العقيدة الطحاوية عقيدة سهلة العبارة، واضحة المعنى، تتسم بالجمع والاختصار، وقد اجتمع على مجملها أهل السنة والجماعة، فكانت في معظمها محل إجماع واتفاق بين أهل العلم والاختصاص. وقد اهتم كثير من العلماء بشرحها وتفسير كلماتها ومعانيها، ومن أشهرهم: الإمام ابن أبي العز الحنفي، حيث ألف شرحا مطولا عليها، ثم من المتأخرين: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عصام بن مرعي، والشيخ محمد يونس خالص الأفغاني الحنفي، رحمهم الله تعالى، وكذا فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله. ولعل من كتب لها الذيوع والشهرة عند أهل السنة والجماعة بعد توفيق الله تعالى هو شرحها الرائع، الذي كتبه العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمة الله عليه، وهو أهم شروحها وأوسعها مادة، وقد استقى مادة هذا الشرح من كُتب أهل السنة، لاسيما كُتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم الجورية رحمهما الله. وعملي في هذه القراءة، وفي هذه الصفحات، يقتصر على رصد أهم الملاحظات التي سُجلت على بعض مواد هذه الدرر، وهي قليلة جدا، إذا ما قورنت بمجمل ما ورد فيها من درر ولآلئ، فهي هنات هينات، لا ينجوا من مثلها إلا من عصمه الله تعالى، وهذه المؤاخذات هي الأخرى آراء بشرية يجري عليها ما يجري على غيرها، لكن مكانة الإمام الطحاوي العلمية تجعل من هذا المصنف أروع وأنفس وأصح ما كتب في علم العقيدة الصحيحة عبد العصور، ويرجح البعض أن انتماءه المذهبي قد يكون سببا مباشرا فيما وقع فيه من عثرات، بينما يرى البعض الآخر أن ذلك راجع إلى سهو، أو تحريف، أو تصحيف في الأصل المخطوط، قصدا أو عرضا، ولعله الرأي الأقرب إلى الصواب والله اعلم ، سيما وأن الإمام قد تواطأ على تزكيته صفوة زمانه، ومن جاء بعدهم من أصحاب التراجم والوفيات. وسأركز بمشيئة الله تعالى في دراستي هاته على شرح الإمام: ابن أبي العز، مستعينا في الوقت ذاته بما ورد من تعليقات موجزة للعلماء المتأخرين، سواء كانت مستقلة بذاتها، أو مصاحبة للشرح المذكور. قال المصنف رحمه الله: 1 "قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ". قال الإمام بن أبي العز رحمة الله عليه: "وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله - تعالى - "القديم"، وليس هو من أسماء الله تعالى الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم، للعتيق، وهذا حديث، للجديد، ولم يستعمل هذا الإسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم} (سورة يس آية: 39)، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الحديث قيل للأول: قديم...! وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة". الشرح: (ص78)، تحقيق: أحمد شاكر، نشر: وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف والدعوة والإرشاد بالسعودية: (1418ه). وقال الشيخ: عصام بن مرعي رحمه الله في تعليقه: "... وكذلك إسم "الدائم"، لم أقف على دليل من الكتاب والسنة الصحيحة يثبته، وقد جاء الشرع باسمه: "الآخر" وفي ذلك غُنية عن اسم: "الدائم"(...) كما في الحديث الصحيح: {وأنت الآخر فليس بعدك شيء}، أخرجه مسلم: (2713)، وغيره. مختصر شرح العقيدة الطحاوية: (ص23)، نشر: المكتبة الإسلامية، عين شمس القاهرة: (1429ه). وقد حقق شيخ الإسلام هذه المسألة في مجموع الفتاوى: (ج1، ص24). وقد نُقل عن ابن القيم في: "البدائع" أنه يجوز وصفه سبحانه بالقديم، بمعنى أنه يخبر عنه بذلك، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات التوقيفية". تعليقات الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني: (ص19)، نشر: المكتب الإسلامي، بيروت: (ط2، 1414ه). 2 "وَنُسَمِّي أَهْلَ قِبْلَتِنَا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ، مَا دَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَرِفِينَ". قال الشيخ عصام: " ... وهو قول ظاهره وباطنه باطل، إذا فُهمت المعرفة بأنها: "مطلق التصديق"، وذلك لأن الإيمان عند أهل السنة هو: "التصديق بالقلب والنطق باللسان والعمل بالجوارح والأركان"، والتصديق بالقلب يجب أن يكون تصديقا مقرونا بتسليم القلب وخضوعه وانقياده لمقتضى حقيقة الإيمان! وأما مطلق المعرفة وحده فلا يكفي في تحقيق حقيقة الإيمان، إذ لو كان كافيا وحده لكان مُشركو العرب مؤمنين، إذ كانوا يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، كما قال تعالى في سورة الأنعام: " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون"، الآية: (33). وكون المعرفة وحدها هي الإيمان إنما هو مذهب بعض فرق الضلالة والزيغ والانحراف، (...) ولا ريب أن هذا قد وقع سهوا من الإمام الطحاوي صاحب المتن، وكذا من العلامة المؤلف شارح هذا المتن..."! المختصر: (ص109). 3 "وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ". قال الشارح: "... ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفرا، قال الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، (سورة المائدة آية 44)، وقال صلى الله عليه وسلم: {سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر}، متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: {لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض}، و {إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما}، متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه...! وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد}، وقال صلى الله عليه وسلم: {بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة}، رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وقال صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد}، وقال صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد كفر}، رواه الحاكم. والجواب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملة لكان مرتدا يقتل، على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام". الشرح: (ص: 303). وقال الشيخ ناصر: "قلت: يعني استحلالا قلبيا اعتقاديا، وإلا فكل مذنب مستحل لذنبه عمليا، أي مرتكب له، ولذلك فلا بد من التفريق بين المستحل اعتقادا، فهو كافر إجماعا، وبين المستحل عملا لا اعتقادا، فهو مذنب يستحق العذاب اللائق به، إلا أن يغفر الله له، ثم ينجيه إيمانه خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود في النار، وإن اختلفوا في تسميته كافرا أو منافقا..."