العنف ظاهرة ملازمة للتاريخ الانساني، لكنه أصبح في السنوات الأخيرة ظاهرة عربية بامتياز، بسبب الصاق تهمة الارهاب والعنف بالعرب والمسلمين، وتفنن وسائل الإعلام الغربية في إبداع أشكال تكرس هذا الواقع، وتفرض هذا التّصور (تقارير صحافية وبرامج وثائقية وأفلام سينمائية...)، وانسياق معظم وسائل الإعلام العربية وراء هذا التصور. وقد عقدت حول الظاهرة ندوات ومؤتمرات محلية ودولية، وألفت العديد من المؤلفات، ونظمت لقاءات إعلامية وبرامج تلفزية لتشريح الظاهرة، وتمت إعادة النظر في المناهج التعليمية في الكثير من الدول العربية والاسلامية، لكن دون نتائج ملموسة. فمازال الإرهاب يضرب في كل مكان، ويتفنن في إبداع أشكال القتل والتدمير. فما أسباب وأصول هذا العنف الذي يلصق ظلما وجورا بالإسلام؟ ولماذا أخفقت كل المقاربات المعتمدة لحد الآن في القضاء عليه؟ وما هو المدخل الحقيقي للحد من الظاهرة؟ هذه بعض الإشكالات التي يعالجها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان في كتابه "سؤال العنف: بين الائتمانية والحوارية" الصادر عن المؤسسة العربية للفكر والابداع سنة 2017. يرى طه أن من الطبيعي، بل من الواجب، أن يهتم الفيلسوف بسؤال العنف، لأنه نقيض العقل والدليل الذي هو مطلب كل فلسفة حقيقية ومصدرها الأساسي. ويرجع طه انطلاقة مشروعه الفلسفي بقضايا قريبة من سؤال العنف، خاصة في كتابه "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" الذي كان ينادي بطلب الخُلق قبل طلب السياسة، مما يدفع شرها، ويجنب الانسانية الوقوع في مثالبها التي تجلت في فقد الحوار وفقد الأخلاق. يرجع طه أسباب العنف كما سنرى لاحقا بالتفصيل إلى مبدأ عام هو "حب التسيّد والتسلط". والخطير في نظره هو أن التسلط والاستبداد استطاع أن يسخر الدين نفسه لقضاء هذه الشهوة، مما جلب على هذا الدين تهمة العنف والتسلط زادت وسائل الإعلام في ترسيخها مع كل عملية إرهابية. يتساءل طه عبد الرحمان عن السبيل إلى الخروج من هذا التسلط؟ يجيب طه بداية بالنفي لأن التسلط قائم في البشر منذ أن تسلط قابيل على هابيل، لكنه سرعان ما يتدارك الأمر بنفس الفيلسوف المتفائل الذي يرى أن قدرة الإنسان أوسع من التاريخ، وهذه القدرة هي ما تريد الفلسفة الائتمانية كشفها، متصورة عالما مثاليا لا عنف فيه هو العالم الهابيلي الذي يرفض التسيّد والعنف، متوسلة في ذلك بمفاهيم ومعان ضاربة جذورها في روح الثقافة الاسلامية والتجربة الانسانية، في مقابل عالم الفوضى والعنف المادي والنفسي والرمزي الذي يغزو العالم بأسره، عالم تنتشر فيه المادية بإطلاق، وتنعدم فيه الأخلاق ويسود فيه النفاق وهو ما يصطلح عليه طه بالعالم القابيلي. ومن أهم المفاهيم التي اعتمد عليها تصور طه للعالم الهابيلي مفهوم الملكوت، وهو مفهوم مركزي في الفلسفة الائتمانية التي شيدها في كتابة "روح الدين". وهي فلسفة تقوم على التمييز بين عالم الملك وعالم الملكوت الذي هو عالم المواثيق بين الخالق والخلق، وخاصة ميثاق الاشهاد على الألوهية والربوبية وميثاق الائتمان المتعلق بحمل الأمانة. ويرى طه أن هذا المفهوم لم يحظ بما يستحقه من الفلاسفة المسلمين رغم قدرته الفلسفية؛ حيث يتجاوز النظر الملكي الظاهري إلى النظر في الأسرار، ويقر بوجود عالم آخر حقيقي إلى جانب العوالم التي بناها الكثير من الفلاسفة، إضافة إلى طابعه التجريدي. فهو عالم روحي بامتياز. لهذا اعتبر