بعد ربع قرن من المراهنة على عملية التسوية السياسية برعاية أمريكية، ووصول المراهنة على الأممالمتحدة وخصوصا مجلس الأمن للحصول على قرار بالاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال إلى طريق مسدود، وبعد انقلاب إدارة ترامب على مرجعيات التسوية وعلى الشرعية الدولية وانحيازها الكامل إلى جانب إسرائيل... وجهت القيادة الفلسطينية أنظارها للبحث عن آلية جديدة تتمثل في الدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام ووسيط دولي جديد مع استمرار المراهنة على الأممالمتحدة . استمرار القيادة الفلسطينية في المراهنة على الشرعية الدولية وآلياتها لحل النزاعات الدولية، وعلى وسيط جديد للتسوية، دون مراجعة وتقييم مجمل السياسة الفلسطينية منذ أوسلو إلى الآن، يطرح تساؤلات عميقة عما يمكن تحقيقه من الشرعية الدولية، وما إن كانت المشكلة تكمن فقط في واشنطن كراع غير محايد . دون التقليل من أهمية الدبلوماسية الدولية وضرورة التواجد في المحافل الدولية، ودون تغافل أهمية رفع راية السلام والمطالبة بتسوية سياسية عادلة، يجب التوقف والتفكير في النقاط التالية: 1- إن للعمل الدبلوماسي والشرعية الدولية حدودا لا تتجاوزانها. وفي سياق كل حركات التحرر العالمي كان العمل الدبلوماسي والدعم الدولي عاملا مساعدا وليس مقررا في نيل الحرية والاستقرار. العامل المُقرِر في نيل الحرية والاستقلال هو مقاومة الشعوب للاحتلال إلى درجة تشعر هذا الأخير بأن احتلاله مُكلف، وبأن خسائره أكثر بكثير مما قد يجنيه من احتلاله، بالإضافة إلى ما يترتب عن حالة التصادم بين الشعب الخاضع للاحتلال ودولة الاحتلال من تهديد للاستقرار والسلام العالمي ولمصالح الدول الكبرى، الأمر الذي يدفعها للتدخل لحل الصراع . 2- القضية الفلسطينية حاضرة دوليا أو مدولة منذ 1947 عندما صدر قرار التقسيم، بل قبل ذلك مع صك الانتداب على فلسطين في عهد عصبة الأمم. وكانت اللحظة الفارقة والمتميزة لحضور فلسطين كقضية سياسية على أجندة الأممالمتحدة عندما استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس أبو عمار عام 1974، بصفته رئيس منظمة سياسية تمثل حركة تحرر وطني ترفع شعار تحرر كل فلسطين بالعمل العسكري والسياسي معا، وليس بأي صفة أخرى، وما ترتب عن ذلك من اعتراف بمنظمة التحرير كعضو مراقب. بعدها صدرت عشرات القرارات الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه . 3- علينا التذكير بأن قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أعطى اليهود دولة على 50% وللعرب الفلسطينيين 45% من مساحة فلسطين، أي أكثر مما يمنحنا القرار الذي صدر عام 2012 من نفس جهة إصدار القرار الأول، وأكثر مما يأمل المفاوضون الفلسطينيون اليوم من أي تسوية جديدة؛ فسقف مطلب القيادة الفلسطينية اليوم دولة تحت الاحتلال على مساحة 22%. 4- تراجُع البعد الدولي للقضية واستبعاد الشرعية الدولية بدأ مع اتفاقية أوسلو وبموافقة فلسطينية عندما قَبِلت منظمة التحرير المفاوضات السرية وتوقيع اتفاقية أوسلو ولواحقها. ولم تكن هذه الاتفاقيات اتفاقيات دولية بل اتفاقيات ثنائية يحكمها مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين". 5- علينا التذكير بأنه وطوال تاريخ الأممالمتحدة لم تنجح هذه الأخيرة في حل أي من الصراعات والمشاكل الدولية، وحتى الآن فإنها فشلت في حل الصراعات الدائرة في ليبيا وسوريا واليمن والعراق وصراعات منطقة البلقان وأزمة كوريا الشمالية الخ، كما أنها لم تستطع وقف العدوان الإسرائيلي وسياساته الاستيطانية، وكل ما صدر عنها منذ 1947 كانت قرارات غير ملزمة، فكيف ننتظر منها اليوم أن تحل الصراع الفلسطيني مع إسرائيل المدعومة أمريكيا . 6- المبالغة في تظهير النخب السياسية للمنجزات الدبلوماسية قد يؤدي إلى تجاهل ما يجري على أرض الواقع من فشل للنظام السياسي، سواء في مواجهة الاستيطان والعدوان أو إنهاء الانقسام . 7- تضخيم النخب السياسية للإنجازات الدبلوماسية هدفه تضخيم وتعظيم الأشخاص القائمين على الدبلوماسية، والإيحاء بأن هذه المنجزات منجزاتهم، متناسين أن التأييد الدولي لفلسطين كان أكبر وأعظم بكثير مما هو متواجد الآن، وأن هذا التأييد يأتي بالأساس تعاطفا ودعما للشعب الفلسطيني ومعاناته في قطاع غزة والضفة، واستنكارا للإرهاب والعدوان الإسرائيلي المتواصل عسكريا في قطاع غزة وفي الضفة من خلال الاستيطان والتهويد؛ وبالتالي الفضل يعود للشعب وليس للنخب السياسية . 