بعد أن تناولت في المقال الأول لمحة عن فحوى الكتاب المذكور باستعراض أهم الأفكار والمواقف التي انتهى إليها المؤلف، ازداد شغفي للكتابة وحاولت أن أتفاعل مع فصول الكتاب باستقراء الفصل الأول الذي عنونه الكاتب ب"خريطة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين".. فهذا التنظيم خلافا لما يعتقد البعض لا تكمن قيمته في هيكله بقدر ما يستوعب مجموعة من المفاهيم والقيم التي تحيطه، وتجعله قوة خفية تنقله من هيكل إلى نمط حياة يسعى إلى إقامة دولة داخل الدولة، ومجتمع مهمته ابتلاع المجتمع الأصلي، فهو قراءة في الإطار التأسيسي والأفق التنظيمي، تسعى من خلالها إلى إقامة دولة الخلافة وأستاذية العالم عبر امتدادها خارج الدول العربية والإسلامية. يتسم موضوع "تحولات الجماعات الإسلامية التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أنموذجا" بأنه معقد وذو راهنية، يمتزج فيه الفكر بقضاياه العامة، وتتشابك فيه الخيوط ويتداخل فيه الإيديولوجي بالسياسي، إذ إن المرجعية الفكرية الأساسية للإخوان تمت ترجمتها في التنظيم العالمي من خلال التأثير في التاريخ وفي حركة المجتمع من خلال ممارسة السياسة. وقد ظل هذا التنظيم لعقود طويلة محاطا بالسرية والكتمان، بل إن الكثيرين يرفضون الاعتراف به وبوجوده ويعتبرون الحديث عنه نوعا من المؤامرة المدبرة ضد تيار الإسلام السياسي، إلى أن تم الكشف عن جزء من تاريخه وهياكله من لدن أولئك الذين كانوا بالأمس القريب يرفضون الاعتراف به، وهذا ما دفع الكاتب على امتداد صفحات الكتاب إلى تتبع التحولات الفكرية التاريخية والسياسية للحركات الإسلامية من خلال الكشف عن تفاصيل العلاقة بين فكر الإخوان وممارساتهم، سواء داخل مصر مهد الجماعة أو خارجها، حيث انتشرت فروعها العالمية، وتفاعلات المركز في علاقته مع شبكة الاستثمارات المالية الخارجية. والكاتب لم يمثل لضرورات السرد الكرونولوجي لتطور التنظيم، كما لم يهتم بجينيالوجية المفاهيم الأساسية للإخوان، ولم يستعرض جميع تفاصيل التنظيمات العالمية للإخوان المسلمين، إذ إن هذه الأخيرة كانت موضوع عدة بحوث من زوايا مختلفة. لقد سعى الكاتب إلى الوقوف على شعار "الإسلام هو الحل" الذي ترفعه الجماعات الإسلامية في مواجهات المجتمعات والأنظمة، واعتبره شعارا صداميا يؤسس للمواجهة والتفرقة في مجتمعات لم تكن منقسمة حول موقفها من الإسلام. ويعود بنا الكاتب إلى فترة العشرينيات من القرن الماضي باعتبارها محطة فاصلة ومنعطفا حاسما في التاريخ العربي الإسلامي؛ فسقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م وعودة تركيا إلى حدودها الحالية، ما استدعى أن يكون التاريخ هو المدخل والبداية، إذ إن ميلاد جماعة الإخوان المسلمين يعود إلى سنة 1928م على يد على حسن البنا، الذي آمن وهو يؤسس الجماعة بأنها ذات رسالة عالمية؛ فقد تحدث عنها كبديل لإعادة الخلافة الإسلامية، وحدد هدفه من تأسيسها، وهو السعي نحو الحكومة الإسلامية؛ فالخلافة الإسلامية أستاذية العالم، وهذا ما أكده "جمعة أمين"، مؤرخ الجماعة المعتمد الذي اعتبر أن "الإخوان" استهدفوا بدعوتهم المصريين، ثم توسعوا بالدعوة فشملت الأقطار العربية الشقيقة، ثم تعدت دعوتهم حدود العرب إلى كل مكان في العالم ينتمي إلى الإسلام أو يستشرف إليه ويبحث