طه عالم الملك مجرد ظاهر لعالم الملكوت مؤكدا الفصل الذي ساد عند المتصوفة وبعض الفلاسفة بين الظاهر والباطن، وكذا فصل العلم الحديث خاصة الفيزياء بين المادي واللامادي. وبعد استعراض طه لأصناف ومراتب الأدوات التي يُتوسل بها لإدراك الباطن بين القائل بوحدة العقل وبين القائل برتبتين للعقل وبين القائل بوجود قوتين إدراكيتين هما القوة العقلية والقوة الوجدانية، يقترح هو تصورا جديدا يجمع بين المواقف الثلاثة السابقة جاعلا من وحدة القلب بديلا عن وحدة العقل الذي تتحقق وحدته بالتبع مادام العقل هو الفعل المميز للقلب، مقرا بتفاوت العقل وجامعا بين العقل والوجدان في موطن هو القلب، هذا القلب الذي يتصل بالنفس والروح معا. فتكون النفس بذلك وسيلة لإدراك عالم الظواهر (الملك أو الإسراء) وتكون الروح وسيلة لإدراك عالم الملكوت (الباطن أو المعراج). وبعد أن يذكر طه بمعالم فلسفته الائتمانية ينتقل إلى الحديث عن ظاهرة العنف محاولا تطبيق هذه الفلسفة على هذه الظاهرة بِرهانين اثنين هما: محاولة فهم ظاهرة العنف ومعالجتها. اكتشاف القدرة التطبيقية لفلسفته التي تعتبر العنف وصفا إنسانيا خالصا، لأن الإنسان العنيف يدرك أن اتيانه لعمله تصرف مؤذ. يرجع طه عبد الرحمان بدابة العنف إلى واقعة قتل قابيل لهابيل التي تتميز بالظلم والجهل. فقابيل كان ظالما لأنه تعدى الحدود وأوقع ألما بالمعنوف عليه، كما كان جاهلا لأنه لم يكن يعرف مآلات جهله، لكن هذا الخطأ القابيلي الأول اتسع ليشمل مجالات مختلفة؛ قانونية وسياسية واجتماعية وتاريخية، مما يصعب معه ايجاد تعريف جامع مانع لمفهوم العنف. مما يميز تصور طه هو جمعه بين مفهومي التطرف والارهاب؛ إذ شاع في الأوساط الفكرية والإعلامية التمييز بينها على أساس أن التطرف عنف قولي، بينما الارهاب عنف فعلي. في حين يرى طه أنهما صنوان؛ اذ تعتبر الفلسفة الائتمانية القول عملا مثله مثل الفعل، فيلزم أن يكون التطرف القولي بمنزلة الارهاب الفعلي، وإن كان البعض يعتبر ذلك حرية رغم ما يسببه من أذى للآخرين بسبب طغيان سلطان الحس عندهم. بل يذهب طه أبعد من ذلك عندما يجعل عنف القول أصلا في وجود عنف الفعل؛ إذ لا فعل إلا حين يسبقه القول؛ استشهادا بنصوص من التراث مفصولة عن سياقاتها، أو ضربا لأمثلة بواقع الظلم، أو تبشيرا بالفوز والخلاص... فتتحول هذه المعتقدات إلى فكرانية تنتج فعلا، وعليه: "فكل تطرف-أو كل تشدد-هو بالقوة إرهاب إلى أن يأتي اليوم الذي يصير فيه إرهابا بالفعل، لأن مآل التطرف-أو التشدد-أن يتنزل على الواقع، حتى لو طال الزمان". ويذهب طه إلى أن العنف يتجاوز عالم الملك (العالم المادي) إلى عالم الملكوت (العالم الروحي)، وهو ما يسميه بالعنف الديني. وهو أشد قبحا من العنف المادي، لأنه يضيف إلى ظلم الخلق ظلم الحق سبحانه وتعالى، ويضيف إلى جهله بالخلق جهله بالحق تعالى. فالعنيف في عالم الملكوت استوجب مبالغة في الصفة فتحول من جاهل إلى جهول ومن ظالم إلى ظلوم، لأنه يقع في نسبة الكمالات الإلهية إلى نفسه؛ إذ يوصله تشدده وغلوه إلى الاعتقاد بأنه يمثل إرادة الله، وأنه يده التي تقطع دابر الظلمة والمفسدين والمشركين، فيغدو بذلك منازعا لله في صفة الربوبية، وتتجسد فيه صفة القهر التي تدفعه إلى إجبار غيره على اعتقاد ما يريد، والعمل بما يريد. وقد أورد طه آيات قرآنية كثيرة تقابل بين صفة التجبر وبين صفات كالإصلاح والتذكير والبر. ومن مظاهر