"للمخيلة أناس سعداء وآخرون أشقياء، لها قديسوها ومرضاها، أثرياؤها وفقراؤها، ولديها أيضا مجانينها وحكماؤها"، باسكال. تعتبر علاقة المثقف بالسلطة العلاقة الأشد التباسا عبر كل فصول التاريخ، فخارج ذلك التآلف الأسطوري، الذي مثلته حكايات كليلة ودمنة، بين الملك دبشليم الذي كان يمثل السلطة السياسية المادية، والفيلسوف بيدبا الذي كان يمثل السلطة المعرفية الرمزية، وما جسدته شهرزاد والطاغية شهريار الذي حولته الحكاية من سلطان ظالم إلى حاكم عاشق، حيث توج السلطة والمعرفة "وعاشا في ثبات ونبات وخلفا صبيانا وبنات"، وخارج بعض الاستثناءات التي لا تتكرر مثل تلك التي جمعت أرسطو بالإسكندر المقدوني وفولتير بإمبراطور بروسيا وهيغل بالملك نابليون وفريدريك الثاني وأبو الطيب المتنبي وسيف الدولة.. لا يحفظ التاريخ الكثير من علاقات الود بين السلطة والمثقف، من محنة ابن حنبل وابن رشد حتى غربة علال الفاسي وعبد الله العروي وأدونيس. لقد كان المثقف العربي بمثابة "الآلهة التي تفشل دائما"، على حد تعبير إدوارد سعيد. شكل أرسطو والإسكندر الأكبر ثنائيا استثنائيا في علاقة المثقف بالسلطة، جاء الفيلسوف إلى القصر المقدوني بشرف وأملى شروطه لتعليم ابن القائد الأعور، اشترط مقابل تعليمه الإسكندر، على أبيه الملك فيليپ، إعادة بناء بلدة ستاگيرا، مسقط رأس أرسطو، التي كان الملك قد دكها، وإعادة توطين أهلها بها، وعلى شراء وتحرير كل من استعبد منهم، والعفو عن أولئك المنفيين ودعوتهم للرجوع إلى ديارهم. اكتشف أرسطو الشغف الكبير لإسكندر بملحمة هوميروس، فقدم له نسخة مشروحة منها، حملها الإسكندر معه في كل حملاته العسكرية، وكانت منبع العديد من استراتيجياته الحربية التي ما زالت تغري الدارسين حتى اليوم، لقد شكل أرسطو تلك الخميرة الفكرية التي جعلت المعرفة تسير جنبا إلى جنب مع سيف السلطة تهذيبا وفتحا للآفاق الرحبة للعبقرية الإنسانية التي سيمثلها أرسطو وإسكندر الأكبر. في أوج قوته ومجده الإمبراطوري، وصل إسكندر الأكبر إلى كورنث الرومانية التي استسلمت بلا مقاومة، وفي إحدى جولاته التقى بالفيلسوف الكبير الزاهد ديوجنيس صاحب المصباح الشهير الباحث عن الحقيقة في واضحة النهار بسراج مصباحه المتقد دوما، وكان الإسكندر معجبا بديوجين فوقف أمامه وقال له: "أما عرفتني؟" فباغته الحكيم بازدراء: "تنح قليلا، فإنك تحجب عني الشمس"، فأعجب الملك العظيم برد مثقف أعظم، لذلك قال الإسكندر يوما: "حقًا أقول لكم، لو لم أكن الإسكندر، لوددت أن أكون ديوجين". أما باقي العلاقات التي نجح الحكام في بنائها مع المثقفين فكان أغلبها ينتهي بالتفكك والصراع، فقد قضى "فولتير" المدافع عن الحرية زمنا في قصر الإمبراطور فريدريك الأكبر ملك بروسيا، الذي كان يقترف قرض الشعر، وكان الشاعر العظيم يتكفل بتقويم قصائده الركيكة، غير أنهما اختلفا فيما بينهما فقرر الإمبراطور البروسي طرده، وقال هازئا أمام حاشيته: "لقد قذفنا بقشرة البرتقال بعد أن اعتصرناها،" فرد عليه فولتير ساخرا: "لقد كنت أغسل للإمبراطور