لا ننكر أهمية العمل الدبلوماسي والشرعية الدولية حتى نحافظ على حيوية القضية الوطنية واستمرارها حاضرة في الوجدان الإنساني والمشهد الدولي وحتى لا يتم نسيانها في ظل الفوضى التي تعم المنطقة ، كما لا نبخس من قيمة الجهود الدولية الحثيثة للرئيس أبو مازن للاشتغال على القضايا الكبرى كالدولة والقدس واللاجئين حتى في ظل تعنت إسرائيل ورفضها التعامل مع هذه القضايا . لكن الدبلوماسية أداة وجزء من استراتيجية وطنية شمولية ، ولا توجد دولة في العالم أو حركة تحرر وطني تعاملت مع الدبلوماسية كإستراتيجية عمل وحيدة مُغيبة الأدوات الأخرى السياسية الأيديولوجية والاقتصادية والعسكرية والأمنية ، فالدبلوماسية تنجح بقدر تفاعلها واعتمادها أوراق القوة الاخرى وخصوصا قوة ووحدة الشعب والتفافه حول قيادته ومقاومته للاحتلال . المفاوضون والمكلفون بالدبلوماسية ، يتصرفون مع الأممالمتحدة والشرعية الدولية بارتجالية وتجريبية ، فتارة يتجاهلونها نهائيا وتارة أخرى يرتمون في احضانها كالغريق الذي يتشبث بقشة ، دون استفادة من الماضي ومنجزاته والشعب وقدراته ، وهو الأمر الذي لن يُنتج إلا مزيدا من الفشل أو إنجازات شكلية غير قابلة للدوام . أيضا يبدو أن الدبلوماسية الفلسطينية انتقلت من فلسفة وإستراتيجية (الحياة مفاوضات) إلى فلسفة وإستراتيجية (محكمة الجنايات الدولية والشرعية الدولية حتى الممات) . حتى الهبة الحالية لم تغير شيئا من هذه الإستراتيجية حيث أقصى ما تقوم به السلطة والمنظمة للدفاع عن الشعب والأرض والمقدسات مجرد إحالة ملف الشهداء وما تقوم به إسرائيل من ممارسات إرهابية إلى محكمة الجنايات الدولية ! دون أن تفتح المحكمة حتى اليوم تحقيقا في أي من الملفات المُحالة لها . المشكلة لا تكمن في التعامل مع الشرعية الدولية بكل تفرعاتها بل في ارتجالية هذا التعامل وغياب الرؤية الاستراتيجية والهدف . الشرعية الدولية تمنح الشعب الخاضع للاحتلال الحق بمقاومة الاحتلال وحق تقرير المصير وتوفر له منبرا لمخاطبة العالم الخ ،ولكن المشكلة في المراهنة عليهما ورهن مصير الشعب والقضية بقرارات قد تصدر منهما ، دون التفكير باستراتيجيات موازية وداعمة ، إستراتيجيات تبحث عن عناصر القوة عند الشعب ، وتضمن خط العودة لحالة التحرير الوطني في حالة فشل كل جهود التسوية السياسية . ولنأخذ مثلا كيف تم التعامل مع الافكار الفرنسية وكيف بدأنا نخسر قبل أن تُكتمل المبادرة الفرنسية وقبل ان يُعقد المؤتمر الدولي المنشود . للأسف تصرفت الدبلوماسية الفلسطينية مع المبادرة الفرنسية بعقلية ونفسية المنهزم وكالغريق الذي يتشبت بقشة ، الأمر الذي جرأ بداية فرنسا نفسها للتراجع عن تعهدها بالاعتراف بدولة فلسطين في حالة فشل مبادرتها ، ثم شجع واشنطن ودول غربية للتحفظ على الأفكار الفرنسية ، أما إسرائيل وكعادتها فقد انتظرت حتى أعلن المتحدثون الرسميون الفلسطينيون عن تراجعهم عن مواقف سابقة ، خصوصا الذهاب لمجلس الأمن لإدانة الاستيطان وتفعيل إجراءات محكمة الجنايات واستعدادهم لتقديم بعض التنازلات ، بالإضافة إلى احتدام الخلافات الفلسطينية الداخلية