جرت العادة أن مجموعة من الكتاب والمؤلفين يغتنمون فرصة تنظيم المعارض الدولية للكتب لإخراج مؤلفاتهم، وفي هذا السياق عرض المعرض الدولي للكتاب والنشر بالدار البيضاء صدور مؤلف رجل السياسة الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العماري، بعنوان "تحولات الجماعات الإسلامية-التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أنموذجا"، وهو كتاب من الحجم المتوسط من 193 صفحة، منشورات الفاصلة طنجة، تتصدره كلمة شكر لمؤلف قام بتقديمه د. ادريس الكنبوري، ثم مقدمة ومدخل وأربعة فصول، وينتهي بخاتمة ثم ملحق وبيبلوغرافيا. قيمة هذا الكتاب تكمن في راهنيته حيث تجتاز الحركات الإسلامية منعطفا حاسما يسائل فيها الكتاب هويتها الإيديولوجية والسياسية، كما يسائل مشروعاتها المجتمعية وأنماطها الفكرية، لاسيما بعد ما اصطلح عليه الربيع العربي، الأمر الذي يطرح أمامها مشكلة التكييف مع محيط مضطرب أصبح العنف الملتبس بالدين الطابع العام المهيمن، فالكاتب لا يسعى من خلال كتابه إلى تأييد أطروحته بقدر ما يسعى إلى فهم القارئ لأطروحته على وجهها، ويبقى بعد ذلك حق الاختلاف. بداية نثمن ونحيي الكاتب على جرأته وشجاعته الفكرية لاقتحامه موضوعا ظل لعقود طويلة الحديث عنه مؤامرة مدبرة ضد تيار الإسلام السياسي، موضوع معقد وذو راهنية تتشابك فيه الخيوط وتتداخل بين ما هو إيديولوجي وسياسي. كشف الكتاب أن إلياس العماري ليس رجل سياسة فحسب، بل كذلك رجل فكر لديه تصور محدد حول مشروعه السياسي، يذكرنا بالرعيل الأول من السياسيين المغاربة الذين كانوا رجال فكر بامتياز وأصحاب قلم، يعتبرون العمل السياسي بدون رؤية ثقافية بمثابة ساحة في الفضاء، لقد أعاد إلياس من خلال هذا الكتاب مد الجسور بين الفكر والسياسة باعتبارهما وجهان لعملة واحدة. لقد شغل موضوع هذا الكتاب العديد من الباحثين على اختلاف توجهاتهم لارتباطه بإشكالية معقدة لا تنحصر في النموذج الإسلامي فحسب، ألا وهي علاقة الدين بالسياسة من زاوية تحولات الجماعات الإسلامية- التنظيم العالمي للإخوان المسلمين أنموذجا، من خلال تتبع التحولات الفكرية والتاريخية التي عرفتها هذه التنظيمات ورصد التفاعل بين المركز والفرع، باستحضار تفجيرات 11 شتنبر بأمريكا والربيع العربي، انتهاء بما يسمى ب"ما بعد الإسلامي السياسي"، وتحليل الشعار العام الذي ترفعه الجماعات الإسلامية "الإسلام هو الحل"، الذي يعتبره الكاتب شعارا صداميا يؤسس للمواجهة والتفرقة في مجتمعات لم تكن منقسمة حول موقفها من الإسلام. لقد تطرق الكاتب في الفصل الأول المعنون ب"خريطة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين" إلى الإطار التأسيسي لهذا التنظيم، باعتباره فكرة سياسية تستنبط نموذج الجماعة الأم لتحقيق جماعة أممية تقود الأمة الإسلامية، بإقامة الشريعة وأسلمة السلوك والنشاط الاجتماعي، وصولا إلى إقامة دولة الخلافة. فقيمة التنظيم لا تكمن في شكله أو جوانبه التقنية، وإنما في مجموعة المفاهيم والقيم والعادات التي تسيجه وتحوله إلى قوة تنقله من هيكل إلى نمط حياة، فمفهوم الجماعة الذي يتطابق مع حركة الإخوان يسعى إلى إقامة دولة داخل دولة ومجتمع مصغر مهمته ابتلاع المجتمع الأصلي. كما رصد الكاتب ظروف تأسيس التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ليؤكد أن الأمر يتعلق بشبكة عالمية منظمة تقوم على مبادئ فكرية محددة في فهمها للإسلام، وفي تطبيقها السياسي للإسلام، سواء محليا أو دوليا، ثم عرج ليثبت من خلال جملة من الدراسات والمقالات وشهادات كتبها رموز فاعلون في تاريخ الحركة الإسلامية السياسية الارتباط الإخواني بالمغرب بالتنظيم العالمي للإخوان. ثم تناول الكاتب امتداد التنظيم ليس على المستوى الأفقي فقط، أي داخل مصر والأقطار العربية، بل امتد ذيول هذا التنظيم ليصل إلى مناطق دولية من قبيل القارة الأوروبية والأمريكية. كما تطرق الكاتب في الفصل الثاني المعنون ب"الإخوان المسلمين وتفجيرات نيويورك وواشنطن 