8- يبدو أن بعض مكونات النخب السياسية التي تسللت إلى مركز القرار تبحث عن انتصارات وهمية أو رمزية لُتخفي وصول خياراتها إلى طريق مسدود، ولتكسب مزيدا من الوقت لتستمر في مواقعها المربحة والمريحة لها وعائلاتها وشبكة المصالح والارتباطات الداخلية والخارجية التي تشكلت خلال ربع قرن من الزمن، موظفة في ذلك غياب البدائل الوطنية الجادة وفزاعة حماس وتجربتها الفاشلة في قطاع غزة، وارتباط حياة الشعب بالرواتب وما تتيحه السلطة التي تسيرها من متطلبات للمواطنين تلبي الحد الأدنى من ضروريات الحياة . 9- الممكن ليس بديلا عما يجب أن يكون، إذ ترى القيادة السياسية أن ما تقوم به يندرج في إطار سياسة تحقيق الممكن، أو أن السياسة هي فن الممكن، وأنه في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة لا يمكن تحقيق أكثر من ذلك!. وهنا يجب التأكيد أن تحقيق الممكن ليس بديلا عما يجب أن يكون، ولا يمكن أو يجوز استمرار النخب السياسية في تبرير عجزها وفشلها بالقول إن هذا هو ما يمكن تحقيقه. قد يكون ما يمكن تحقيقه في ظل استمرار نفس تركيبة النظام السياسي ونخبه وفي ظل سياسة المراهنة على الخارج، ولكن في حالة البحث عن خيارات أخرى، وخصوصا ممكنات وقدرات الشعب، وفي حالة تغيير النخب وإعادة استنهاض الحالة الوطنية، فإن حدود الممكن تتوسع كثيرا . 10- إن استمرار اشتغال القيادة الفلسطينية في حدود الممكن وتطويع القضية الفلسطينية لحسابات موازين قوى آنية، مقابل اشتغال إسرائيل وبالقوة الغاشمة على فرض سياسة ما يجب أن يكون أدى إلى تراجع إستراتيجي في الجانب الفلسطيني . 11- خطاب الأخلاق والشرعية الدولية لوحده لا يمكنه مواجهة السياسة الواقعية التي تنتهجها إسرائيل وكل العالم، حتى الدول المتعاطفة مع عدالة القضية الفلسطينية. قد يردوا علينا بخطاب أخلاقي وبالتمسك بالشرعية الدولية، ولكنهم في النهاية سينحازون إلى مصالحهم وسيتعاطون مع موازين القوى القائمة . 12- الأممالمتحدة والنظام الدولي بشكل عام ليس نظاما ديمقراطيا يقوم على حكم الأغلبية وخضوع الأقلية، بل مؤسسة أو نظام قائم على توازن القوى والمصالح وسيطرة الدول العظمى، لذا فإن اعتراف غالبية دول العالم بالدولة الفلسطينية لن يتحول لواقع أو أمر ملزم حسب المنطق الديمقراطي . 13- يجب التذكير بأن روسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة كانت جزءا من الرباعية الدولية التي ترعى عملية التسوية منذ 2002، بالإضافة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ ومع ذلك لم يفعلوا شيئا وتركوا لواشنطن التحكم في مسار المفاوضات والتسوية. 14- صحيح أن واشنطن وسيط غير نزيه وغير محايد، ولكن المشكلة لا تكمن هنا فقط، فالوسيط يجب أن يكون محايدا وقادرا في نفس الوقت. ولا يبدو أن أي طرف دولي قادر على الحلول محل واشنطن، وكل من روسيا الاتحادية وفرنسا أعلمتا القيادة الفلسطينية بأنه لا يمكن تجاوزها، بل إن مصر والأردن أعلنتا بوضوح ألا بديل عن واشنطن في رعاية عملية التسوية . 15- حتى مع تواجد وسيط نزيه ومحايد وقادر وآلية بديلة عن اتفاقات أوسلو فالأمر يحتاج إلى تغيير في موازين القوى وفي الإستراتيجية الفلسطينية للمفاوضات ولطاقم المفاوضات؛ فلا يُعقل أن الذين فاوضوا طوال ربع قرن وفشلوا يعودوا مجددا لطاولة المفاوضات. وأخيرا، وحتى تكون الجهود الدبلوماسية ذات جدوى، فإنها تحتاج إلى جبهة وطنية موحدة. في هذا السياق، وفي ظل التحديات الكبرى على كافة المستويات، وقبل انعقاد المؤتمر الدولي للسلام الذي طالب به الرئيس أبو مازن في خطابه في مجلس الأمن يومه الثلاثاء 20 فبراير، فإن الأمر يحتاج إلى سرعة إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ تهيئ الأوضاع لانتخابات خلال فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، مع توافق وطني بأن الحكومة التي ستتشكل بعد الانتخابات تكون حكومة وحدة وطنية بغض النظر عن الحزب الفائز أو نسبة ما يتحصل عليه من الأصوات.