تجبر العنيف سعيه إلى التسيد والرئاسة، ويتجلى ذلك في اختيار الألقاب المميزة كالداعية والمفتي والفقيه والإمام والأمير والخليفة... فضلا عن الكنى التي تذكر بشدة المتقدمين وبأسهم والانتساب إلى بعض البلدان... فيتقدم عنف الاسم على عنف الذات، بالإضافة إلى استثمار وسائل الإعلام والاتصال لإظهار هذا العنف والإعلام به. ومن مظاهر هذا التجبر أيضا تكفير الناس وما دون ذلك من تفسيق وتبديع وتجريم وتضليل، وتعقب معايبهم ومفاسدهم، والتربص بهم والتجسس عليهم، لاعتقاده أن بيده معيار الحق وميزان العدل، وأن له وحده حق الولاية وحق الوصاية وحق الشهادة على الناس، ظانا أنه قد أدرك دون غيره كمال الله وكمال النصيحة. ومن بين مظاهر التجبر التّقتيل. فإسراع العنيف إلى التكفير وتوسيعه له ما هو إلا ذريعة لإضفاء المشروعية على رغبته الدفينة في التصرف بالأرواح؛ فيطلق يده في الناس متفننا في أشكال القتل، موثقا ذلك بالصوت والصورة، غير عابئ بالأفئدة المرهفة جامعا معه جموعا من الخلق لا هي محاربة ولا هي أجرمت في حقه، لكأن العالم كله دار حرب، بل لكأن الوجود مقاتل ومسالخ. ومن مظاهر التجبر التعذيب؛ ويتمثل في انتظار الضحايا لمدد زمنية لا يعلمون نهايتها، والامعان في السخرية منهم، وإشهار السكاكين في وجوههم، ودفن بعضهم أحياء، واتخاذ نسائهم سبايا، وإكراه الآخرين على دخول الإسلام... وهي مظاهر تكشف استهتار العنيف بسنن التاريخ، وقوانين الاجتماع، وضرورات الواقع، وتعميه عن مقاصد الشرع وأسراره. وبقدر هذا التطاول على مقام الربوبية ينال العنيف من الجهل ما يعمي بصيرته. يقسم طه في فلسفته الائتمانية الأفعال إلى قسمين هما الأفعال الاشهادية؛ وتتضمن كل ما يعقد الإنسان عليه قلبه من التصديقات، إن ايمانا أو شعورا أو تصورا أو رأيا أو خبرا أو فكرا أو علما أو ظنا أو خيالا أو غيرها، في حين تتضمن الأفعال الائتمانية كل التصرفات والاشتغالات التعبدية والتعيشية الظاهرة والباطنة. ويرى طه أن أفعال العنيف يمكن تصنيفها بناء على هذا التقسيم إلى أفعال اشهادية؛ تندرج تحتها أفعال كالتّربب والتّكفير، وأفعال ائتمانية تندرج تحتها أفعال كالتّقتيل والتّعذيب. ومن ثم، فإن العنيف لا ينازع خالقه في صفة الجبار فقط، بل ينازعه في ميثاق الاشهاد وميثاق الائتمان، بل يتعدى ذلك إلى قلب الأمور فيتحول عالم الملك إلى أصل وعالم الملكوت إلى فرع. ومن علامات ذلك تشدد العنيف في الدين، وإسرافه في الإيذاء. ويذهب طه إلى أن أصول هذه المنازعة للخالق ترجع إلى فسادين اثنين هما: 1- فساد الفهم للنص؛ أي الالتزام الحرفي بالنصوص الذي يغيّب المقاصد الشرعية 2- فساد فهم الواقع بتجاهل أسبابه لقد كان رد الفعل إزاء العنف محاولة أهل العلم وأهل السلطة التصدي له. فالأوائل عن طريق النصح والتبيين، والثواني عن طريق القوة والتهديد. لكن طه يرى أن الفشل المزدوج لهؤلاء يرجع إلى موقف العنيف المبدئي؛ إذ يتهم العلماء بعلاقتهم مع السلطة، وتخاذلهم عن أداء واجباتهم، وتساهلهم في أمر الدين. لهذا كان الاستشهاد بالآيات والأحاديث وأقوال العلماء لا ينتفع به في صرفه عن مواقفه وأفكاره، لأنه يرى نفسه أفضل منهم وأقدر على الاجتهاد في الدين، وأقرب إلى فهم حقيقته. كما لا ينفع معه استخدام السلطة لأنها تزيده اقتناعا بمظلوميته وحَقّيته، وتشجعه على نشر أفكاره تحت هذا الغطاء. ويرد طه عجز العملاء ورجال السلطة في التعامل مع العنيف