11 شتنبر 2011 وعلاقة الغرب بالإسلاميين" لاستفادة أحزاب الإسلام السياسي، وفي مقدمتها التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، من تفجيرات 11 شتنبر 2011، من خلال دعم الإدارة الأمريكية والدول الإسلامية لأحزاب الإسلام السياسي لمواجهة العمل الإسلامي الجهادي، وإن كان البعض يرى أن دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية للإخوان ليس وليد اللحظة؛ فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي رأت الولاياتالمتحدة أنه يجب أن تحكم بالدين باعتبار أن الثقافة الدينية المتجذرة في المنطقة بإمكانها أن تخلق الاستقرار، فلم تمانع أن تحل الحركات الإسلامية المعتدلة السائرة على نهج الإسلام الليبرالي الأمريكي محل الديكتاتوريات الآفلة في تونس (النهضة)، ومصر (جماعة الإخوان المسلمين)، وليبيا (الإخوان)، واليمن (حزب الإصلاح السياسي)، وسوريا (جماعة الإخوان). في حين تطرق الكاتب في الفصل الثالث المعنون ب "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين والربيع العربي"، للعوامل الداخلية والسياسية والاقتصادية التي كانت وراء اندلاع موجة الربيع العربي، والتي كان من نتائجه سقوط بعض الأنظمة، وإعادة صياغة مجموعة من الدساتير، وتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في جميع الدول التي مر منها الحراك، وقد وجدت أحزاب الإسلام السياسي ضالتها في هذه الأحداث لتتصدر المشهد السياسي الانتخابي. لقد أوحت هذه النتائج لحزب الإخوان بأن حلم حسن البنا بإقامة دولة الخلافة بات وشيكا تحقيقه من خلال إقامة صرح الدولة الإسلامية الواحدة التي يجتمع حولها المسلمون في أنحاء العالم، وأن الصورة الوحيدة لهذه الدولة هي دولة الخلافة، أو دولة الخلافة الثانية، أو استعادة دولة الخلافة، من خلال التمكين باعتباره الآلية التي تمكن ممن تغلغل الجماعة في طبقات المجتمع الحيوية وفي مؤسساته الفاعلة مع الالتزام باستراتيجية محددة في مواجهة قوى المجتمع الأخرى والتعامل مع قوى العالم الخارجي، أو عن طريق إحياء الفريضة الغائبة المتمثلة في الجهاد لقيام نظام عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته يتضمن حكومة راشدة وأستاذية العالم، هذه التصريحات الصادرة عن قيادات الجماعة أججت حفيظة المعارضين لنظام الخلافة الإسلامية من متبني الفكر العلماني. كما كشف الكاتب أن الربيع العربي كانت له نتائج متباينة على حركات الإسلاميين بشكل عام، سواء تعلق الأمر بالإخوان أو السلفيين أو الدعويين أو القتاليين. ففي المغرب تولى حزب العدالة والتنمية قيادة الحكومة المغربية، كما هو الحال في تونس مع حركة النهضة، إلا أن الأمر كان مختلفا في النواة، أي مصر، حيث اندلعت ثورة مضادة أطاحت بمرشح جماعة الإخوان من كرسي الرئاسة. وفي آخر هذا الفصل استعرض الكاتب المحطات البارزة للتخبط الذي عرفه الإخوان المسلمون قبل بلوغ الرئاسة، كما أشار إلى الأسباب الكامنة وراء اندلاع ثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت بمرشح الجماعة من سدة كرسي الرئاسة. في الفصل الرابع المعنون ب "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ومخرج ما بعد الإسلام السياسي"، الذي خصه الكاتب بأكثر الصفحات مقارنة مع بقية الفصول (39 صفحة)، يعتبر بحق السؤال الذي يفرض راهنية، ففي البداية اعتبر الكاتب أنه إلى غاية منتصف 2016 كان التنظيم العالمي للإخوان المسلمين يعيش التشتت وتباين فروع الحزب، إضافة إلى ارتفاع حدة التوتر بين دول المنطقة والحركات القتالية الإسلامية، فوجدت الجماعات الإسلامية أمام خيارات عدة. وقد عرج الكاتب على التجربة التركية من خلال حزب العدالة والتنمية التركي الذي لجأ إلى المطالبة بالشرعية الإسلامية من خلال مصطلحات ضمنية ذات مرجعية ذاتية: التعددية، سيادة القانون، حرية التعبير، فهذا الحزب يجسد تطورا ما بعد إسلامي نموذجا يعمل الإسلاميون على جذوة في صناعة نموذج الديمقراطية، فحزب العدالة