هل كان بنكيران ضحية محاولته اختراق السلطوية من الداخل؟ تقديم يعد رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران أحد أكبر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في الحياة السياسية في المغرب. فبالنسبة لأنصاره ومريديه، يعد بنكيران قائدا تاريخيا لحزب العدالة والتنمية وصانع أمجاده الانتخابية ورجل الدولة الشجاع وصاحب الكاريزما والقدرات التواصلية الخارقة الذي واجه التحكم بشجاعة ووقف في وجه المخزن كما لم يفعل غيره إبان مرحلة ما سمي بالبلوكاج. أما بالنسبة لخصومه وأعدائه، فبنكيران مجرد عميل سابق للداخلية وسياسي شعبوي ركب موجة عشرين فبراير التي حملته إلى رئاسة الحكومة، يستغل الدين لدغدغة مشاعر الناس وإغرائهم من أجل التصويت لحزبه دون أن يقدم أي بديل اقتصادي أو اجتماعي حقيقي غير إغراق البلد في الديون وتمرير إصلاحات لا شعبية رفضها من سبقوه، وهو المسؤول عن تردي أوضاع الطبقات الفقيرة وتراجع مستوى عيش الطبقة الوسطى. تحاول الورقة التالية تجاوز هاتين النظريتين اللتين تشتركان في تقييم الأداء المادي لرئيس الحكومة (السياسات المعتمدة والقرارات المتخذة) عبر تقديم رؤية تتجاوز أحكام القيمة للنظرتين السابقتين لشخصية رئيس الحكومة السابق؛ وذلك بالنظر إليها من زاوية تأثير أسلوب هذه الشخصية وخطابها السياسي على التوازنات الرمزية العامة التي يرتكز عليها النسق السياسي المغربي، والتي لا يمكن مقاربتها من زاوية الأداء السياسي المادي لشخصية بنكيران. يجمع علماء السياسة على أن نظام الملكية البرلمانية هو الصيغة المؤسساتية الوحيدة للجمع بين النظام الملكي والممارسة الديمقراطية للسلطة، ويمكن القول إن هذه التوليفة التي نجحت في سياق الملكيات الغربية وجعلت منها أنظمة ديمقراطية راسخة اليوم، تشكل مطلبا رئيسيا للعديد من القوى التي تناضل من أجل إرساء نظام ديمقراطي حقيقي في المغرب. وإذا كان دستور 2011 قد رفع سقف الانتظارات بشأن قدرة الوثيقة الدستورية على إرساء توزيع أكثر برلمانية للسلطة في النظام السياسي المغربي، فإن تجربة حكومة بنكيران تبين محدودية القدرة على التغيير بواسطة الدستور. فإذا كانت الملكية البرلمانية تقتضي، من بين ما تقتضيه، انبثاق مؤسسة رئاسة الحكومة كثاني مركز ثقل للسلطة إلى جانب المؤسسة الملكية، وكتجسيد لمشروعية انتخابية قادرة خلق نوع من التوازن مع المشروعيات الأخرى، عبر توسيع هامش حركة مؤسسة الحكومة وتحديد دائرة اختصاصات خاصة بها بما يسمح بإعطاء عملها مضمونا تعاقديا (من خلال قدرتها على تنفيذ البرنامج الذي تعاقدت بشأنه مع الناخبين)، فإن تجربة حكومة الإسلاميين الأولى أظهرت أن إحداث تغيير من هذا النوع يحتاج إلى أكثر من مجرد نص دستوري. فقد تبين أن الدستور الجديد لم يكن مؤسسا على توازن جديد بين مختلف المشروعيات المتنافسة في الحقل السياسي المغربي، وأن الزخم الذي أحدثته دينامية 20 فبراير لم يكن بالقدر الكافي لتغليب كفة المشروعية الشعبية في صيغتها الانتخابية. وقد بدا رئيس أول حكومة في دستور 2011 محكوما في علاقاته مع الفاعلين في الحقل السياسي بنفس ميزان القوة الذي كانت تنتظم وفقه علاقة الوزير الأول بهؤلاء الفاعلين في ظل دستور 1996. غير أن الطريقة التي أدار بها بنكيران الصراعات التي خاضها مع خصومه وأسلوب تدبيره للعلاقة مع المؤسسة الملكية تبقى حافلة بمجموعة من العناصر التي يمكن ان تستند إليها فرضية محاولة بنكيران لعب دور المعارضة من الداخل كمنهجية لتصريف أطروحة إصلاح النظام من داخله. 