عنه، باعتبار الإخوان أكبر الفرق الإسلامية السنية، وكانت منذ البداية عالمية في نشر الدعوة. وتتبين طموحات العالمية من خلال المسعى الأممي للجماعة الذي حدده حسن البنا، إذ يعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا مهما تباعدت أقطار حدوده، إذ إن "الإخوان المسلمين" ينادون بأن وطنهم كل شبر أرض فيها مسلم ينطق بالشهادتين. وكانت مؤلفات حسن البنا تنتقد الوطنية والقومية مقابل الدعوة للدفاع عن الإخوة الإسلامية، كإطار للمرجعية السياسية، ويميز بين جانب إيجابي للمفهوم في إطار الحركة الوطنية ضد الاستعمار، في حين يرفض علاقة الولاء بين الفرد والدولة، التي لا تقيم أي اعتبار للعقيدة التي يعتبرها هي التي ترسم حدود الوطن والوطنية وليست التخوم الأرضية أو الحدود الجغرافية، إذ العقيدة الإسلامية تعتبر الأرض كلها وطنا واحدا. وبمجرد أن أرسى حسن البنا قواعد الجماعة، حرص أول قانون للنظام السياسي للإخوان على عالمية هذه الجماعة من خلال إنشائه "لقسم الاتصال بالعالم الإسلامي"، الذي يختلف اختلافا جذريا مع اسمه، إذ سماه البنا بأقل الأسماء تعبيرا عن المضمون، فمن خلال اللائحة الخاصة لقسم الاتصال التي حددت الأهداف المنوطة به: العمل على ربط الأقطار الإسلامية بعضها لبعض وتوحيد السياسة العامة وإزالة عوامل الفرقة والانقسام. تحرير الأقطار الإسلامية من كل سلطات أجنبية؛ وهذا لا يعني عند الإخوان المسلمين المقاومة فقط، بل يعني إذكاء العادات والمظاهر الإسلامية، والبعد عن كل مظهر غير إسلامي. إقامة دولة إسلامية عن طريق حكومة إسلامية، وصولا إلى دولة الخلافة باعتبارها القاسم المشترك للجماعات الإسلامية. إنشاء شعب الإخوان المسلمين. وقد رسخ حسن البنا هذا الامتداد الخارجي ولو نظريا على حد تعبير الكاتب مند سنة 1933م، إذ نجح في تشكيل شعبة الإخوان في جيبوتي، وبعد ذلك اتخذ المؤتمر الثالث للجماعة في سنة 1935م قرارا بتعميم الدعوة في الخارج بمختلف الوسائل، إذ بدأت مرحلة التوسع والانتشار الذي تجسد في المؤتمر العام لسنة 1945م، الذي يعتبر لحظة ميلاد واقعية للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، والذي يعرفه الكاتب بأنه حركة فكرية سياسية تقوم بالأساس على رابط إيديولوجي دعوي يتمثل في المشروع الإسلامي المتمثل في تأسيس دولة وحكومة إسلامية وأسلمة السلوك والنشاط الاجتماعي، وصولا إلى أممية إسلامية تستعيد دولة الخلافة، إذ إن هذا التنظيم، على حد تعبير الكاتب، يعتبر شبكة سياسية عالمية تقوم على مبادئ فكرية محددة في فهمها للإسلام وفي تطبيقها السياسي على المستوى المحلي والدولي. كما أشار الكاتب إلى أن هذا التنظيم كان محط خلاف بين نفي الفاعلين الإسلاميين وإثبات المنافسين السياسيين حول حقيقته، لكن من خلال سرد العديد من الوقائع والمحطات والشواهد التي تؤكد حقيقة وجود التنظيم وامتداده العالمي، الذي يعقد اجتماعات قائمة على الانتماء الإيديولوجي أو التنظيمي. ويستشهد الكاتب برأي حرره الإعلامي المصري في فضائية الجزيرة "أحمد منصور"، صدر في نهاية شهر مارس 2015م، طالب فيه بأن يتم تفصيل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بقيادات تعيش العصر وتعرف واجباتها ومسؤوليتها أمام الله أولا، ثم أمام الناس والتاريخ، وإما أن يتم حله وتسريح من فيه... كما