والتنمية التركي خاض السياسة باسم الشعب لا الإسلام، وزاوج بين خدمة الناس وخدمة الله في انفصال عن الإسلام السياسي؛ ذلك أن حزب العدالة والتنمية يعكس بالتأكيد حركة ما بعد إسلاموية تحافظ على روابطها بالإسلام في المجال الاجتماعي فيما ترفضه كبرنامج سياسي من خلال بناء مجتمع تقني في إطار دولة علمانية ديمقراطية. ثم بعد ذلك، انتقل الكاتب إلياس العماري إلى الحديث عن تمثلات التنظيم العالمي للإخوان لأطروحة ما بعد الإسلام السياسي، ويتجلى ذلك على مستوى المراحل التي صاحبت هذا الانتقال والعقلية القطبية للمحيط الداخلي للتنظيم والارتباطات التنظيمية بالمحيط الإقليمي، مما كان له الأثر الكبير في حياة التنظيم محليا وخارجيا. كما تناول الكاتب ما بعد الإسلام السياسي عند إخوان تونس، ففي البداية أشار إلى العلاقات التنظيمية التي تجمع حركة النهضة التونسية بالتنظيم العالمي للإخوان المسمين، وقد اعتبر أن الفرع التونسي هو أقرب الفروع إلى الأطروحة ما بعد الإسلام السياسي، من خلال تحويل النهضة إلى حزب يعمل في الحقل السياسي فقط تاركا الشأن الدعوي للجمعيات المدنية. وفي آخر فقرة، تناول الكاتب ما بعد الإسلام السياسي عند حركة التوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية بالمغرب، وتوقف عند بعض المحطات الحركية التي تكشف عكس ما يدعيه الفرع (حركة التوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية) من ارتباط بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ثم لامس الكاتب بعد ذلك التناقضات الكبيرة التي تعتري تطيق مفهوم ما بعد الإسلام السياسي على الحركات الإسلامية الإخوانية على اعتبار أن التجربة المصرية قابلة للتطور، إلا أن المسألة مختلفة مع الحالة التونسية والمغربية وربطها بضرورة انخراط الجماعات الإخوانية في مراجعة خطابها الإخواني وقراءة تصورها لشكل الدولة المنشودة هل هي دولة دينية أم دولة مدنية أو دولة بين المرتبتين. في خاتمة هذا الكتاب توصل الكاتب إلى خلاصات عدة: -اختلاف التجارب الإخوانية يعيق تأسيس كيان قوي للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين. -خصوصية الأنظمة وكيفية تعامل فروع التنظيم يصب في إعاقة أهداف التنظيم العالمي لإخوان المسلمين. -يعتقد الكاتب أن انخراط الإسلاميين في التعامل السياسي أفقدهم الطهرانية المدعاة، التي كانت مرتبطة بهم في فترة الدعوة، مما يفرض إعادة النظر عند الجماعة في فكرة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين. -ساهمت الجماعات الإسلامية القتالية في خدمة فكرة التنظيم العالمي للإخوان، لكن تطورات الربيع العربي ومباركة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تدخلت من أجل صعود الأحزاب الإسلامية، لكن هذه المساعدة قوبلت بالرفض من طرف أغلب الدول العربية، أفرزت مجموعة من التطورات المدمرة. -منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 وتاريخ الإطاحة بممثل الجماعة في الدولة المصرية الرئيس السابق محمد مرسي 2013 مرت ثمانية عقود، ما يتطلب مراجعة المفاهيم والمواقف والقرارات التي تشتغل بها الجماعة. -إن شعارات الحراك العربي كانت تطالب بالحرية والكرامة والشغل ومحاربة الفساد فلم تبن دولة الخلافة أو تطبيق الشريعة؛ لذا يجب على جماعة الإخوان المسلمين مراجعة وثائق الجماعة. -إن مجموعة من المفاهيم المرتبطة بالجماعة تعيق تأقلم الجماعة واندماجها في المجتمعات العربية. -من حق الجماعات الإسلامية الانخراط في العمل السياسي لكن بشرط أن يبقى الانخراط مؤسسا على النسبية. -أصبحت العلاقات الدولية تتسم بالتعقيد؛ لذا يجب على الأنظمة الوطنية التركيز على برامج التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقرة والهشاشة والإقلاع الاقتصادي لأن البعد الاجتماعي والمادي من الأبعاد التي تقف وراء تأسيس الجماعات الإسلامية في المنطقة. -فتح قنوات الحوار بين مختلف الفرقاء السياسيين تحت سقف المصلحة الوطنية.