"الناس في السياسة عادة لا يختارون من بين الحلول السيئة والحلول الجيدة، لكن بين السيئ والأسوأ" يوسف بناش غريب ملاحظات كثير من الناس، عندما تلتقيهم في أماكن شتى، وهم يرددون بقوة أن الوضع السياسي سيئ، وأن السياسة انتهت. في بعض الأحيان أجاملهم بابتسامة بلهاء، وفي أحايين كثيرة أطرح عليهم السؤال التالي: كيف ماتت السياسة؟ ولماذا؟ فتصطدم بأجوبة في جلها لا موضوع لها. يبدو أن هناك نوعا من الشعور السلبي تجاه السياسي والسياسة، بدأ يرخي بظلاله على عموم الناس، فيعتقدون إن لم أقل يجزمون بأن السياسة انتهت في المغرب، كجواب عن إحساسهم العميق بالفراغ السياسي في البلاد، وهذا الإحساس الذي يسميه الروائيون "الشعور بالخواء"، أصبح ينعكس على مواقف وتصورات الكثيرين. فالمرء قد يستنتج ظلما أو حتى عبثا، أنه تم تهميشه إراديا، فيشعر بالإحباط، ويحكم على السياسة بالسوداوية، وبأن الليل السياسي قد أرخى سدوله على كل شيء، لذلك يستفزهم كثيرا هذا الوضع، وحتى تختلف معهم. دعونا نعيد نطرح السؤال نفسه وبشكل جماعي: هل فعلا انتهت السياسة في بلادنا؟ لا أعتقد ذلك، مادام في المجتمع حركية دائمة، أما هذا السكون، فهو مسألة سياسية مؤقتة. صحيح أن السكون يلتهم ويهدر الزمن السياسي، أو حتى في بعض الأحيان قد يتم توظيفه بشكل إيجابي، إذا استطعنا من خلاله استرجاع أنفاسنا السياسية، غير أنه كلما طال زمن السكون السياسي، إلا وانتقل إلى مستويات أخطر تهدد استقرار الدولة. فالكل يطرح السؤال، خاصة بعد الأزمة الحكومية ثم الزلزال السياسي: وماذا بعد؟ ما البديل؟ ففي السياسة عندما نفكك هندسة وضعية معينة، علينا أن نبني مكانها هندسة أخرى، تكون بديلة لتشغل الناس، وتكون موضوعا للسياسة. قد يقول البعض إن ذلك البناء يحتاج إلى مرحلة انتقالية، أي إلى زمن سياسي، لترتيب الأمور أكثر، وبالتالي، فَهم ما جرى. ويقول البعض الآخر، إن الزلازل لها ارتدادات تحتاج إلى نوع من الإدارة تنبع من أهداف الزلزال نفسه، ومن ثم علينا أن نقيم الزلزال لنفهم الارتدادات، ليس بمنطق الخطأ أو الصواب، بل لاستهداف التوظيف الإيجابي لهما "الزلزال والارتداد" على السياسة، باعتبارها دينامكية لا يمكن التحكم فيها كليا، لأن المداخل كثيرة، فضلا عن أن المتدخلين هم مختلفون ومتعددون، وبالتالي، لا يمكن التعامل مع الوضع السياسي إلا من خلال الرموز والإشارات، وعلى الفاعل السياسي أن يفهمها، رغم اختلاف قدرة الفهم والاستيعاب من فاعل إلى آخر، و من طبقة إلى أخرى، وحتى من قوة سياسية إلى أخرى، بل إن البعض سيجتهد في أن لا يريد فهمها، خاصة وأن من نقائص الشعوب المثيرة للاستفزاز هي قدرة جزء كبير منها على النسيان السريع، أي الانقراض السريع للذاكرة. لذلك، فإن القدرة على فهم الإشارات في التعامل داخل المجال السياسي، لا يتحكم فيه فقط، الوضع الذاتي للسياسي نفسه، بل وكذلك الوضع الذاتي للتنظيمات والمؤسسات، إذ في غياب رد فعل مبني على حقيقة ما وقع، والشعور بالشك في استيعاب فهم ما حصل، يسيطر الجمود الذي يهدر الزمن السياسي، بهدف ترميم ما وقع، فيصبح ذلك الصمت المريب للسياسة هو مصدر فزع الآخرين، أولائك غير المعنيين مباشرة بالسياسة: أي (المواطنون). إن الشعور بموت السياسة، هو شعور قد يكون مبالغ فيه، لأنه مادامت هناك دولة، وهناك مؤسسات، وهناك نظام سياسي، وهناك أحزاب، ثم هناك فاعلون، فالسياسة لن تموت أبدا، لأن موتها قد يهدد الدولة، رغم أن أخطر ما يهدد الدولة هو غياب الإحساس بالمسؤولية تجاه الدولة وتجاه المواطن، في حين أن أخطر ما يهدد السياسة، لا يعود إلى غياب الإحساس بالمسؤولية لدى الفاعلين السياسيين، بل إنه يكمن في اعتقاد البعض منهم بأنهم وحدهم من يملكون الحقيقة، وأن الآخرين عليهم أن يكونوا تابعين لهم مثل القطيع.