إلى لجوئهم إلى النموذج التقليدي في فهم الدين، المتمثل في الاهتمام بالأوامر والنواهي في صيغتها القانونية، دون جانبها الأخلاقي، ودون الاشتغال بمعرفة الآمر الذي أنزلها؛ "فعم الأمر الحياة وانتقل من الدين إلى المجتمع، وتعاقبت أجيال لا تعرف أن تختار ولا تترك من يختار، ولا تعرف أن تحاور ولا تترك من يحاور، حتى ورث الجيل المعاصر نفسية بلا خيرة وعقلية بلا سعة في مجتمع أمري كله". لهذا كان يتعين على العلماء أن يتصدوا لهذه الحالة الأمرية، وأن يصطنعوا منهجا جديدا يشعر العنيف بأنهم أهل لنصحه، وأنهم يعلمون ما لا يعلم، وأن فقههم يعلو على فقهه. بالإضافة عن أن النفس لذّتها في الشيء الجديد، فيصغي غليهم، ويدرك أنهم يخاطبونه بلغة جديدة، وبعقل جديد. ويقتضي ذلك تقديم الأولويات؛ اذ يقدم الجانب الأخلاقي على الجانب القانوني من الأوامر، وتقدم المعرفة بالآمر على امتثال الأوامر. وهذا ما يسميه طه بالنموذج الشاهدي؛ اذ هو نموذج يقوم على علاقة حضور. فمعيار تحقق المرء بالقيم الأخلاقية أن تكون مشهودة في سلوكه، ومعيار تحققه بالمعرفة الإلهية هو أن يستحضر مشاهدة الله له. في حين إن العلاقة الآمرية هي علاقة غياب. ويوكد طه أن هذه الحالة الغيابية تنتج عنها آفات كثيرة؛ منها إقامة العنيف مسافة بينه وبين اعتقاد غيره، قاطعا أسباب التواصل بينهما، واقتناعه بحديث الغربة؛ إذ يتوهم أنه هو المعني به. وما دام تغريب الآخر شرطا في وجوده، فإنه لا ينفك يبعد الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. كما تلازم العنيف فكرة الفرقة الناجية، فيقرن بين جماعته وهذه الفرقة، فيسقط منطقيا باقي الجماعات في النار، فتأتي أفعاله العنيفة مشبعة بالفخر والتعظيم، ليقينه بعلو مكانته عند ربه، وتقربه منه. هذا فيما يخص آثار الآمرية في الاعتقاد، أما آثار الآمرية في الاشتغال، فتتجلى في تحوله إلى امتلاك؛ إذ يرى العنيف أن عمله عبادة، وعمله هو عمل منسوب إليه، وعلامة ذلك شدة التمسك بحرفية النصوص وصورية الأعمال؛ لأن امتلاك الحرف أيسر من امتلاك المقصد، وامتلاك الصورة أسهل من امتلاك الروح. كما أن من آثار الآمرية في الاشتغال تحوله إلى تسييس وتسيّد؛ اذ يحاول العنيف جهد المستطاع فرض نموذج اشتغاله على الآخرين بكل الوسائل؛ ومنها سعيه الحثيث إلى الظفر بالسلطة للتحكم في الرقاب. ولا سلطة إلا على المادة، فينزع من العبادة والمعاملة جانبها الروحي، ويركز على جانبها المادي، ومن ثم يفقد العنيف الدين رسالته الأخلاقية الروحية، ويحتفظ برسومه وقشوره المادية. والأخطر من ذلك، كما يلاحظ طه، هو أن يتحول هذا التميز في الاعتقاد والتملك في الاشتغال من أفعال عقلية إلى أفعال نفسية، فيصبح العنيف محكوما بشهوتين هما "شهوة الميز العقدي" و"شهوة الملك العملي"، وهما شهوتان تخالفان في نظر طه عبد الرحمان مقتضيات ميثاق الاشهاد وميثاق الائتمان؛ لأن مقتضى الميثاق الأول هو الوحدة في الاعتقاد، في حين إن العنيف يتنكر لهذه الوحدة، ويجعل الاختلاف هو الأصل. فلا يعنيه طلب الاتحاد مع الآخر، والبحث عن وجوه الاشتراك معه، بل صار يطلب ويستقصي كل أنواع الاختلاف معه؛ "إذ كلما غالى في ظاهرة التوحيد، ازدادت شبهات الشرك عند الآخر، فيغتنم هذه الفرصة لمزيد التميز". يفقد العنيف الروح الملكوتية بسبب مخالفته للمقتضى الاشهادي، فيصير اعتقاده مجرد ظاهرة اعتقادية، كما يفقد فعله روحه الملكوتية؛ لأنه تحول