حول المبادرة الخ ، انتظرت إسرائيل كل ذلك لتعلن رفض المبادرة الفرنسية . نتفهم أن تتعامل القيادة الفلسطينية مع الافكار الفرنسية وأي افكار أخرى تُخرج عملية التسوية من الجمود وتُحررها من قيود والتزامات اتفاقية أوسلو ، ولكن كان الأمر يحتاج ، قبل أن تقديم تنازلات والتراجع عن قرارات سابقة كالذهاب لمجلس الأمن أو تفعيل إجراءات محكمة الجنايات ، التوقف عند القضايا التالية وتفحصها جيدا : 1- هل يوجد قرار نهائي للخروج من التزامات أوسلو ومن التسوية الأمريكية أم أن الأمر مجرد مناورة لتحسين ظروف وشروط العودة للمفاوضات مجددا ؟ . 2- استعداد من خلال توافق وطني ولو في إطار منظمة التحرير حول الأفكار الفرنسية ، خصوصا أن في المبادرة قضايا تنتقص حتى من الحد الادنى الذي تلتزم به القيادة ، والمبادرة محل خلاف فلسطيني ، وبالتالي كان الأمر يحتاج للتنسيق والتفاهم مع الشعب والأحزاب الفلسطينية من خلال فتح نقاش مع كل فعاليات المجتمع . 3- النظر فيما إذا كان نفس الفريق المفاوِض الذي تمت تجربته لأكثر من 24 سنة وتقتصر خبرته على المفاوضات الثنائية والذي يؤمن (أن الحياة مفاوضات) مؤهلا للاستمرار في موقعه والتعامل مع الشرعية الدولية وقيادة المرحلة القادمة . 4- فهم وإدراك لحقيقة الأفكار الفرنسية وقدرة فرنسا على أن تطرح وتفرض مبادرة ورؤية سياسية تتعارض مع الرؤية الأمريكية . 5- غياب استراتيجية بديلة أو وضوح في خط الرجعة في حالة فشل المبادرة الفرنسية . لا نعتقد أن أصحاب القرار في السلطة والمنظمة جاهلين حقيقة محدودية قدرة وصلاحيات محكمة الجنايات الدولية على معاقبة القادة الصهاينة ووقف العدوان الصهيوني حالا ومستقبلا ، أو يجهلون أن الشرعية الدولية خاضعة لموازين القوى الدولية ولسطوة القرار الأمريكي ، أو يجهلون محدودية قدرة فرنسا على طرح وتطبيق مبادرة جديدة ، ولكن مشكلتهم أنهم يعتقدون أن الدبلوماسية والمفاوضات تعتمد فقط على الجهود والقدرات الشخصية ، وأنهم لا يحتاجون للشعب بل حتى لا يحتاجون للخبراء والمتخصصين من أبناء الشعب ، وفي حالة استعانتهم بالخبراء يختارونهم من الأجانب أو فلسطينيين منقطعين الصلة بالشعب وبما يجري على الأرض من أحداث . الإرباك والتردد ما زالا يهيمنان على عملية صناعة القرار والمفاوضون الفلسطينيون لم يتعلموا شيئا خلال 24 سنة من التفاوض مع إسرائيل وواشنطن . تسرعوا بتقديم تنازلات أو التلويح بتقديمها فيما لم تعلن إسرائيل موقفا واضحا من المبادرة في البداية ، وفي اللحظة المناسبة تم رفض المبادرة ، حتى واشنطن لم تُعلن موافقتها بعد على المؤتمر الدولي الذي تتحدث عنه المبادرة ، مما أربك القيادة الفلسطينية ، ويظهر الارباك والتردد أيضا بالنسبة لعدم تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وتنفيذ قرارات المجلس المركزي للمنظمة بالنسبة للتنسيق الأمني ، وعدم التفاعل مع الهبة الشعبية يندرج في نفس السياق ، حيث كان التردد والتأجيل ضمن مراهنة على المبادرة الفرنسية والرغبة في عدم إغضاب باريسوواشنطن . والآن و بعد رفض إسرائيل للمبادرة الفرنسية فماذا نحن فاعلون ؟ .