! التعليقات: (ص60). 4 "وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ". قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "هذا الحصر فيه نظر، فإن الكافر يدخل في الإسلام بالشهادتين إذا كان لا ينطق بهما، فإن كان ينطق بهما دخل الإسلام بالتوبة مما أوجب كفره، وقد يخرج من الإسلام بغير الجحود، لأسباب كثيرة بينها أهل العلم في باب حكم المرتد، من ذلك طعنه في الإسلام أو في النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزاؤه بالله ، ورسوله، أو بكتابه، أو بشيء من شرعه سبحانه، لقوله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، التوبة: (65-66). ومن ذلك عبادته للأصنام أو الأوثان، أو دعوته الأموات، والاستغاثة بهم، وطلبه منهم المدد والعون ونحو ذلك؛ لأن هذا يناقض قول لا إله إلا الله، لأنها تدل على أن العبادة حق لله وحده، ومنها الدعاء والاستغاثة والركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فمن صرف منها شيئا لغير الله من الأصنام والأوثان والملائكة والجن وأصحاب القبور وغيرهم من المخلوقين فقد أشرك بالله ولم يحقق قول لا إله إلا الله، وهذه المسائل كلها تخرجه من الإسلام بإجماع أهل العلم، وهي ليست من مسائل الجحود، وأدلتها معلومة من الكتاب والسنة، وهناك مسائل أخرى كثيرة يكفر بها المسلم، وهي لا تسمى جحودا، وقد ذكرها العلماء في باب حكم المرتد". تعليقاته من مجلة البحوث الإسلامية، العدد: (15 ص 257-267). 5 "والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان". قال الشيخ ناصر: " قلت: هذا مذهب الحنفية والماتريدية، خلافا للسلف وجماهير الأئمة، كمالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم، فإن هؤلاء زادوا على الإقرار والتصديق: العمل بالأركان. وليس الخلاف بين المذهبين اختلافا صوريا كما ذهب إليه الشارح رَحِمَهُ اللَّه ، بحجة أنهم جميعا اتفقوا على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الإيمان، وأنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، فإن هذا الاتفاق وإن كان صحيحا فإن الحنفية لو كانوا غير مخالفين للجماهير مخالفة حقيقية في إنكارهم أن العمل من الإيمان، لاتفقوا معهم على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن زيادته ونقصه بالمعصية، مع تضافر أدلة الكتاب والسنة والآثار السلفية على ذلك، وقد ذكر الشارح طائفة طيبة منها ولكن الحنفية أصروا على القول بخلاف تلك الأدلة الصريحة في الزيادة والنقصان، وتكلفوا في تأويلها تكلفا ظاهرا، بل باطلا، فقد حكى عن أبي المعين النسفي أنه طعن في صحة الحديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة ... "، مع احتجاج كل أئمة الحديث به، ومنهم البخاري ومسلم في: "صحيحيهما"، وهو مخرج في " الصحيحة " (1769) وما ذلك إلا لأنه صريح في مخالفة مذهبهم. ثم كيف يصح أن يكون الخلاف المذكور صوريا وهم يجيزون لأفجر واحد منهم أن يقول: إيماني كإيمان أبي بكر الصديق، بل كإيمان الأنبياء، والمرسلين، وجبريل، وميكائيل، علهم الصلاة والسلام، كيف وبناء على مذهبهم هذا لا يجيزون لأحدهم - مهما كان فاسقا فاجرا - أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بل يقول: أنا مؤمن حقا والله عَزَّ وَجَلَّ يقول: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا)، الأنفال: 2 – 4، (ومن أصدق من الله قيلا)، النساء: (22)، وبناء على ذلك كله اشتطوا في تعصبهم فذكروا أن من استثنى في إيمانه فقد كفر، وفرعوا عليه أنه: لا يجوز للحنفي أن يتزوج بالمرأة الشافعية وتسامح بعضهم - زعموا - فأجاز ذلك دون العكس، وعلل ذلك بقوله: تنزيلا لها منزلة أهل الكتاب، وأعرف شخصا من شيوخ الحنفية خطب ابنته رجل من شيوخ الشافعية فأبى قائلا: ... لولا أنك شافعي!، فهل بعد هذا مجال للشك في أن الخلاف حقيقي؟ ومن شاء التوسع في هذه المسألة فليرجع إلى كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: " الإيمان " فإنه خير ما ألف في هذا الموضوع". التعليقات: (ص 62). 6 "... وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين". قال الشيخ ناصر رحمه الله: "قلت: بل هو خليل رب العالمين، فإن الخلة أعلى مرتبة من المحبة وأكمل، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا "، ولذلك لم يثبت في حديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حبيب الله. فتنبه..."! (المصدر السابق) وأخيرا: فهذا جُهد المقل، لا أدعي فيها أنني وفقت إلى كل ما أردت، قصدت بذلك وجه الإله، سائلا مولاي وخالقي أن يسدد قصدي، ويعصمني من الزلل. قال تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا). الكهف، (110). ...................................................................... من كتاب الجريدة وقرائها الأوفياء. تاريخ الإرسال: الأحد: 04 03 2018 مقال جديد لم ينشر بعد. دمتم للثقافة المستنيرة أوفياء.