1. الخطاب السياسي لبنكيران: الازدواجية كاستراتيجية للمقاومة: لقد عاب الكثير من المتابعين للحياة السياسية بالمغرب على رئيس الحكومة السابق ازدواجية خطابه، فقد كان بنكيران في نظر منتقديه يصرف خطابا منسجما مع موقعه والتزاماته كرجل دولة ورئيس حكومة خلال أيام العمل، ثم ما يلبث أن يستبدل خطاب المسؤول الحكومي بخطاب المعارض الشرس الذي يذهب إلى حد التشكيك في مصداقية النسق المؤسساتي الذي يشارك فيه. من الصعب إدراج كل التصريحات الازدواجية المثيرة للجدل؛ ولذلك سنكتفي بأكثرها إثارة للجدل على الإطلاق والتي زعم فيها رئيس الحكومة أن "في المغرب دولتين، واحدة يرأسها الملك محمد السادس والثانية لا يعرف من يرأسها...". لا شك أن هذا النهج يشكل سابقة في الحياة السياسية في المغرب، ويبقى بنكيران هو الشخص الوحيد الذي يمكنه توضيح حقيقة دوافعه في اعتماد هذا الأسلوب. غير أن وضع هذه الممارسة في سياقها السياسي والتاريخي قد تسعف الباحث في تلمس بعض العناصر لتفسيرها. من هذا المنظور، يمكن القول إن هذه الازدواجية في الخطاب هي نتيجة تفاعل واع لبنكيران مع معطيين إثنين: أولهما هو إدراكه عمق الهوة الفاصلة بين تمثل الناس لمكانة رئيس الحكومة وانتظاراتهم منه من جهة، وموقعه الحقيقي في عملية صنع السياسات من جهة أخرى. فإذا كانت الأولى تتأسس على نوع من القراءة المتفائلة لدستور 2011، وعلى الآمال العريضة التي غذتها تقوية المركز السياسي والدستوري للوزير الأول الذي أصبح نظريا على الأقل رئيسا للحكومة، فإن الثانية، أي قدرة رئيس الحكومة على التأثير في السياسات وصناعة القرار والمبادرة، ما تزال مرتهنة لميزان القوى بين مختلف الفاعلين في الحقل السياسي وشرعياتهم. أما المعطى الثاني الذي قد يكون دافعا لازدواجية الخطاب، فهو الضغط الذي وجد بنكيران نفسه في مواجهته من داخل قواعده الحزبية والمتعاطفين معه من خارج الحزب (هاجس الحفاظ على قوته التعبوية ورصيده الانتخابي)، ومن باقي الفرقاء السياسيين (تفادي فشل أول تجربة حكومية للإسلاميين). إن تضافر هذين المعطيين واصطدام بنكيران بحقيقة كون مؤسسة رئاسة الحكومة ما تزال حلقة ضعيفة في النظام المؤسساتي لدستور 2011 الذي بقي يشتغل وفقا لميزان القوة السائد في دستور 1996، ومحاولة تفادي تكرار تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي دون تجاوز الخطوط الحمراء التي يفرضها التعامل مع المؤسسة الملكية، هو ما جعله في تقديرنا يعتمد أسلوبا سياسيا يعتمد على نوع من المزج المتوازن "Dosage équilibré" بين خطاب تبريري تفرضه المشاركة في تدبير الشأن العام من جهة، وخطاب نقدي معارض يحاول أخذ مسافة عن السلطة وعدم التماهي معها من جهة أخرى. ولعل الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجية الخطابية هو إقناع الرأي العام عموما، وقاعدته الانتخابية خصوصا، بأنه لا يمارس الحكم رغم رئاسته للحكومة. 