قريبا سيحل الثامن من شهر مارس، وستنطلق حناجر من كل صوب هاتفة باسم المرأة: ستقام ندوات، لقاءات، برامج تلفزية وإذاعية.. السيناريو نفسه يتكرر كل عام، ولا ندعي أنه يمر مرور الكرام، أو أن ما يسعى المثقفون والفاعلون السياسيون والجمعويون والإعلاميون لترسيخه حول واقع المرأة وما يُفترض أن يؤول إليه حالُها هي مجهودات عديمة الجدوى أو بلا قيمة.. لكن من حقنا، وواجبنا في الآن نفسه أن نتساءل كلنا بصوت واحد: ماذا يغير ذلك كله من وضعية المرأة المغربية؟. ربما يتعين علينا قبل أن نفكر في إجابة عن السؤال أعلاه أن نطرح سؤالا آخر يمكن أن يتأسّس عليه تفكيرنا في كل تغيير لوضعية المرأة.. السؤال يمكن صياغته بأشكال متعدّدة، ومهما بدا مختلفا في صياغته إلا أنه في واقع الأمر سؤال واحد يصبّ في منابع مختلفة أو أسئلة مختلفة تصب في منبع واحد على النحو التالي: من المسؤول عن تهميش المرأة؟ من يهمّش المرأة؟ ما هو جوهر هذا التهميش وما هي آثاره ودلائله؟ هل كل النساء المغربيات يتعرضن للتهميش؛ على النحو نفسه؟ وبالقدر نفسه؟ ومن هي الفئة المعينة من النساء التي تتعرض للتهميش؟ هل كل نساء المغرب يعشن المعاناة نفسها؟ وهل معاناتهن واحدة؟. بعد هذه الأسئلة التي قلنا إنها تحوم حول الفكرة نفسها، دعونا نطرح سؤالا آخر مختلفا قليلا..ما هو نوع التهميش/المعاناة التي تعاني منه(ا) المرأة المغربية؟ إذا استثنينا العنف بأنواعه (جسدي/معنوي/جنسي..)، ثم استثنينا المعاناة التي تعيشها المرأة بشراكة مع قرينها الرجل؛ أي مشاكل المواطن المغربي عامة كان رجلا أو امرأة (الفقر، ضعف القدرة الشرائية، ضعف البنية التحتية، هشاشة الخدمات الاجتماعية.. إلخ).. إذا استثنينا ما سبق فإن أكبر معاناة تعيشها المرأة في المغرب تتلخّص في أمرين اثنين: شعورها بأنها أقلّ من الرجل، ومقاومتها المُستعرة الواعية أو غير الواعية لِشُعورها بأنها أقل من الرجل. هذه المعاناة تقلّ إلى حدّ بعيد، وقد تكاد تنعدم، في الأوساط الاجتماعية المثقفة والمرفّهة، بينما تزداد حدتها أكثر وأكثر لدى الفئات المهمشة، هذه الفئة المجتمعية تحديدا التي لازال الأخ فيها يفرض سيطرته على الأخت ويمنعها من التمدرس حتى في وجود والديها، فقط لأنه يمتلك عضلات زيادة؛ هذه هي الفئة الأكثر حاجة إلى الدعم والحماية. غير أن الدعم هنا لا يمكن أن يقتصر على استصدار القوانين التي لا تغادر قمقمها إلا بعد أن تتم مخالفتها. كما لا يمكن للتوعية عبر البرامج التثقيفية أن تؤثر في فئة لا تتابع هذه النوعية من البرامج من الأصل! إن كل وسائل التوعية الممكنة يمكنها أن تحدث تأثيرا بطيئا بعيد المدى قوي المفعول..غير أنه لا يصب إلا في الفئة التي تتوجه إليها هذه الوسائل التوعوية، ومن هنا فإذا كانت المرأة القروية، والمرأة التي تعيش في الأحياء المهمشة والمناطق التي تقل فيها نسبة التمدرس مقصودة بالبرامج والملصقات التوعوية والندوات واللقاءات، وحمايتُها مطلوبة؛ فإن كلّ أثر توعوي لا يمكن أن يؤتي أكله بهذا الصدد، سواء كان موجها إلى الرجال أو إلى النساء. أما القوانين فإنها قد تكون كافية لإلحاق العقوبة بالمعتدي والمخالف لكن فعاليتها في الردع محط مساءلة واستفهام. إن إنسانا تربى على احتقار المرأة، سيحتقر، على الأرجح، زوجته، سيُمعن في جعلها تشعر بأنها كائن أضعف وأقل فائدة للمجتمع، وكل دورها يتلخص في إنجاب الأبناء وطبخ الطواجن ومسح البلاط..