ملابسه القذرة." ائتلاف عظيم قام عن بعد بين فيلسوف عظيم من حجم هيغل والقائد العسكري نابليون بونبارت الذي رأى فيه هيغل أنه يمتطي روح التاريخ التي سبق أن بشر بها، حتى وهو يغزو بلده ألمانيا، كان للسلطة أن تستنير بعقل الفكرة لتصنع التاريخ الجدلي، لم يتهم أحد هيغل بالعمالة للمستعمر، لأنه رأى في نابليون حاملا لقيم الثورة الفرنسية وللمبادئ الديمقراطية التي بشر بها في فلسفته. شيء من هذا كان يمكن أن يحدث في مصر بين نابليون وعبد الرحمان الجبرتي الذي أعجب بالجانب التنويري في الحملة الفرنسية على مصر، طبا وأخلاقا وقانونا وعلما... رافق حملات نابليون وكتب في "آثاره" ما يدل العرب على سبيل لنهضتهم وترك تخلفهم، غير أنه تعرض لحملة دنيئة بالعمالة للمستعمر الفرنسي وهمشت كتبه، لأن مصر ليست هي ألمانيا، لذلك دنست السلطة سيرة مثقف كان يرى روح الحضارة تشرق على مصر عبر جواد قائد عظيم امتطى صهوة التاريخ لتحضير مصر الغارقة في التخلف والجهل. وفي المغرب ظلت العلاقة دوما متوترة بين "المخزن" والمثقف، فباستقراء التاريخ نجد أن العلماء أو أهل الحل والعقد، ظلوا يحتلون مراتب دنيا في الهرم السياسي بسبب خوف "المخزن" من الرأسمال الرمزي الذي يحملونه أو تحت تعلة ضعف خبرتهم في مجال التسيير والتدبير، وظل السلاطين المغاربة يعتمدون في تسيير دواليب الدولة على العسكريين والتجار من ذوي الخبرة، ولم يكونوا يتركون للعلماء سوى الوظائف الأقل خطورة، مثل: الكتابة، القضاء، النظارة... وعوض أن يُنظر إلى دور التوازن الذي يمكن أن يلعبه المثقف/ الخاصة/ العلماء بين السلطان والرعية، كان "المخزن" يعمل على إبعاد المثقفين اتقاء لشرهم، وهذا ما أكده "ابن زيدان" حين قال: "العلماء تتقيهم الملوك كما تتقي ملوك أوروبا المجالس وآراء العامة الناشئة وحرية المطابع". وقد صنف الأستاذ مصطفى الشايب في كتابه "النخب المخزنية في القرن ال 19"، روافد السلطة المخزنية التي تبتدئ بالعائلات الأصلية، النسب والحسب، والمعروفة بولائها للمخزن، ثم الخبرة في التجارة أو الخدمة العسكرية وبدرجة أقل العلماء، خاصة من خريجي جامع القرويين. وباستقراء تاريخ السلطة السياسية الحديثة، نجد النهج نفسه يظل ساري المفعول، فعلاقة الحكم بالمثقف تظل متوترة، كانت السلطة تعمد إلى إبعاد المثقف المعارض وتعدمه رمزيا أو ماديا حتى، وحين تستوعبه تجعله تبعيا، فهي لا ترضى بغير علاقة قنانة مع المثقف، ويظل نموذج عبد الله العروي حاضرا في هذا الباب، فقد أصيب العروي بصدمتين عطلتا مشروع إصلاحه الفكري: الصدمة الأولى جسدتها وفاة رجل من العيار الثقيل في حجم علال الفاسي الذي كان يطمح الملك الحسن الثاني أن يكون منظرا لفكره ويعطي تلك الالتماعة الضرورية لروح الفكرة السياسية، والصدمة الثانية مثلها رحيل استراتيجي وازن من عيار عبد الرحيم بوعبيد، مما جعله يغير زاوية نظره بخصوص منطق الإصلاح، واندمج في دواليب الدولة بهدف نبيل؛ التغيير من الداخل. كان يريد أن يختبر صدقية أطروحاته، لكن رياح السلطة جرت بما لا تشتهي سفن المثقف، فماذا حدث؟ تُرك عبد الله العروي لما اعتبره الحكم أفكارا طوباوية غير واقعية في وَحْل السياسة، واسْتُعمل في مراسيم بروتوكولية جافة، هكذا كان العروي يضطر للبقاء في فندق بلغازي بطرابلس لأيام وهو ينتظر استقبال القائد الليبي ليسلمه رسالة من "شقيقه" الملك الراحل الحسن الثاني، على سبيل المثال. الشيء نفسه حدث مع الدكتور المهدي المنجرة، لما أهداه الحسن الثاني كتابه "التحدي" موقعا بخط يده، وكان ينوي استقطابه إلى جانبه، لكن المنجرة اختار خندقاً مغايراً حين ترأس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وهو ما كان يسبب لصهره وقريبه، حارس الأختام الملكيَّة عبد الحق المريني، الكثير من وجع الرأس، فوجد نفسه خارج دائرة السلطة. كان يمكن لمثقف وازن من حجم العروي أن يلعب مع الراحل الحسن الثاني الدور نفسه الذي لعبه أرسطو في حياة الإسكندر الأكبر؛ بحيث يتحول المثقف إلى عقل الدولة بغرض الاستفادة من تلك الخميرة الفكرية، التي تجسد المنارة التي ترشد السفن التائهة بين الأمواج المتلاطمة في الدياجي المعتمة للسياسة، لكن السلطة لم تكن ترضى بغير علاقة قنانة للمثقف مع سلطته، لذلك عاش عبد الله العروي على هامش الفعل المركزي للقرار السياسي، وكذلك الشأن مع مثقفين كبار لم يرضوا أن يكونوا مجرد أقنان في حظيرة السلطان. وإذا كنا قد استمعنا دوما إلى رأي المثقف، فإننا لم نستمع يوما للسبب الحقيقي لغياب هذا الائتلاف المنشود بين المثقف والحاكم، وقد وجدت في نص فريد من رواية "قرية ظالمة"، للكاتب محمد كامل حسين، جوابا شافيا في حوار بين حاكم وفيلسوف تجسد بحق رؤية منسجمة واعية ومقنعة لتخلي الحاكم عن المثقف، لأترككم تستمتعون بها، يقول الحاكم: "إن الفلسفة قائمة بذاتها شيء جميل، ولكن حين يجد الجد لا نجد فيها هداية ولا رشدا، وإذا أراد رجل العمل أن يفيد من علم أهل الفكر قامت دون ذلك صعاب كثيرة أصلها ما لا بد منه من نقل لغة الفكر إلى لغة العمل، فإن المطابقة بين الألفاظ ومدلولاتها في كل منها أمر عسير، ذلك أن الفلسفة تقوم على تعريف الأشياء وحكم الفلاسفة على الأشياء فرع من هذا التعريف، ولكن رجل العمل لا يري ما تعريف عمله قبل أن يقوم به، ولهذا أخفقت الفلسفة في هداية رجال الحكم إلى الصواب، فالشجاعة عند "الفلاسفة" مثلا وسط بين التهور والجبن، وهذا حق لا مراء فيه، ولكني لا أدري ولا يدري قائد جيشي هل ما عمله كل منا في يومنا هذا يعد تهورا أو جبنا أو شجاعة، والفلسفة لا تدلنا على حقيقة ما نعمل ولا تهدينا يقينا إلى التعريف الحق لما نعمل إلا بعد أن يتم العمل، وأكثر أحكامها على الأعمال تحليلية، وعمل رجال الحكم بناء لا تحليل. القوة إذا انتصرت للحق، فالنصر للقوة لا للحق، وأن القوة من طبعها الشطط فلا تلبث أن تنتصر للباطل، وإذا اصطدم الحق والباطل وانهزم الحق فإن ضمير الناس وسير التاريخ كفيلان بإصلاح الخطأ، أما إذا استعان الحق بالقوة فالغلبة لها، وما دام الحق في المحل الثاني، فسيان أن يكون خاضعا للقوة أو للباطل".