الحلقة الثانية مقولات النهايات: درس أولي لتجديد أدوار للمثقف نبدأ بالتفكير في مبرّرات تجديد أدوار المثقف، باستحضار دخول العالم زمنا جديدا بات يعرف بزمن النهايات: نهاية الحرب الباردة، نهاية التاريخ، نهاية الجغرافيا، نهاية الإيديولوجيا، نهاية المثقف، نهاية الفلسفة الخ...، وهي مقولات شكلت نهاية الألفية الثانية بيئة ملائمة لاستنباتها وتخصيبها، وإن كانت مقولة النهايات ليست فكرة جديدة ، حيث وجدت جذورها في الميثولوجيا الإغريقية، وفي الديانة المسيحية وفي الخيال العلمي. ولم يخل التراث الإسلامي هو أيضا من حديث النهايات وعلامات الساعة، سواء في النص القرآني والمتن الحديثي، أو في فكرة المهدي المنتظر الذي يخرج في آخر الزمان. كما ينشط حديث النهايات في التاريخ عند اشتداد الأزمات والانهيارات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية، أو عند عتبة المآزق السياسية والتصدعات الاجتماعية، أو عند حدوث أزمات داخلية في العلوم الاجتماعية. بيد أن مفهوم النهايات لا ينبغي أن يقرأ بالمفهوم التبسيطي للنهاية باعتبارها أفولا واندثارا، أو توقفا في مسار الحراك البشري أو نهاية للكون. إنه يحيل إلى ضرورة التغيير في الأدوار والوظائف التي تلائم الطفرات المعرفية الجديدة بعد أن تكون الأدوار السابقة قد شاخت وترهّلت، وبلغت منتهاها وفقدت صلاحيتها. النهاية هنا تلبس مفهوم الانقلاب الوجودي، والانفتاح الكوني الذي يتعرض فيه العالم لتحولات تنقلب معها القيّم والمفاهيم، وتتغير المشاريع، وتتفكك فيه الأشكال السائدة، والقيّم المتداولة القديمة والحديثة، وتدخل أزمتها العميقة التي تستدعي المراجعة والمساءلة والفحص والتنقيح وإعادة الحساب لتصل إلى ما يسميه مؤرخ الحضارات أرنولد توينبي بالتحدي والاستجابة. إلا أن حديث النهايات في نهاية الألفية الثانية أصبح مشروعا سياسيا واقعيا توسعيا وملموسا، يستند إلى واقع العولمة، ويجري تطبيقه وأجرأته اعتمادا على القوة الاقتصادية، والمؤسسات الفكرية والترسانة الإعلامية، بل وحتى العسكرية، وهو ما أعطى لمفهوم النهاية زخمه وقوته التي سمحت بظهور حقبة جديدة على المستوى العالمي، سيتولّد من رحمها ثقافة وقيّم جديدة قد يتعرض فيها المثقف إلى هزّات في فكره وقناعاته، وربما تنعدم فيها اختياراته الحرّة، وعليه أن يستوعبها لبلورة أفكاره بما يتلاءم ونوازل التطور الوجودي والمعرفي، أو يعاركها ويتحداها بابتكارات فكرية مبدعة. والجدير بالملاحظة أن العولمة غذّت هذه المسارات "النهاوية" بسبب ما أحدثته من تنميط للأفكار والمفاهيم، تمخضت عنها تحولات حضارية، ونمط جديد للتساكن بين البشر. كما أفرزت تغيرات في خارطة العلاقات بين الأشياء: الإنسان والأحداث، المكان والزمان، الحاضر والذاكرة، الفكر والحقيقة، بحيث أصبحت العلاقات بين الناس علاقات أفقية وتبادلية، أكثر مما هي علاقات عمودية أو سلطوية كتلك التي جرى إنتاجها في التاريخ خلال عصور العبودية والإقطاعية والرأسمالية. ولم تكن مقولة نهاية التاريخ التي تبناها فرانسيسكو فوكوياما سوى انعكاس لهذا التوجه مع ما تختزنه من حمولة سياسية، إلا أنها جاءت في سياق تناسل نظريات النهايات التي تعكس التحولات العالمية. وبالرغم من هشاشة نظرية فوكوياما، فإن نقطة قوتها تتجسد في محاولة إثبات مصداقيتها وصلاحيتها في التاريخ المعاصر الممتد من الحرب العالمية الثانية حتى سقوط جدار برلين سنة 1989، وانتهاء الحرب الباردة، ووصول العالم إلى ذروته المتمثلة في تعميم ثقافة الليبرالية الديمقراطية، وهيمنة القطبية الأحادية، وانتصار النظام العالمي الجديد، وبداية مرحلة تتميز بسمات جديدة، على المثقف أن يستوعبها. وتأتي في قلب هذه المقولات النهايوية، كذلك، مقولة نهاية الجغرافيا التي نحتها الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو، والتي تنطق هي أيضا بانقلاب زمني: من عصر "الحرب الباردة" إلى