أورد الكاتب مداهمة الشرطة السويسرية في سنة 2001م لمنزل "يوسف ندا"، أحد أكبر قيادات التنظيم، والذي يلقب بوزير خارجية الإخوان، والذي عثر في منزله على وثائق متعلقة بتأسيس مركز عالمي في ألمانيا يضم تنظيمات إخوانية في العالم. وأود الإشارة هنا إلى أن الكاتب من خلال رصده لتحولات الجماعات الإسلامية، من خلال تفاعل المركز وفروعه، تناول أهم المحطات البارزة التي شكلت تحولات مفصلية في تاريخها، كحادثة "المنشية" لسنة 1954م وما أعقبها من فرار أهم القيادات الإخوانية إلى الخارج وتأسيس المركز الإسلامي بميونيخ بألمانيا.. ومرحلة الستينيات التي شكلت منعطفا حرجا للتنظيم، إذ تبلورت المواقف الإيديولوجية من مشروع الدولة، وظهور الفكر القطبي الذي ينظر للدولة بوصفها فاقدة للشرعية، والذي سيكون له تأثير بالغ على فقه الدولة لدى الإخوان؛ في حين تعتبر سنة 1982م لحظة مهمة في تنظيم وإعادة هيكلة وتقوية التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. ويمكن اعتبار "مصطفى مشهور" الأب الروحي للتنظيم؛ في حين شكلت التسعينيات مرحلة تراجع فكرة "أممية إخوانية" لصالح الأفكار والسياسات والتوجهات المحلية، وانعكس هذا الواقع على فلسفة التنظيم. وفي الأخير نتفق مع الكاتب على أنه يصعب حصر أداء الجماعات المنضوية تحت لواء التنظيم، على أن هذه المقاربة لا تقلل من أهمية فروع أخرى للتنظيم في تنفيذ المشروع الإسلامي، لأن لكل فرع ظروف تأسيس وعلاقته مختلفة مع الدول والأنظمة، إذ إن الحكاية نفسها تتكرر والسيناريو واحد، لكن ما بين الأحداث الأولى وما يحدث اليوم تكون العبرة؛ فقد توقف عند الحالة المغربية من خلال حركة التوحيد والإصلاح وحليفها السياسي حزب العدالة والتنمية، على اعتبار أن هذه الحركة تعتبر فرع التنظيم بالمغرب، إذ إن الحديث عن اختراق التنظيم للساحة المغربية تؤكده شهادات رموز فاعلين في تاريخ الحركات الإسلامية وبعض الكتب والمؤلفات التي تتغذى عليها حركة التوحيد والإصلاح فكريا بالمغرب من التلقي إلى الإبداع والإنتاج بكتابات تجيب على أسئلة حركية، على رأسها المشاركة السياسية، فقاربها كل واحد من منظوره.. كما كشفت مجموعة من الأحداث التي جعلت أعضاء الحركة والحزب الإسلامي في المغرب يؤيدون قضايا الإخوان في المشرق ويستضيفون أعضاء التنظيم العالمي لإخوان المسلمين أو يشاركون مع أعضائه من الحركة في لقاءات التنظيم. كما كشف الكاتب أن ذيول التنظيم العالمي تمددت لتصل إلى مناطق دولية، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول القارة الأوروبية، إذ ترجع نشأة الإخوان المسلمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى منتصف الستينيات على يد جماعة من الطلاب من أجل الحفاظ على هويتهم الإسلامية ونشر الدعوة الإخوانية. في حين بدأ المشروع "الإخواني" في اقتحام أوروبا ابتداء من الخمسينيات، حيث كانت وجهة بعض الإخوان الفارين من القمع في بلدانهم العربية. وقد توسع هذا الوجود وبدأ يأخذ أبعادا أكثر تنظيما عبر مؤسسات خيرية ومنظمات دينية تخطط لتكون جزءا مؤثرا في تركيب الوجود الإسلامي المعاصر بأوروبا. وسأتوقف في المقال الثالث عند أولى المحطات التاريخية التي أثرت في مسار وأداء التنظيم بالإحالة على أحداث 11 شتنبر2001م وكيف تعامل معها الفرع المغربي.