الحافز الأساسي لتحرير هذا المقال يستند في المقام الأول، إلى الرغبة في التفاعل والتجاوب مع مقال الأستاذ عبد اللطيف وهبي الموسوم بعنوان "الشعور بموت السياسة". أكيد الأستاذ وهبي أن هناك شعور عميق بالفراغ السياسي في البلاد، وهناك إحباط عميق ناتج عن التهميش والاقصاء، ولا يختلف اثنان أن كل هذا لا يؤدي إلى موت السياسة؛ " مادام هناك مؤسسات، وهناك نظام سياسي، وهناك أحزاب، ثم هناك فاعلون سياسيون، فالسياسة لا تموت"... لا نختلف في ذلك!! لكن في المقابل هناك ممارسات لأحزاب سياسية وفاعلين سياسيين، قد تُؤدي بإصابة السياسة بأمراض مزمنة، تدخلها في حالة موت سريري مجهول الأجل ومُجرد الأمل، وقد يُعلن عن موتها في أي لحظة... فيتعطل ويتوقف الزمن السياسي، فينفصل عن الوجود، وحينها تتوقف دقات نبضات قلب السياسة عن الخفقان، ويضيع الزمن في ملامح حالة ترقب وانتظار المجهول.. فينتاب عامة الناس شعور بموت السياسة، فيرددون عن وعي أو بدون وعي؛ كلمات بالدارجة، حسب كل منطقة وتنوعها اللغوي: " مْشَاتْ السياسة مْعَ مَّلِيهَا"، مَابْقَاتْ سياسة اليُومْ"، " كُلْشِي مْشَا مْعَ مَّلِيهْ"، " الله يَرْحَمْ السياسة و يَرْحَمْ المناضلين لُقْدَامْ"..."يَنْعَلْ جَدْ السياسة"، "أَخْ تْفُو على السياسة"... تعابير مختلفة ومتنوعة عن موت السياسة، بشتى تلاوين المناطق المغربية؛ بتعابير بسيطة وتلقائية، لكنها تنمُ عن شعور شعبي عميق بموت السياسة، في غمرة الاحساس بالمرارة والحزن، وخيبة الأمل لدى عامة الناس، التي ظلت مندهشة بل مصدومة للانحطاط الدراماتيكي للعمل السياسي، الذي دخل سراديب نفق طويل ومظلم، عنوانه هو العبث السياسي. إن الفاعل السياسي يتحمل المسؤولية التاريخية ل "موت السياسة" عفواً "احتضار السياسة"، باختياراته وممارساته... فالفاعل السياسي مسؤول عن هذا الاغتيال من داخل الحزب الذي يمارس به الفعل السياسي. فعندما يختار الفاعل السياسي، حزب مُعين، ليمارس نشاطه السياسي، ويكون هذا الاختيار مبني فقط على قوة ذلك الحزب؛ لا أقصد بقوة الحزب تلك المتمثلة في قوة مشروعه المجتمعي، أو قوة خطابه السياسي، أو قوة برنامجه الانتخابي، أو قوة بنائه التنظيمي، بل أتحدث عن تلك القوة التي يستمدها من قربه من السلطة. أحزاب يغيب عنها البناء وتتحول مؤتمراتها إلى طقوس احتفالية، يتم خلالها حشد الناس للحضور والتصفيق، وتنتهي بمجرد انتهاء اللقاء، فتغيب الارادة الحقيقية في الانفتاح على الطاقات واستقطاب الأطر والكفاءات؛ لا يهمها لا قوة تطوير التنظيم، ولا الهيكلة...أحزاب تتحول إلى دكاكين انتخابية، توزع فيها التزكيات، وتراهن على "المال السياسي"؛ فتتهافت وتتسابق على الأعيان؛ فهمها الأساسي هو الفوز في الانتخابات وعبر أقصر الطرق. ليتحول الحزب لآلة لصناعة كائنات انتخابية لا علاقة لها بالفعل السياسي. ينتقل معها الفعل الحزبي إلى ممارسة مصلحية ترنو إلى المناصب والمراكز وتُنشد المواقع دون أن يكون لذلك أي اعتبار للقيم السياسية؛ وهذا عادةً ما يُضِّر بالعمل السياسي... إذن أمام هذا النوع من الممارسات، وأمام هذه الطينة من الفاعلين السياسيين، من السهل جداً "اغتيال السياسة" أو الاعتقاد ب"موت السياسة"؛ أو على الأقل يتعطل ويتوقف الزمن السياسي؛ في غياب أي فعل حقيقي من الفاعلين السياسيين أو إضافة أي شيء من شأنه إثراء المشهد السياسي، وتجريد الفعل السياسي من أي محتوى فكري أو ايديولوجي. لم تعد أي قيمة للزمن السياسي، ولم تعد الحياة السياسية في المغرب مثيرة. المواطن العادي يجد نفسه أمام فاعل سياسي يشارك في عملية اغتيال السياسة، بانشغاله في تأمين موقعه داخل دائرة السلطة وفق قراءة ذات مضمون سلطوي محض لا يستحضر أدوار وحاجات المجتمع إلى المصالحة مع العمل السياسي والحزبي. فإن من الأضرار البالغة على صورة السياسة؛ أن تظهر هذه الأحزاب في أعين المغاربة بأنها تسعى فقط إلى استقطاب ممن يرون في الحزب تلك المطية للوصول عبر أقصر طريق وأقصى سرعة لمآربهم الشخصية؛ وبالتالي لا تستطيع كسب ثقة المواطنين وتبقى تجتر ماض بئيس، بدون أي مصداقية. إذن السياسة تحتضر.. السياسة تموت.. السياسة تدفن. *باحث في سلك الدكتوراه