هل يستحق التصريح الذي أدلى به رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، أمام شبيبة حزب العدالة والتنمية كل هذه الضجة التي أثيرت من حوله؟ هل يرقى التصريح في حد ذاته إلى إثارة جميع ردود الفعل هذه التي نتجت عنه، وعلى رأسها تعليق وزراء من التجمع الوطني للأحرار حضورهم لأشغال المجلس الحكومي؟ لكن ماذا قال رئيس حكومتنا السابق، عبد الإله بنكيران، حتى تنجم عن كلامه كل هذه الهيصة التي لا حدود لها؟ لقد تساءل الرجل عمن هي العرافة أو "الشوافة" التي أخبرت عزيز أخنوش بأن حزبه سيفوز بانتخابات 2021، وهو الذي كان قد صرح سابقا بأن حزبه سيربح الانتخابات المقبلة؟ وشبَّه بنكيران الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، بواحد من ممارسي رياضة السومو. في الدول الديمقراطية تدخل تصريحات من هذا النوع في إطار ممارسة السياسيين لحرية التعبير، وتندرج في سياق حفلات السجال والمماحكة التي تدور بينهم على امتداد أيام السنة، فتبادل الغمز واللمز بين السياسيين والنقابيين والفاعلين في الحقل العام يكاد لا يتوقف، إنه العملة الرائجة، وهو ملح طعام السياسة في تلك البلدان. السياسيون في الدول الديمقراطية يفضلون أن يكونوا دائما في موضع نقد ومساءلة، وحتى اتهام أحيانا، ويرضيهم أن تتوجه إليهم أنظار الرأي العام، وتُسلَّطُ أضواء الكاميرات عليهم، وحين يشعرون بأنهم صاروا مركز الضوء، وفي قلب انشغالات الرأي العام وملاحظاته، وقتها يخرجون إلى الإعلام، ويردون على النقد الموجه ضدهم، ويفندون الاتهامات المُصوّبة إليهم، ويستوعبون النكت التي تستهدفهم بنكت مضادة، ويربحون بذلك جولة في السجال السياسي القائم في البلد. هكذا هي الحياة السياسية في البلدان العريقة في الديمقراطية، فأنت شخصية عمومية، وهذا يعني أنك معرض للنقد وللمؤاخذة وللمساءلة، وعليك تقبل ذلك بروح رياضية، وتقديم القدوة للمواطنين في الإيمان بقيم الديمقراطية، بما هي محاسبة، ونقد يمارس عليك كمسؤول في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة؛ إذ لا ديمقراطية بدون نقد، ولا مسؤولية بدون محاسبة، وقد تنجم عن ممارسة النقد في نطاق المسار الديمقراطي بعض التصرفات غير المقبولة، لكن يتعين أن تستوعب الديمقراطية مثل هذه التصرفات، وتقبل بها، وتجعلها مظاهر هامشية بالقياس إلى الربح المستخلص ككل من الفعل الديمقراطي الذي تنهض به وعليه الحياة السياسية. للخيار الديمقراطي أثمان يتعين على السياسي الذي يشتغل في نطاقه أن يقبل دفعها من هدوئه وطمأنينته واستقراره الذهني والنفسي. الفاعل السياسي في الديمقراطية معرض للضجر، والقلق، والغضب، والتوتر، والانفعال الحاد، جراء المعاناة التي يقاسيها من ممارسته لمهامه العمومية، فالخصوم السياسيون في الممارسة الديمقراطية لا يتوقفون عن كيل النقد والاتهامات، وأحيانا التجريح والتشهير بالسياسي الذي يتكلف بتدبير الشأن العام، وعليه من موقع المسؤولية العامة التي يؤديها تحمل النقد الذي يرافقها، وبإمكانه في أقسى الحالات اللجوء إلى القضاء المستقل النزيه طلبا لإنصافه، إذا شعر بأنه تعرض للقذف، والسب، والشتم، وتم المسُّ بكرامته وحياته