2. نزع القداسة عن الملك الدستوري دون المس بإمارة المؤمنين: لا شك أن مؤسسة إمارة المؤمنين شكلت وما تزال صمام أمان للمغرب في مواجهة العديد من النزعات المتطرفة. غير أنها في الوقت نفسه شكلت أحد أهم المؤسسات المقاومة لإعمال توزيع برلماني أكثر ديمقراطية واحتراما لفصل السلط في النظام السياسي المغربي. فإذا كان دستور 2011 قد حقق تقدما كبيرا في هذا المجال حينما فصل على مستوى النص بين صلاحيات الملك الدستوري وصلاحيات أمير المؤمنين، فإن هذا التمايز القانوني يصعب تلمس أثره في الممارسة السياسية خلال الولاية الحكومية المنتهية إلا في بعض عناصر الخطاب الذي اعتمده عبد الإله بنكيران وأسلوب إدارته لعلاقته كرئيس حكومة بالملك. وتتجلى محاولة بنكيران في التأسيس لهذا النوع من التمايز خلال تصريحه الشهير للصحافة بأنه "إنما يبحث عن رضا والدته وليس عن رضا الملك". إن مفهوم الرضا الملكي وتوظيفه في الخطاب السياسي المغربي يشكل أحد أبرز تجليات تسرب خطاطة نظام العلاقات الأبوية إلى العلاقات السياسية. فقد شكل هاجس البحث عن الرضا الملكي أو هاجس فقدانه حاجزا نفسيا أمام أغلب أفراد النخبة يمنع مأسسة العلاقة بين المؤسسات التي يمثلونها وبين المؤسسة الملكية. وبالتالي، فإن اعتماد بنكيران لهذا الخطاب يشكل اختراقا غير مسبوق. ولتفادي أي سوء فهم قد يعتري هذه النقطة، فقد كان بنكيران يصر في مناسبات عديدة على الإحالة على المرجعية الدينية في تأطير علاقته بالملك أمير المؤمنين من خلال تأكيده على مفهوم الطاعة الذي لا يتعارض وواجب إبداء النصح لأمير المؤمنين. وإذا أضفنا إلى تصور بنكيران لمفهوم الرضا الملكي، عدم تردده في التصريح بأنه يختلف مع الملك أحيانا مثلما يتفق معه أحيانا أخرى وإشراك الرأي العام في بعض ما دار بينهما، يتبين بوضوح أن مرحلة بنكيران كانت حافلة بالعديد من العناصر والرموز التي تؤشر على نوع من التحول في طبيعة العلاقة بين مؤسسة رئاسة الحكومة والمؤسسة الملكية بشكل ربما كان سيدفع نحو مزيد من مأسسة هذه العلاقة وإخراج رئاسة الحكومة من تبعيتها المطلقة للمؤسسة الملكية، لو استمر بنكيران في رئاسة الحكومة وحافظ على النهج نفسه. 3. مؤشرات على انبثاق "أنا حكومي" مستقل: إن تطعيم الدستور المغربي ببعض مظاهر النظام البرلماني لم يكن كافيا لبرلمنة "parlementarisation" النظام السياسي المغربي، في ظل غياب فصل حقيقي بين السلط بشكل عام وعدم تمايز اختصاصات كل من المؤسسة الملكية ومؤسسة الحكومة بشكل خاص. إن صعوبة انبثاق دائرة خاصة للعمل الحكومي، خاضعة للتنافس الحزبي وخارجة عن سلطة القصر، يجعل النموذج المؤسساتي المغربي بعيدا عن اعتماد نظام سلطة تنفيذية برأسين "bicéphalisme" التي لا يستقيم الحديث عن نموذج ديمقراطي مغربي بدونها. إن التعامل مع هذه المعطيات البنيوية التي يطبعها تردد الدستور وطابعه المطاطي واستمرار موازين القوى القديمة في التحكم في قراءة الدستور وتحديد العلاقات بين المؤسسات المنتخبة وباقي مراكز السلطة والنفوذ في الدولة والمجتمع يقتضي، من بين ما يقتضيه، وجود شخصية جريئة وغير مهادنة ولا متوارية في رئاسة الحكومة، وهنا تكمن الإضافة التي قدمها بنكيران خلال فترة رئاسة الحكومة. لا يتعلق الأمر هنا بمدح شخص بنكيران كما يفعل أنصاره ولا بذمه كما يفعل خصومه، بل نتوخى تحليل بعض جوانب شخصية سياسية طبعت ببصمتها مرحلة مفصلية في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب. فخلافا للوزراء الأولين الذين تعاقبوا على الحكومة خلال العقدين الأخيرين، والذين فضلوا التواري شبه التام خلف القصر، فإن مرحلة بنكيران تميزت بظهور مؤشرات قوية على انبثاق