يعتبر افتراض براءة الشخص، سواء كان موضع اتهام أو اشتباه، أحد مقومات العدالة الجنائية، فبالإضافة إلى مبدأ الشرعية في التجريم والعقاب وضرورة التقيد بسيادة القانون، نجد مبدأ آخر ألا وهو مبدأ قرينة البراءة الذي يقتضي معاملة الشخص على أساس أنه بريء إلى أن يثبت في حقه الفعل الجرمي عبر تجميع الحجج والبراهين والأدلة القاطعة، وهذا المبدأ تضمنه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، كما نصت عليه أيضا بعض الدساتير العالمية الحديثة وكذا التشريعات الجنائية المعاصرة التي تستلزم لإدانة المتهم توافر الدليل القاطع على كونه السبب في وقوع الجريمة أو مساهمته فيها مما يضفي اليقين على الاتهام. ويمكن تعريف قرينة البراءة بأنها: "الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة، حيث تستخلص واقعة مجهولة بناء على واقعة معلومة، كما تعني أيضا النظر لكل شخص مشتبه فيه أو متهم بجريمة مهما بلغت جسامتها، على أساس أنه بريء مهما كان وزن الأدلة أو الشكوك التي تحوم حوله أو تحيط به، إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي بات احترمت فيه متطلبات العدالة الجنائية في جميع مراحل الدعوى". وعليه، فإن صيانة حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية وصون كرامتهم تقتضي اعتبار براءتهم هي الأصل إلى أن يثبت العكس. ويعد مبدأ قرينة البراءة من أهم المستجدات التي تضمنتها الإصلاحات الدستورية لسنة 2011. وهكذا، فلأول مرة في تاريخ الدساتير المغربية يتم التنصيص صراحة في الفصل 23 على قرينة البراءة، بخلاف الدساتير الممتدة من 1962 إلى 1972، باستثناء دستوري 1992 و1996 اللذين نصت ديباجتهما على التزام المملكة باحترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وهو ما يوحي ضمنيا بالتزامها حتى بقرينة البراءة. ولما كان قانون المسطرة الجنائية بمثابة قانون إجرائي مسطري يضبط بموجبه إجراءات المحاكمة الجنائية، فإنه كان لزاما أن يتضمن هذا المقتضى المنصوص عليه في المواثيق الدولية والدستور، وهو المبدأ الذي نص عليه المشرع الجنائي من خلال المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية باعتبار البراءة هي الأصل إلى أن تثبت إدانة الشخص بحكم مكتسب لقوة الشيء المقضي به بناء على محاكمة عادلة تتوفر فيها كل الضمانات القانونية، واعتبر بأن الشك أيضا يفسر لصالح المتهم، وهو ما يعني ضرورة توافر الأدلة القاطعة. وتماشيا مع هذا المبدأ، يلاحظ من خلال مقتضيات هذه المادة، أن المشرع الجنائي يستعمل مصطلحي المشتبه فيه والمتهم؛ وذلك حتى يتم نزع صفة الفعل الجرمي على الشخص، سواء كان فاعلا أصليا أو مساهما أو شريكا طبقا لمقتضيات الفصول 128 و129 و130 من القانون الجنائي. ومادام الأمر يتعلق بضمانة من ضمانات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فإنه من المفيد أن نتساءل هنا عن دور وسائل الاتصال السمعي البصري في تكريس وحماية هذا المبدأ الذي تنص عليه العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وكذا الدستور المغربي في فصله 23 وحتى قانون المسطرة الجنائية، وكيف تعامل المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري بالمغرب مع هذا المبدأ الحقوقي؟ بالنظر للدور الأساسي الذي تضطلع به وسائل الاتصال السمعي البصري في نقل الأخبار والمعلومات، بما فيها تلك المتعلقة بتغطية المساطر القضائية التي تتخذ من الجريمة موضوعا لها، وفي محاولة منه لضبط وتقنين المساطر القضائية في خدمات الاتصال السمعي البصري وفق الضوابط القانونية الخارجية والداخلية ذات الصلة بتكريس ثقافة حقوق الإنسان واحترام الحقوق والحريات العامة، وبصفة خاصة احترام قرينة البراءة وبما لا يخل باحترام الحياة الخاصة للأشخاص الذين يوجدون في وضعية اتهام، بادر المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري بإصدار القرار رقم 17/42 المؤرخ في 02 ربيع الأول 1439 (21 نونبر 2017) بشأن احترام مبدأ قرينة البراءة والمساطر القضائية في الخدمات السمعية البصرية، وبقراءة أولية لهذا القرار نجده يستجيب إلى حد كبير للمقتضيات القانونية الدولية والوطنية ذات الصلة بترسيخ قرينة البراءة واحترام الحياة الخاصة لكل شخص يوجد في وضعية اتهام. إذن فماهي أهم المقتضيات التي تضمنها هذا القرار؟ لقد ألزم المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري من خلال قراره المومأ إليه أعلاه متعهدي الاتصال السمعي البصري عند تقديمهم لأخبار أو روبورتاجات أو برامج، صونا لقرينة البراءة، بالتقيد بما يلي: أولا: فيما يتعلق باحترام مبدأ قرينة البراءة - احترام مبدأ قرينة البراءة، عند تقديم تصريحات أو بلاغات صادرة عن أطراف معنية بالبحث أو التحقيق أو غيرها في قضايا ذات الصلة بالجريمة. - الامتناع عن وصف شخص، موضوع بحث قضائي، ب "الجاني" أو "المجرم"، واستعمال بدل ذلك عبارات "المشتبه به" أثناء مرحلة البحث التمهيدي و"الظنين" أثناء مرحلة التحقيق الإعدادي و"المتهم" بعد تجاوز هاتين المرحلتين، المعمول بها في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية. - عدم بث صور لشخص في حالة اعتقال أو يحمل أصفادا أو قيودا. - عدم الإعلان عن اسم أو تقديم أي إشارة تمكّن من التعرّف على هويته دون موافقته؛ وذلك إلى حين صدور حكم نهائي في حقه. ثانيا: فيما يتعلق باحترام الحياة الخاصة - عدم الإفصاح، في حالة عدم الحصول على موافقته، عن هوية الظنين أو المشتبه به أو المتهم، خلال تغطية إعادة تمثيل وقائع الجريمة، بالحرص على الخصوص على تمويه الشكل الحقيقي لصورته وصوته. - عدم الكشف عن هوية المعتقلين عند بث تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي، يتعلق بهم أو بمؤسستهم السجنية أو بغيره؛ وذلك دون الحصول على موافقتهم. - عدم الكشف عن هوية عائلات الأشخاص الأظناء أو المشتبه بهم أو المتهمين وكذا عائلات الضحايا؛ وذلك دون الحصول على موافقتهم. - عدم الكشف عن هوية الأحداث موضوع مسطرة قضائية بما يحترم مصلحتهم الفضلى خلال كل مراحل التقاضي. - عدم الكشف عن هوية الأشخاص في وضعية هشة موضوع مسطرة قضائية خلال كل مراحل التقاضي. ثالثا: فيما يتعلق باحترام المساطر القضائية - تناول القضية بحياد ونزاهة واحترام مبدأ التعددية من خلال تقديم مختلف الطروحات وتمكين الأطراف المعنية أو ممثليها من فرصة التعبير عن وجهة نظرها. - عدم الكشف عن مضامين محاضر الضابطة القضائية احتراما لمبدأ سرية البحث التمهيدي، وكذا عن صكوك الاتهام أو أي من وثائق المسطرة الجنائية أو الجنحية قبل أن يتم تداولها في جلسة عمومية. - عدم الإخبار عن المداولات الداخلية للمحاكم أو لجلسات الاستماع السرية بحكم القانون أو بقرار من المحاكم. - عدم التعليق على الأحكام القضائية عند تقديمها بشكل يمس سلطة القضاء أو باستقلاليته. - عدم تغطية المرافعات التي تسمح بالتعرف على الأطفال. رابعا: فيما يتعلق بالضوابط المؤطرة للبرامج التي تتخذ من الجريمة موضوعا لها - الإشارة عند تمثيل مشاهد مستوحاة من جرائم حقيقية إلى عبارة "تشخيص لوقائع حقيقية"، طيلة مدة بثها وبطريقة واضحة. - القيام بتنبيه صوتي وخطي مسبق عند تقديم برامج تتعلق بجرائم تتضمن صورا أو مشاهد أو أوصافا من شأنها صدم مشاعر المتلقي، والاحتفاظ بمنظومة الإشارات خلال الإعلان عنها وطيلة مدة البث. تأسيسا على المقتضيات السابقة يمكن القول إن المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري أسس لمجموعة من المبادئ التي تصون وتحمي مبدأ قرينة البراءة في الخدمات السمعية البصرية؛ وذلك انسجاما مع أحكام الاتفاقيات الدولية والدستور والتشريع الجنائي، خاصة وأنه منع متعهدي الاتصال السمعي البصري من إذاعة أي خبر أو معلومة من شأنها أن تدفع المتلقي إلى تكوين أفكار مسبقة على المتهم، وخاصة كل ما يؤثر على افتراض براءته، لأن هذه الأخيرة تعتبر عنصرا أساسيا لحماية حقوق الإنسان من أي تجاوز وبما يتوافق مع متطلبات المحاكمة العادلة، وهو الأمر الذي يقتضي تقديم أخبار عن المتهمين بأية جريمة وكأنهم أبرياء. وفي السياق نفسه، ألزم المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري متعهدي الاتصال السمعي البصري بالامتناع عن تقديم أية تصريحات تتضمن اتهامات مباشرة أو غير مباشرة للمشتبه فيه قبل إصدار الحكم في جلسة عامة وعلنية، بل أكثر من هذا، نجده يلزمهم بعدم بث وإذاعة صورة أو أكثر تعود لشخص ما يوجد في حالة اعتقال وهو يحمل أصفادا أو قيودا. ويمكن القول إن العديد من هذه المقتضيات التي تضمنها قرار المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري تتوافق مع مجموعة من المعايير المعمول بها في كل من التشريع الدولي لحقوق الإنسان والمقتضيات القانونية الداخلية في مجال قرينة البراءة، ونخص بالذكر هنا: - المادتين 10 و11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948. - المادة 6 من اتفاقية حماية حقوق الإنسان في نطاق مجلس أوروبا لسنة 1950. - المادة 9 من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في عام 1789. - المادة 14 فقرة 2 العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966. - الفصل 23 من دستور 2011. - المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية. - المادة 15 من قانون المسطرة الجنائية المتعلق بسرية البحث والتحقيق، والذي يلزم كل شخص يساهم في إجراءات التحقيق بكتمان السر المهني. - المادتين 89 و90 من قانون الصحافة والنشر رقم 88.13. - التعليق العام رقم 32 للجنة حقوق الإنسان بخصوص حماية قرينة البراءة التي أوصت بعدم تكبيل المتهمين أو وضعهم في أقفاص أو تقديمهم للمحاكمة بأي طريقة توحي بأنهم مجرمين فعلا. *باحث بسلك الدكتوراه مسلك العلوم السياسية بكلية الحقوق الرباط