايا للحصول على موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ولا يشترط استعمال أي وسيلة من الوسائل المنصوص عليها في الفقرة الأولى أعلاه لقيام جريمة الاتجار بالبشر تجاه الأطفال الذين تقل سنهم عن ثمان عشرة سنة بمجرد تحقق قصد الاستغلال. يشمل الاستغلال جميع أشكال الاستغلال الجنسي، لاسيما استغلال دعارة الغير والاستغلال عن طريق المواد الإباحية، بما في ذلك وسائل الاتصال والتواصل المعلوماتي، ويشمل أيضا الاستغلال عن طريق العمل القسري أو السخرة أو التسول أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو نزع الأعضاء أو نزع الأنسجة البشرية أو بيعها، أو الاستغلال عن طريق إجراء التجارب والأبحاث الطبية على الأحياء، أو استغلال شخص للقيام بأعمال إجرامية أو في النزاعات المسلحة. لا يتحقق هذا الاستغلال إلا إذا ترتب عنه سلب إرادة الشخص وحرمانه من حرية تغيير وضعه وإهدار كرامته الإنسانية، بأي وسيلة كانت ولو تلقى مقابلا أو أجرا عن ذلك. وقد عاقب على هذا الفعل بعقوبة لا تقل عن السجن من خمس إلى عشر سنوات، وبغرامة من 10.000 إلى 500.000 درهم. ومما ينبغي التذكير به أنه طبقا للمادة 70 من قرار وزيرة الصحة رقم 456.11 صادر في 23 من رجب 1431 (6 يوليو 2010) في شأن النظام الداخلي للمستشفيات، يجب على المريض المقيم بالمستشفى أن يمتنع عن إزعاج راحة المرضى الآخرين أو عرقلة سير المصلحة عن طريق التسول داخل وحدات تقديم العلاج والخدمات أو داخل نطاق المستشفى. غير أن هذا القرار إذا كان يلقى بعض الاحترام من المرضى، فإنه لا يكون كذلك بالنسبة لبعض الزوار، وخاصة الذين يدعون عدم قدرتهم على الرجوع إلى مدنهم أو من لا يتوفرون على ثمن شراء الدواء للمريض وغير ذلك من الادعاءات. وعليه، المطلوب من السلطات العمومية والمحلية اعتبار ظاهرة التسول ظاهرة اجتماعية لا تقل خطورة عن باقي الأفعال المجرمة، إلا أن معالجتها يجب أن تكون اجتماعية واقتصادية وسياسية بما لا يقوض أركان المجتمع. مع سن ظروف التشديد متى كان التسول داخل المرافق العامة وأمام القنصليات والسفارات باعتبارها امتدادا للدول الأجنبية. وصفوة القول، فإن التسول أصبح وسيلة عيش لمجموعة من المواطنين والأجانب بمختلف الأعمار والشرائح، مما يتطلب إعادة النظر في طريقة معالجة هذه الظاهرة مخافة أن تصبح شيئا معتادا، خاصة وأن دخلها قد يغري بعض ضعاف النفوس. ولا يفوتنا أن نذكر بمضمون الخطاب الملكي السامي في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2017-2018 عندما قال جلالة الملك "إن المغاربة اليوم يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار، والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، التي يطمح إليها كل مواطن. كما يتطلعون لتعميم التغطية الصحية وتسهيل ولوج الجميع للخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية. والمغاربة اليوم، يريدون لأبنائهم تعليما جيدا، لا يقتصر على الكتابة والقراءة فقط، وإنما يضمن لهم الانخراط في عالم المعرفة والتواصل، والولوج والاندماج في سوق الشغل، ويساهم في الارتقاء الفردي والجماعي، بدل تخريج فئات عريضة من المعطلين. وهم يحتاجون أيضا إلى قضاء منصف وفعال، وإلى إدارة ناجعة، تكون في خدمتهم، وخدمة الصالح العام، وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية، بعيدا عن كل أشكال الزبونية والرشوة والفساد".