دائرة خاصة بمبادرات وتحركات الحكومة ورئيسها، وهو ما تسميه هذه الورقة ب"الأنا الحكومي" الذي تجلى في الاستعمال المكثف لعبارة أنا (أنا سأفعل، أنا أرفض، أنا أقول...) في إثارة لانتباه المواطنين والإعلام إلى مؤسسة رئاسة الحكومة التي أصبحت تحاول الانفلات من التبعية المطلقة للقصر. فبالإضافة إلى ما تقدم ذكره من محاولة إحداث تمايز داخل المؤسسة الملكية بين الملك وأمير المؤمنين، تجلى انبثاق الأنا الحكومي في نوعين من السلوكيات اعتمدها رئيس الحكومة؛ النوع الأول يمكن وصفه بالأسلوب الهجومي ويتجلى من خلال خرق العديد من القواعد غير المكتوبة التي تحكم علاقة الوزراء الأولين بالملك من قبيل إطلاع الرأي العام على مضمون لقاءاته مع الملك، أو طريقة الحديث إليه (حديثه عن النكت التي طلب من الملك أن يحكيها له)، وعنه (تصريحه أن الملك ليس إلاها، وإنما إنسان يمكن أن يخطأ ويمكن أن يصيب ويمكن أن نراجعه بكلمة ولكن بالصواب اللازم). لا شك أن هذه الأمور تبدو مجرد تفاصيل وجزئيات لا تصلح كأدلة للحديث عن تحول عميق في نمط علاقة التبعية بين الملك ورئيس الحكومة، لكنها مع ذلك تبقى ذات حمولة رمزية في غاية الحساسية بالنسبة للتصور التقليدي لعلاقة الملك بوزرائه الذي ما زال يحتكم للتقاليد والأعراف والطقوس المخزنية العتيقة أكثر مما يحتكم إلى منطق الحداثة السياسية وما تفترضه من فصل بين السلطات ومأسسة العلاقات بين الفاعلين السياسيين. 4. محاولة كشف النخب الاستراتيجية المتحكمة في السياسات: لعل أهم مؤشرات محاولة بنكيران الإصلاح من الداخل هو المواجهات القوية التي خاضها مع بعض الأشخاص أو مراكز النفوذ التي كان يعتقد أنها تقاوم ما يعتبره مشروعا إصلاحيا يحاول تطبيقه. لا يهمنا في هذا الصدد فحص صلاحية الاتهامات المتبادلة بين بنكيران وخصومه، بقدر ما تهمنا دلالات هذه المواجهات التي أدخلت إلى القاموس السياسي المغربي مجموعة من المصطلحات والتعابير التي يشكل البحث في دلالاتها أحد مفاتيح فهم علاقات السلطة وأدوار مختلف مكونات النخب المتحكمة في صنع السياسات. ومن هذا المنظور، فإن استعمال بنكيران لمصطلحات ك"التحكم" و"التماسيح والعفاريت" يشكل في نظرنا معطيات أمبريقية قد تحفز على إعادة التفكير في طريقة توظيف الباحثين لمفهوم النخبة كمدخل لفهم صناعه القرار في النسق السياسي المغربي؛ إذ يمكن اعتبار التوظيف الممنهج لمصطلحي "التحكم" و"التماسيح والعفاريت" مؤشرا على انفلات السلطة من النخب الحاكمة وفقا للدستور، ووجود نخب موازية لها غير مرئية دستوريا ومؤسساتيا تتحرك على طول المسافة الفاصلة بين موازين القوى بين الفاعلين في المؤسسات (خاصة ميزان القوى بين المؤسسات المنتخبة والمؤسسات غير المنتخبة وغيرها من مراكز النفوذ داخل المجتمع)، وبين النصوص القانونية والدستورية التي يفترض أن يحتكم لها هؤلاء الفاعلون ومؤسساتهم. إن مثل هذا الطرح يجد أسسه النظرية في التمييز الذي أبرزته بعض دراسات النخبة في الغرب بين الطبقة الحاكمة التي تتحرك بشكل ظاهري من خلال المؤسسات والنخب الاستراتيجية التي تتحرك في ما وراء الطبقة الحاكمة وعلى هامش المؤسسات، وهو التمايز الذي أبرزته الباحثة الأمريكية في دراسة النخبة Susanne keller في كتابها "Strategic Elites, Beyond the Ruling Class" الصادر في ستينيات القرن الماضي. * جامعة أبي شعيب الدكالي – الجديدة