الشخصية. ولا أظن أن السيدين عزيز أخنوش وإدريس لشكر ليسا على علم بهذه الأبجديات السياسية، إنهما يدركانها حق الإدراك، لكنهما حينما يتصرفان مع رئيس الحكومة الحالي، سعد الدين العثماني، بمنطق الحرد لأن بنكيران انتقدهما، ويطلبان منه اتخاذ موقف صارم وصريح من رئيس الحكومة السابق، فهذا يعني أن المستهدف ليس بنكيران الذي تم التخلص منه ووضعه خارج الزمن الحكومي، ولكن المستهدف هو رئيس الحكومة الحالي سعد الدين العثماني، وإذا أردنا الدقة، فإن المطلوب راهنا هو رأس حزب العدالة والتنمية برمته. فليس سرا مخفيا أن شرخا كبيرا حدث في صف "البيجيدي" حين تم إقصاء عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة، وتم تفشيله في تشكيلها، ووقع بعد ذلك إسناد هذه المهمة لسعد الدين العثماني الذي قبل بها، وقبل معها بكل الشروط التي رفضها سلفه، وتبين نتيجة لذلك، وكأن طعنة قد وجهت في الظهر لبنكيران ومن معه، من طرف العثماني ومن معه. فلقد حدث هنا شرخ كبير في الحزب، وهذا الشرخ يتسع مع مرور الأيام بين ما أصبح يعرف بتيار الإستوزار من جهة، والتيار المساند لبنكيران من جهة أخرى. وحين يطلب أخنوش ولشكر من العثماني اتخاذ تدابير زجرية ضد بنكيران بسبب التصريح الذي أدلى به ضدهما، فإنهما يحثان في الواقع على توسيع رقعة الهوة التي تفصل بين التيارين المتواجدين في "البيجيدي"، إنهما يرميان الحطب على لهيب نيران الخلافات لكي تستعر ويشتد وقودها، إنهما يهدفان في الحقيقة إلى شق العدالة والتنمية إلى نصفين، كل نصف يواجه النصف الآخر ويصارعه، إلى أن يصلا في النهاية إلى الطلاق الذي لا رجعة عنه، ويصبح لدينا في المغرب حزبان أو أكثر من "البيجيدي" الحالي. وبالطبع فأخنوش ولشكر ومعهما أعضاء من العدالة والتنمية لا يتصرفون في هذه الحالة من تلقاء أنفسهم، وبقرار شخصي من كل واحد منهم، فعدم حضور وزراء من التجمع الوطني للأحرار للمجلس الحكومي ليس خطوة يمكن لأعضاء هذا الحزب وقيادييه الإقدام عليها بمبادرة ذاتية منهم، وكذلك تصعيد الخلاف مع العثماني إلى هذا الحد لا يمكن أن يكون صادرا عن لشكر وأخنوش لوحدهما، فلو لم يكن لدى هؤلاء ومن يسير في فلكهم الضوء الأخضر من السلطات العليا، لما تجرؤوا على اقتراف ما تقترفه أيديهم في هذا الشأن. حَجْمُ حزب "البيجيدي" تضخَّم أكثر مما هو مسموح لحجم أي حزب مغربي أن يصله، ولذلك فإن عملية قص أجنحته، والضغط عليه للنقص من حجمه ووزنه، سارية على قدم وساق، تماما كما جرى لحزب الاستقلال في الخمسينات، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الثمانينات والتسعينات، وفي الانتخابات المقبلة، هذا إذا أتم العثماني ولايته على رأس الحكومة الحالية وهو أمر مشكوك فيه، ينبغي ألا يحتل العدالة والتنمية المرتبة الأولى لكي يتم تعيين رئيس للحكومة منه، هذا المنصب ينبغي أن يكون من حظ شخص ليس من "البيجيدي". وفي هذا السياق تندرج كل الضغوطات التي يتعرض إليها حاليا العثماني وحزبه، جراء تصريح عابر أدلى به بنكيران؛ إذ لولا هذا التصريح، لتم إيجاد علة أخرى لخلق البلابل، والزوابع، والاضطرابات في داخل "البيجيدي" لأن الهدف المبتغى هو تشتيته لتقزيمه.