عصر "الهَلَع البارد" تحت تأثير الطفرة التكنولوجية التي قرّبت المسافات الجغرافية أو ألغتها نهائيا، وقلبت مفاهيم تصورات المكان رأسا على عقب بعد الثورة التي تحققت في مجال الصورة، والسرعة الفائقة التي يتمّ بها البثّ، مع إمكانية إظهارها بالأبعاد الثلاثية، وبحركة خفيفة، مما أكسب الجغرافيا أبعادا جديدة لم تكن معروفة من قبل. وبهذه الطفرة التي عرفتها "أقانيم" الجغرافيا، تغيّرت الدلالات الجغرافية للمكان في بعديه المحلي والعالمي، وغدا من الصعب التمييز بينهما بسبب التقارب الشديد، وبفضل انفتاح المحلي على الزمان العالمي، وتواصله المستمر معه على مدار الساعة . وفي مضمار الحديث عن النهايات كذلك، طرح البعض نهاية الإيديولوجيا أو على الأقل نهاية دور الإيديولوجيا في التغيير، لأنها على حد تعبير المفكر علي حرب "استهلكت نفسها، وفقدت مصداقيتها وراهنيتها"، وهو ما يذهب إليه كذلك فوكوياما الذي اعتبر أن نهاية الحرب الباردة لم تكن مثل نهايات الحروب السالفة في التاريخ، لتميّزها بحدث فريد بصم فيها بصمة جديدة. ويتعلق الأمر بنهاية الفكر الإيديولوجي والأفكار الكبرى التي كانت تحرك الصراعات الفكرية. وحتى مواطنه صموئيل هنتغتون الذي بالرغم من معارضته أطروحته، فإنه ذهب إلى نفي فكرة الأساس الإيديولوجي في الصراع الدولي خلال الحقبة الراهنة، وكلها أطاريح تؤكد نهاية الإيديولوجيا. وتأتي مقولة نهاية الفلسفة التي نحتها الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر في سياق مقولات النهايات أيضا. إلا أن مفهوم نهاية الفلسفة عنده لا تعني انتهاء التفكير الفلسفي، بل تروم الكشف عما أصبحت تعانيه الفلسفة من قصور معرفي بعد الطفرات التي شهدتها العلوم الاجتماعية المتعددة والمتنوعة، من قبيل علم الاجتماع والاقتصاد وعلم الإناسة وعلم النفس وعلم السياسة؛ وهو بإعلان نهاية الفلسفة، يكون قد لمّح إلى ضرورة تجديد الفيلسوف لآليات اشتغاله وطرائق تفكيره انطلاقا من الطفرات المعرفية التي شهدتها العلوم الاجتماعية، مما يؤكد أن القول بالنهايات ليس سوى دعوة ضمنية للتجديد. ومن النهايات التي غدت مؤثرة على أدوار المثقف التقليدية أيضا، ما يتمّ تداوله حاليا حول بداية نهاية الكائن الورقي، بفعل الاكتساح الحاسوبي والأدمغة الإلكترونية التي أصبحت تنوب عن الإنسان في كثير من أنشطته العقلية؛ وهو ما نتج عنه "فاعل بشري جديد" يجسد نمطا مغايرا في ممارسة الوجود، وفي مجال الفكر والثقافة، نمط يختلف به عن الإنسان المتعالي الذي يفكر بمحض عقله وكامل وعيه. ومع هذا التطور، غدت ثلاثة محددات تشكّل الخيوط المؤسسة لبنية العالم الجديد، وهي تكنولوجيا المعرفة، واقتصاد المعرفة، ومجتمع المعرفة. وتبعا لذلك، صار الانتماء الثقافي وليس الطبقي هو الطابع المميّز لساكنته، بل إن اقتصاد المعرفة تجاوز مقولة الصراع الطبقي، إلى مقولة التنافس الثقافي، فأصبح الصراع في كوكبنا يتخذ شكل صراع حضاري ثقافي أكثر منه صراعا اجتماعيا طبقيا؛ وهو ما يضع المثقف أمام أسئلة جديدة لم تكن مطروحة من قبل، وزمن جديد يتكلم لغة خاصة ينبغي أن يفهمها. والحاصل أن نهاية الألفية الثانية أفرزت للبشرية مجموعة من مقولات النهايات التي تشي بظهور انقلاب زمني جديد غالبا ما نضفي عليه صفة البعديات: ما بعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العلم والفلسفة. وكل هذه الصيغ التعبيرية تشير إلى أن العالم وصل إلى منعرجات في مسار التاريخ البشري، تتغير فيه القيّم، وتطرح فيه قضايا وأسئلة جديدة شائكة لا يمكن للمثقف أن يجيب عنها بنظريات شائخة استنفذت صلاحيتها؛ وهو ما يفرض عليه إعادة تحيين أفكاره، وتجديد مساراته، وتغيير أدواره وآليات اشتغاله، بما يتلاءم مع زمن ما بعد النهايات. ولا شك في أن الثورة الرقمية سترفع بدورها سقف الضغوطات على المثقف لتجديد مناهجه ورؤاه، وهو ما سنقوم بتشخيصه في الحلقة الثالثة (يتبع).