سينجب، في الغالب، أبناء يتبنون نفس نمط التفكير، وكسرُ هذه الدائرة يقتضي خروج أحد أطرافها أو كلّهم من الإطار الاجتماعي الذي يتواجدون داخله، ولا يحدث هذا إلا بالتمدرس أو استجلاب ثروة تقفز بصاحبها من وحل المعذبين في الأرض إلى مخمل الطبقة الراقية. وعدا هذا فإن معاناة المرأة التي تنتمي إلى أوساط اجتماعية فقيرة أو مهمشة و/أو تقل فيها نسبة التمدرس ويتدنى فيها مستوى التعليم، هي معاناة لا تنتهي ببرامج تثقيفية وندوات لا يحضرها إلا النخبة المثقفة الواعية التي يندر أن تحتك بنساء تنتمي إلى بيئة مجتمعية أدنى. والحل؟ لا نزعم أننا نمتلك من الحلول ما يغيب عن مثقفي هذا البلد، ولكن بعض التفكير المنطقي سيحيلنا بشكل مأساوي على مشاكل أخرى مرتبطة بتحسين وضعية المرأة في الأوساط الفقيرة والمهمشة.. نتحدث تحديدا عن مشكل التعليم، وما تعيشه المدرسة العمومية الآن من أزمات جعلتها غير قادرة على منافسة نظيرتها الخصوصية، لا في الحدّ من نسبة الهدر المدرسي، ولا في إنتاج أجيال تتمتع بقدر أدنى من الوعي بحقوقها وواجباتها. إذا كانت الأسر المغربية التي ما تزال –بسبب ظروف نحسبها قاهرة- غير قادرة على تربية جيل يعرف ما له وما عليه، لا تُجاه شجر ولا حجر ولا بشر؛ فإن المدرسة هي من/ما يجب أن يضطلع بهذا الدور لإثمار جيل يملك حدا أدنى من الوعي المجتمعي. وفي غياب هذه المدرسة المنشودة سيستمر المهمشون في تهميشهم، ولا يمكن أن يكون ثمة حديث عن أي تحسين لوضعية المرأة لدى هذه الفئة المهمشة، وبالتالي فإن جل الجهود المبذولة من أجل تحسين وضعية المرأة المغربية لن تصب إلا في فئات مجتمعية معينة، بينما ستبقى شريحة كبيرة من النساء المغربيات فريسة لكل أنواع المعاناة الناتجة عن شعورهن بأنهن كائنات دونية. إن التغيير المجتمعي الحقيقي هو ما يُفترض أن يمسّ كل فئات المجتمع بلا استثناء، أما أن يصبح الوعي حكرا على فئة مجتمعية دون غيرها تقتسم نفس الأرض والهواء مع فئة أخرى لا تجد إلى التوعية سبيلا؛ فما هو إلا وعي ناقص يذكرنا بمآل أهل كوكب الأرض كما جاء في أفلام الخيال العلمي التي تتنبأ بأن العالم الإنساني سينقسم إلى فئتين من البشر: فئة إنسانية راقية تعيش في القصور وأخرى أشبه بالوحوش تعيش في الكهوف وفوق الشجر! إن عددا غير هيّن من النساء المغربيات قد نجحن في كسر القيد الأسري الذي يضعهن في مرتبة أدنى من مرتبة الرجل، غير أن مجهود هؤلاء النسوة يكاد يذهب سدى حين يصطدم بالعقلية السائدة لدى فئة كبيرة من الناس الذين يشكلون عامة المجتمع والشريحة الأكبر عددا، والذي لا يمكن للمرأة أن تخرج إلى المدرسة أو إلى سوق الشغل وتمشي في الشارع وتستقل المواصلات: العامة أو الخاصة، دون أن تصطدم بهم.. المهمشون في المغرب (ذكورا وإناثا) هم جزء من هذا المجتمع، لا يمكن عزلهم لتجنب تأثيرهم، ولكن يمكن محاولة التأثير فيهم بشكل مكثف وجاد من خلال ما تملكه الدولة من وسائل، بدءا من التعليم، مرورا بالأعمال الفنية (أفلام، أغان، مسلسلات) بلوغا إلى الملصقات والوصلات الإشهارية. وبقدر الجدية في العمل والصدق في النية تتحقق النتائج الإيجابية المنشودة، أما حين يكون الغرض بتناول موضوع المرأة هو درّ الرماد في العيون؛ فإن الواقع يندر أن يتغيّر، وغالبا ما تبقى الأمور على حالها: نساء مثقفات واعيات متحررات من كل قيد مجتمعي، ونساء جاهلات متخلفات أسيرات لا يجدن إلى التقدم سبيلا. [email protected]