من ائتمان إلى امتلاك. والغريب أنه: "في ذات الوقت الذي يسعى فيه إلى الامتلاك، يطالب الآخرين بحفظ الائتمان، وقد ينسب إليهم امتلاك ما قد لا يدعون امتلاكه، متهما إياهم بخيانة الأمانة، حتى يبرر انتزاعها منهم بالعنف، مدعيا استرداد الأمانة". ويرى طه أن من الأخطاء التي يقع فيها العنيف، تضييق مفهوم الخلافة في الخلافة السياسية بمعناها التسيّدي (الدولة) وحصر هذه الخلافة في جماعته، ناسيا أنه بهذا العمل يكون قد ادعى امتلاك المطلق. فكان بذلك أبعد الناس عن استحقاق الائتمان عليها. بناء على هذا التحليل النفسي لظاهرة العنف يعود طه ليؤكد أن فهم أسباب العنف يجب أن لا يطلب في إطار العقل، وإنما في اطار أعراض النفس التي يجملها في: الحقد على الحكام شهوة الانتقام هوس تغيير الأوضاع في حين كان ينبغي أن تتخذ هذه المواقف موقفا عقليا، فيتحول الحقد على الحكام إلى استياء من التسلط، وتتحول شهوة الانتقام إلى الانتصاف للذات، ويتحول هوس تغيير الأوضاع إلى محاولة إصلاحها. وبناء على هذه الأعراض النفسية، يرى طه أن جهاد العنيف جهاد معلول؛ لأنه يقع في آفتين اثنتين هما الجهل والظلم. فالعنيف يخل بشرط الجهاد الاعتقادي، وهو الاجتهاد الذي يتمثل في الارتقاء بجهد القراءة والارتقاء بجهد الاستنتاج. وقد أخل العنيف بهما لأنه يكتفي بأبسط القراءات الممكنة، فيكتفي بظاهر النص دون باطنه، ويفضل القراءة التي تفرق دون القراءة التي تجمع وتؤلف، كما يفضل النقد والتجريح دون البناء، ويقصر نظره عن معرفة الواقع والاحاطة بأسبابه والنفاذ إلى مشاكله بكل تعقيداته وتلوناته. كما يخل بجهد الاستنتاج بسبب تلبسه بعنف انفعالاته الذاتية، وعنف الأحدث الطارئة، فتأتي صور استنباطاته للمعاني والأحكام واستقراؤه للأدلة معيبين. أما استنباطه لمقاصد النص التي تورث المعاني الأخلاقية فمراقي دونها خرط القتاد، لذلك يصرف العنيف المتعجل نظره عنها. أما إخلاله بشرط الاستنتاج من الواقع فراجع إلى نظره إلى الواقع باعتبار ذاته هو، فتطغى عليه صور التهويل أو التهوين، ويغلب عليه هاجس التدمير. ومن تجليات تهلهل جهاده الاعتقادي تشدده في مواقفه الفكرية وغلظته في القول وتسرعه في الفعل. أما إخلال العنيف بالجهاد الاشتغالي فيتجلى في تغييبه لمفهوم المجاهدة، التي هي بذل أقصى الجهد في التخلق بهذا العمل. وتتمثل هذه الأخلاقية في قيمتين أساسيتين هما "مخالفة الأهواء" و"محاسبة النفس"؛ بينما العنيف يخالف هاتين القيمتين بسبب انسياقه مع انفعالاته، فيكون حقده على أهل السلطة نتاج دافع التسلط في نفسه، وتكون شهوة الانتقام من الأعداء نتاج دافع العدوان في لا شعوره، ويكون هوس تغيير الأوضاع نتاج دافع إثبات الذات المستحوذ على نفسه. وهذه الآفات لا تمحى، حسب تصور طه، إلا بالمجاهدة؛ أي بذل أقصى الجهد في تصفية الاشتغال من الأهواء. كما أن إخلال العنيف بمحاسبة النفس يزيد من عنفه. فلولا أنه ذهب بعيدا في تزكية نفسه لما أصر على أعماله العنيفة، ولا تباهي بها في وسائل الإعلام، كأن التقتيل الوحشي وسفك الدماء منجز إنساني عظيم وغاية الاستخلاف في الأرض. هذه بعض تجليات العنف الديني وأصوله النفسية. فكيف يتصور الفيلسوف طه عبد الرحمان حل هذا الاشكال، وما هي الآليات العملية والفكرية التي تحول الإنسان العنيف إلى إنسان نافع؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في مقال لاحق إن شاء الله. *باحث من المغرب